مــــــــــــــــــــــنــــــتدى ألتــــــــــــــــــــوحيـــــــــــد
حياكم الله وبياكم في منتدى التوحيد
يسعدنا تسجيلكم ومشاركتكم اسره المنتدى
مــــــــــــــــــــــنــــــتدى ألتــــــــــــــــــــوحيـــــــــــد
حياكم الله وبياكم في منتدى التوحيد
يسعدنا تسجيلكم ومشاركتكم اسره المنتدى
مــــــــــــــــــــــنــــــتدى ألتــــــــــــــــــــوحيـــــــــــد
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

مــــــــــــــــــــــنــــــتدى ألتــــــــــــــــــــوحيـــــــــــد

حياكم الله وبياكم في منتدى التوحيد
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته,,الى اخواننا الاعضاء والمشرفين والاداريين نبلغكم بانتقال المنتدى الى الرابط التالي http://altawhed.tk/ علما ان المنتدى هذا سيغلق بعد مده نسئلكم الدعاء وننتظر دعمكم للمنتدى الجديد وفقنا الله واياكم

 

 كتاب العذر بالجهل وقيام الحجة للشيخ ابو بصير الطرطوسي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
حامل المسك1
المدير العام
المدير العام
حامل المسك1


كتاب العذر بالجهل وقيام الحجة للشيخ ابو بصير الطرطوسي    190070434
عدد المساهمات : 226
نقاط : 421
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 03/04/2011
الموقع : بلاد الرافدين

كتاب العذر بالجهل وقيام الحجة للشيخ ابو بصير الطرطوسي    Empty
مُساهمةموضوع: كتاب العذر بالجهل وقيام الحجة للشيخ ابو بصير الطرطوسي    كتاب العذر بالجهل وقيام الحجة للشيخ ابو بصير الطرطوسي    I_icon_minitimeالجمعة أبريل 08, 2011 2:39 am




بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

العذر بالجهل وقيام الحجة

تأليف
عبد المنعم مصطفى حليمة
"أبو بصير"



ـ مقدمة الطبعة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.
كنت أحسب أن مسألة " العذر بالجهل " قد حُسمت، وانتهى الجدال والخلاف فيها .. وهي لا تحتاج ـ من أهل العلم ـ إلى مزيد بحث وتقرير ..!
ولكن الواقع يدل على خلاف ذلك؛ فالمسألة لا تزال تطرح نفسها ـ وبقوة ـ على الدعوة والدعاة .. وعلى مساحة كبيرة من شباب الإسلام .. ولعل سبب ذلك يعود لأمرين:
أولهما: أهمية الموضوع من جهة ما يترتب عليه من أحكام ونتائج وتبعات على حياة الناس .. وعلى دينهم .. وعلى العلاقة المتبادلة فيما بينهم بعضهم مع بعض.
فالموضوع من هذا الوجه له علاقة مباشرة بواقع وحياة الناس .. وما يصدر عنهم من مواقف، وأقوال، وأعمال .. وبيان المعذور منهم من غير المعذور.
ثانياً: وجود فريقي الغلو والجفاء .. فريقي الإفراط والتفريط .. الذين ما فتئوا يتناولون هذا الموضوع الهام ـ وكل موضوع ـ وينأون به ـ على مذهبهم وطريقتهم ـ بعيداً عن الحق: بين الإفراط والتفريط .. بين الغلو والجفاء والإرجاء .. مما زاد الطين بلة .. والجهل جهلاً .. والانحراف انحرافاً..!
كل ذلك ولد لدينا الشعور بأهمية المسألة .. وأن الموضوع لا بد من أن يُعنى بمزيدٍ من اهتمام ذوي العلم والفضل .. أهل التوسط والاعتدال مـن
أصحاب الأقلام النظيفة الواعية ..!
كما ولَّد لدينا الشعور بضرورة إعادة طباعة كتابنا هذا " العذر بالجهل وقيام الحجة " طبعة ثانية .. منقحة ومَزِيدة بإضافات وتوضيحات اقتضتها الشبهات العديدة التي ما فتئ يطرحها فريقي الغلو والجفاء .. والفترة الزمنية الطويلة التي مضت على كتابة وإعداد هذا الكتاب؛ والتي تزيد عن عشر سنوات.
ولتحقيق مزيدٍ من النفع والفائدة ـ إن شاء الله ـ قمنا بإضافة ملحق في نهاية الكتاب يتضمن الأجوبة على الأسئلة الواردة إلينا عبر موقعنا على الإنترنت ذات العلاقة بموضوع العذر بالجهل .. وقيام الحجة.
نسأل الله تعالى السداد والتوفيق والقبول .. وأن يهدنا ويهدي بنا من أضل سواء السبيل .. إنه تعالى سميع قريب مجيب.
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلّم.

5/9/1422 هـ. عبد المنعم مصطفى حليمة
20/11/2001م. " أبو بصير "






* * *
بسم الله الرحمن الرحيم

ـ مقدمة الطبعة الأولى:
إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يُضلل فلا هادي له.
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ آل عمران:102.
 يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً النساء:1.
 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً  الأحزاب:70ـ 71 .
أمّا بعد: فإن أصدق الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هدي محمد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهمَّ ربَّ جبريل وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكمُ بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
وبعد: فمن يتابع ما كُتب مؤخراً في مسألة "العذر بالجهل"، يجد أن غالب الناس ـ كعادتهم في كثير من المسائل ـ قد ذهبوا مذهبين: مذهب يجنح إلى الإفراط والغلو والجحود .. فيجحدون مبدأ العذر بالجهل .. وينفون إمكانية وجود الجاهل المعذور لانتفاء وجود العذر بالجهل أصلاً .. مما حملهم ذلك على إصدار أحكام التكفير، والخروج من دائرة الإسلام على أناس ـ مسلمين ـ يشملهم العذر بالجهل ..!
وهؤلاء ـ سواء علموا أم لم يعلموا ـ فقد وقفوا تحت مظلة وراية الخوارج الغلاة الأوائل؛ الذين كفّروا الناس بالكبائر، وسوء الظن ..!
ومذهب آخر ـ وقف موقف النقيض ـ جنح إلى التفريط، والتمييع والجفاء .. وإعذار مالا ينبغي إعذاره .. فوسعوا ضيقاً .. وعذروا بالجهل على الإطلاق، وجعلوا الجهل مانعاً للتكفير .. ومن دون أن ينظروا إلى حال الجاهل، والسبب الذي حمله على الجهل، والمسألة التي جهل فيها .. والبيئة التي يعيش فيها .. فعذروا من لا يجوز عذره .. وأدخلوا من لا يصح إدخاله في دائرة الإسلام!
وهؤلاء ـ سواء علموا أم لم يعلموا ـ فقد وقفوا تحت مظلة وراية أهل التجهم والإرجاء، وفيهم شبه المرجئة الأوائل الذين نفوا أن يكون العمل من الإيمان !
فالمسألة ـ على كثرة ما كُتب فيها مؤخراً ـ هي بين الغالي والجاف، وبين الإفراط والتفريط .. إلا من رحم الله!
لذا رأيت ضرورةً لتبيان الحق والصواب في المسألة، متحرياً الدليل ما استطعت ـ من كتاب الله تعالى وسنة رسوله ، وفهم السلف الصالح ـ في كل ما أُثبته وأقرره، لكي تكون هذه الرسالة حجة في بابها وموضوعها .. تعيد كلاً من الغالي والجافي إلى الوسطية التي يتمثل فيها الحق والصواب إن شاء الله.
وموضوع هذه الرسالة، هو:" العذر بالجهل وقيام الحجة" يجد فيها القارئ كل ما يتعلق بمبدأ العذر بالجهل وقيام الحجة، من حيث:
- إثبات مبدأ العذر بالجهل في الشريعة، أو عدم إثباته ..!
- وفي حال يعذر بالجهل .. فمتى يعذر، ومتى لا يعذر ..؟
- وما هي مبررات العذر بالجهل، وكذلك الحالات التي لا يعذر معها بالجهل؟
- ثم ما يقال في الكافر الجاهل، هل يقال في المسلم الجاهل، أم لكل منهما حكمه الخاص به ..؟
وكذلك الحجة و قيامها، متى تقوم الحجة ومتى لا تقوم .. وبما تقوم الحجة، وصفة قيامها ..؟؟
كل ذلك ـ وغيرها من المسائل الهامة ـ سنجتهد في الإجابة عليها ـ إن شاء الله ـ في هذه الرسالة على وجه التفصيل والتدقيق الذي نراه مطابقاً للحق والصواب.
وثمة أمر ينبغي التنويه إليه في هذه المقدمة ـ قبل الشروع في تناول مسائل البحث ـ وهو أن المراد من حديثنا عن العذر بالجهل هو الجهل الذي يكون سبباً لوقوع صاحبه في الكفر أياً كان نوع هذا الكفر .. وليس الجهل في الفروع العملية أو المسائل التي لا يترتب على الجهل فيها كفر أو خروج من دائرة الإسلام .. فهذا النوع الأخير من الجهل لا يسلم منه خاصة المسلمين فضلاً عن عامتهم .. وبالتالي فهو غير معني ولا مراد من حديثنا.
وقد ثبت في الصحيحين، عن عمرو بن العاص أن النبي  قال:" إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر".
"فتبين أن الاجتهاد مع خطئه له أجر، وذلك لأجل اجتهاده، وخطؤه مغفور له، لأن إدراك الصواب في جميع أعيان الأحكام إما متعذر أو متعسر"[ ]. على الخواص فضلاً عن العوام!
 رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ البقرة:286.

أسأل الله تعالى السداد والتوفيق، والقبول .. وأن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم، وأن تكون مفاتيح خير، مغاليق شر .. إنه تعالى سميع قريب مجيب.

وصل اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم.

28 شوال – 1411 هـ. عبد المنعم مصطفى حليمة
13 أيار – 1991 م. أبو بصير




ـ قاعدة في التكفير:
قبل البدء في تناول موضوع " العذر بالجهل "، وتناول مسائله .. لا بد من توضيح قاعدة من قواعد التكفير، [ ]، تقول:" التكفير المطلق العام لا يستلزم دائماً تكفير المعين "؛ لاحتمال وجود موانع التكفير وانتفاء لوازمه.
فأن يُقال: هذا كفر، ومن اعتقد كذا أو قال كذا فقد كفر، لا يستلزم منه دائماً أن يكون صاحب هذا الاعتقاد أو القول بعينه قد كفر، لاحتمال انتفاء لوازم التكفير ووجود موانعه عند هذا الشخص المعين.
ومن أو كد موانع تكفير المعين وجود " الجهل المُعذر" عند هذا المعين، كما في صحيح مسلم وغيره، عن أبي هريرة أن رسول الله ، قال:" قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله إذا مات فحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنّه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم، فغفر الله له ".
قال النووي في الشرح: معناه أن الله قادر على أن يعذبني إن دفنتموني بهيئتي، فأما إن سحقتموني وذريتموني في البر والبحر فلا يقدر علي [ ].
فهذا رجل شك في قدرة الله .. وأن الله تعالى لا يقدر عليه إذا فُعل به ما أوصى به ـ وهذا كفر أكبر ـ لكن لجهله .. وخوفه .. قد عذره الله، فغفر له. فيقال: قول الرجل كفر، لكن هو بعينه لم يكفر لوجود مانع من موانع التكفير ألا وهو الجهل.
قال ابن تيميه في شرحه للحديث: فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يُعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك[ ].
وقد صح الحديث عن النبي  كذلك أنه قال:" أتاني جبريل فقال: يا محمد إن الله  لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، وساقيها، ومُسقيها "[ ].
وبالمقابل فقد ثبت في صحيح البخاري وغيره: أنه كان على عهد النبي  رجل يدعى حماراً وكان يشرب الخمر، وكان يُضحك رسول الله ، وكان رسول الله  قد جلده في الشراب، فأتي به يوماً، فأمر به فجُلد فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يُؤتى به! فقال رسول الله :" لا تلعنه إنه يحب الله ورسوله ".
قال ابن تيميه رحمه الله: فنهى عن لعنه مع إصراره على الشرب لكونه يحب الله ورسوله، مع أنه  لعن في الخمر عشرة. ولكن لعن المطلق لا يستلزم لعن المعين الذي قام به ما يمنع لحوق اللعنة به، وكذلك التكفير المطلق والوعيد المطلق. ولهذا كان الوعيد المطلق في الكتاب والسنة مشروطاً بثبوت شروط وانتفاء موانع[ ].
وقال: وموانع لحوق الوعيد متعددة منها: التوبة، ومنها الاستغفار، ومنها الحسنات الماحية للسيئات، ومنها بلاء الدنيا ومصائبها، ومنها شفاعـة
شفيع مطاع، ومنها رحمة أرحم الراحمين.
فإذا عُدمت هذه الأسباب كلها ولن تُعدم إلا في حق من عتا وتمرد على الله وشرد شرود البعير على أهله، فهناك يلحق الوعيد به.
ذلك أن حقيقة الوعيد: بيان أن هذا العمل سبب في هذا العذاب فيستفاد من ذلك تحريم الفعل وقبحه. أما أن كل شخص قد قام بذلك السبب، يجب وقوع ذلك المسبب به، فهذا باطل قطعاً، لتوقف ذلك على وجود الشرط وزوال جميع الموانع.
وهذه القاعدة تظهر بأمثلة، منها: أنه قد صح عن النبي  أنه قال: " لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه هم سواء" مسلم.
وصح عنه أنه قال: لمن باع صاعين بصاع يداً بيد " أوَّه، عين الربا"[ ]. كما قال " البر بالبر رباً إلا هاء وهاء"[ ].
وهذا يوجب دخول نوعي الربا ـ ربا الفضل وربا النَّسأ ـ في الحديث، ثم إن الذين بلغهم قول النبي :" إنما الربا في النسيئة " متفق عليه. فاستحلوا بيع الصاعين بالصاع يداً بيد، مثل ابن عباس رضي الله عنهما وأصحابه أبي الشعثاء وعطاء، وطاووس، وسعيد بن جبير وعكرمة، وغيرهم من أعيان المكيين الذين هم صفوة الأمة علماً وعملاً. لا يحل لمسلم أن يعتقد أن أحداً منهم بعينه، أو من قلده بحيث يجوز تقليده، تبلغهم لعنة آكل الربا، لأنهم فعلوا ذلك متأولين تأويلاً سائغاً في الجملة.
وكذلك ما نقل عن طائفة من الفضلاء المدنيين من إتيان المحاش مع ما رواه أبو داود عن النبي  أنه قال:" من أتى امرأة في دبرها فهو كافر بما أنزل على محمد ".
وكذلك قد ثبت عنه :" أنه لعن في الخمرة عشرة: عاصر الخمر، ومعتصرها، وشاربها ..." وثبت عنه من وجوه أنه قال:" كل شراب أسكر فهو خمرة " وقال:" كل مسكر خمر، وكل خمر حرام " متفق عليه.
وقد كان رجال من أفاضل الأمة ـ علماً وعملاً ـ منهم الكوفيين يعتقدون أن لا خمر إلا من العنب، وأن ما سوى العنب والتمر لا يحرم من نبيذه إلا بمقدار ما يسكر، ويشربون ما يعتقدون حله.
فلا يجوز أن يقال: إن هؤلاء مندرجون تحت الوعيد، لما كان لهم من العذر الذين تأولوا به، أو لموانع أخر.
وكذلك لا يجوز أن يقال: إن الشراب الذي شربوه ليس من الخمر الملعون شاربها. ثم إن النبي  قد لعن البائع للخمر.
وقد باع بعض الصحابة خمراً حتى بلغ عمر بن الخطاب  فقال: قاتل الله فلاناً ألم يعلم أن رسول الله  قال:" لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها"[ ].
ولم يعلم أن بيعها محرم، ولم يمنع عمر  علمه بعدم علمه أن بين جزاء هذا الذنب ليتناهى هو وغيره عنه بعد بلوغ العلم به.
وقد لعن رسول الله  العاصر والمعتصر، وكثير من الفقهاء يجوزون للرجل أن يعتصر لغيره عنباً وإن علم من نيته أن يتخذه خمراً.
فهذا نص في لعن العاصر، مع العلم بأن المعذور تخلف الحكم عنه لمانع.
وكذلك قوله :" إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار" متفق عليه.
يجب العمل به في تحريم اقتتال المؤمنين بغير حق، ثم إنا نعلم أن أهل الجمل وصفين ليسوا في النار لأن لهم عذراً وتأويلاً في القتال، وحسنات منعت المقتضى أن يعمل عمله[ ]ا-هـ.
ومن يتتبع السنة وأخبار السلف يجد كثيراً من الأحاديث والآثار التي تثبت صحة القاعدة الآنفة الذكر. لذلك نجد كثيراً من الأئمة وأهل العلم يطلقون حكم التكفير على اعتقاد أو قول، أو سلوك على وجه العموم لا التعيين، فيحمل من قبل عامة الناس على أنه تكفير للمعين، وهذا غلط شنيع ليس هو مراد الأئمة رضوان الله عليهم.
فكان الإمام أحمد يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته ـ على وجه العموم ـ لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسول  ظاهرة بينة، ولأن حقيقة أمرهم يدور على التعطيل وجحود الأسماء والصفات .. وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة، ولكن لم يكن يكفِّر أعيانهم على الإطلاق من دون النظر إلى ثبوت لوازم التكفير بحقهم وانتفاء موانعه عنهم .. فإن الذي يدعو إلى القول الكفري أعظم من الذي يقول به، والذي يعاقب عليه أعظم كفراً من الذي يدعو ويقول، ومع ذلك فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية: إن القرءان مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة، وغير ذلك. ويدعون الناس إلى ذلك ويمتحنونهم ويعاقبونهم إذا لم يجيبوهم، ويكفرون من لم يجبهم حتى أنهم كانوا إذا أمسكوا الأسير لم يطلقوه حتى يقر بقول الجهمية: بأن القرءان مخلوق وغير ذلك. ولا يولون متولياً ولا يعطون رزقاً من بيت المال إلا لمن يقول ذلك، ومع هذا فالإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ ترحم عليهم، واستغفر لهم، لعلمه بأنهم لم يكن يريدون تكذيب الرسول ، ولا الجحود بما جاء به، ولكن تأولوا فأخطأوا، وقلدوا من قال لهم ذلك .. ممن حسبوه من أهل العلم!
وكذلك الشافعي لما قال لحفص الفرد حين قال: القرآن مخلوق: كفرت بالله العظيم. بين له أن هذا القول كفر، ولم يحكم بردة حفص بمجرد ذلك، لأنه لم يتبين له الحجة التي يكفر بها، ولو اعتقد أنه مرتد لسعى في قتله[ ].
لكن قولنا أن التكفير المطلق لا يستلزم دائماً تكفير المعين؛ هذا يعني أنه أحياناً يستلزم ذلك بحسب حال المعين، فإن توفرت شروط التكفير وانتفت عنه موانعه فإنه حينئذٍ يكفر بعينه. وتفصيل هذه القاعدة تجده في كتابنا " قواعد في
التكفير" فالمسألة هناك قد أوفيناها بحثاً وتفصيلاً.
والذي دعانا هنا للتمهيد بذكر هذه القاعدة، هو أن فهمها ـ من قِبل القارئ ـ ضروري لفهم ما بعدها من فصول البحث، ولكي يتمكن من إنزال العبارات والإطلاقات ـ الواردة في هذا الكتاب ـ منزلها الصحيح، ولا يحملها ما لا تحتمل ولا يُراد.

ـ مبدأ العذر بالجهل:
قبل أن نخوض في الحديث عن الجهل الذي يعذر والجهل الذي لا يعذر لا بد أولاً من أن نثبت مشروعية العذر بالجهل من حيث المبدأ، ونجيب على سؤال يقول : هل الجهل من الأعذار المعتبرة شرعاً؟
نقول: الحمد لله رب العالمين. فقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة على اعتبار الجهل المعجز عذراً من الأعذار الشرعية التي يعذر بها المرء، وتقيل عثرته في حال وقوعه ـ بسببها ـ في الخطأ، سواء كان هذا الخطأ في المسائل الفرعية أو المسائل العملية أو كان في المسائل الأصولية العقدية .. لا فرق بين ذلك كله.
من هذه الأدلة:
1- أن التكليف الذي يحاسب عليه المرء ـ في الدنيا والآخرة ـ هو التكليف الموافق لحدود القدرة والاستطاعة، فما زاد عن حدود الاستطاعة والقدرة لا يُطالب بالإتيان به ولا يأثم على تركه، والعكس إذا حصل التقصير والإهمال فيما يستطيع المرء على إتيانه والقيام به، فهو حينئذٍ يأثم ويطاله الوعيد على تقصيره وتفريطه فيما يقدر عليه.
لقوله تعالى:  لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا  البقرة:286. وقال تعالى:  فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ  التغابن:16.
قال ابن كثير في تفسير قوله:  لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا  البقرة:286. أي لا يُكلَّف أحد فوق طاقته، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم ا- هـ .
وفي الحديث قد صح عن النبي  أنه قال:" وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم" متفق عليه.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: فإن الله تعالى يعلم أن هذا مستطيع يفعل ما استطاعه فيثيبه، وهذا مستطيع لا يفعل ما استطاعه فيعذبه، فإنما يعذبه لأنه لا يفعل مه القدرة، وقد علم الله ذلك منه، ومن لا يستطيع لا يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه[ ].
من هذه النصوص استخرجت القاعدة الفقيهة التي تقول:" الميسور لا يسقط بالمعسور ".
وقد صاغها العز بن عبد السلام بقوله: إن من كلف بشيء من الطاعات فقدر على بعضه وعجز عن بعضه، فإنه يأتي بما قدر عليه، ويسقط عنه ما عجز عنه[ ].
وعليه نقول: حيثما توجد الاستطاعة والمقدرة على التعلم وطلب العلم ودفع الجهل، يُرفع العذر بالجهل. وحيثما تعدم الاستطاعة والمقدرة على التعلم
وطلب العلم الذي يندفع به الجهل، يوجد العذر بالجهل.
قال ابن تيميه: إن العذر لا يكون عذراً إلا مع العجز عن إزالته، وإلا فمتى أمكن الإنسان معرفة الحق، فقصر فيه، لم يكن معذوراً [ ].
وهذه قاعدة يدور عليها رحى مبدأ العذر بالجهل .. وهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بجميع موانع التكفير الأخرى، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
2- قضت حكمة الله عز وجل، أن لا يعذب أحداً إلا بعد بلوغ نذارة الرسل إليه؛ فمن كان خطؤه ناتجاً عن عدم بلوغ العلم إليه؛ لا العلم يصله ولا هو يستطيع أن يصل العلم؛ كالذي يكون حديث عهد في الإسلام، أو كالذي يسكن في منطقة نائية لا تتوفر فيها العلوم الشرعية كالبادية وغيرها، فهذا لو أخطأ فإنه معذور بخطئه إلى أن تقوم عليه الحجة الشرعية وتبلغه نذارة الرسل، كما قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاًالإسراء:15.
وقال تعالى: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً النساء:165.
وقال: تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ . قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ الملك:8-9.
وقال تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي الأنعام:130.
وقال تعالى:  وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى طـه:134.
وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله  :" لا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين ".
قال ابن كثير في التفسير: إخبار عن عدله تعالى وأنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسول إليه .. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله  لا يدخل النار أحداً إلا بعد إرسال الرسول إليه [ ]ا- هـ.
وقال البغوي: وذلك أن الله تعالى أجرى السنة أن لا يأخذ أحداً إلا بعد وجود الذنب، وإنما يكون مذنباً إذا أمر فلم يأتمر أو نهي فلم ينته، وذلك بعد إنذار الرسل [ ]. وفيه دليل على أن الله تعالى لا يعذب الخلق قبل بعثة الرسول[ ]ا- هـ.
وفي تأويل قوله تعالى:  ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ الأنعام:131. قال الشوكاني: المعنى أن الله أرسل الرسل إلى عباده لأنه لا يهلك من عصاه بالكفر من القرى، والحال أنهم غافلون عن الإعذار والإنذار بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، بل إنما يهلكهم بعد إرسال الرسل إليهم ، وارتفاع الغفلة عنهم بإنذار الأنبياء لهم [ ].
قلت: إذا كان الله  لا يعذب عباده في الحياة الدنيا ـ وهو العذاب الأدنى ـ إلا بعد بلوغ نذارة الرسل إليهم .. فمن باب أولى ـ كما دلت على ذلك نصوص عدة ـ أن لا يعذبهم العذاب الأكبر يوم القيامة إلا بعد بلوغ نذارة الرسل إليهم .. فيقابلونها بالرد والإعراض.
قال الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان 2/336-338: والآيات القرآنية مصرحة بكثرة بأن الله تعالى لا يعذب أحداً حتى يقيم عليه الحجة بإنذار الرسل، وهو دليل على عدم الاكتفاء بما نصب من الأدلة، وما ركز في الفطرة، فمن ذلك قوله تعالى:  وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً فإنه قال فيها: حتى نبعث رسولاً، ولم يقل حتى نخلق عقولاً، وننصب أدلة، ونركز فطرة.
ومن ذلك قوله تعالى: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ  فصرح بأن الذي تقوم به الحجة على الناس، وينقطع به عذرهم هو إنذار الرسل، لا نصب الأدلة والخلق على الفطرة.
ومن ذلك أنه تعالى صرح بأن جميع أهل النار قطع عذرهم في الدنيا بإنذار الرسل ولم يكتف في ذلك بنصب الأدلة، كقوله تعالى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ الملك: من الآية9.
وقوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ الزمر:71.
ومعلوم أن لفظة "كلما " في قوله: كلما ألقي فيها فوج  صيغة عموم، وأن لفظة " الذين " في قوله: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواصيغة عموم أيضاً، لأن الموصول يعم كل ما تشمله صلته ا- هـ.
وقال رحمه الله 3/473: وسيق الذين كفروا  عام لجميع الكفار، وقد تقرر في الأصول: أن الموصولات كالذي والتي وفروعهما من صيغ العموم في كل ما تشمله صلاتها .. إلى أن قال: وهو ظاهر في أن جميع أهل النار قد أنذرتهم الرسل في دار الدنيا؛ فعصوا أمر ربهم كما هو واضح ا- هـ.
وفي قوله تعالى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ  قال كذلك رحمه الله ـ أي الشنقيطي ـ: هذه الآية تدل على أن الله تعالى لا يعذب بالنار أحداً إلا بعد أن ينذره في الدنيا ..
ومعلوم أن قوله جل وعلا: كلما ألقي فيها فوج  يعم جميع الأفواج الملقين في النار.
قال أبو حيان في " البحر المحيط " في تفسير هذه الآية التي نحن في صددها ما نصه: و" كلما " تدل على عموم أزمان الإلقاء فتعم الملقين ا- هـ.
قلت: والمراد بالعموم هنا؛ أي جميع من يدخلون النار ـ من أهل الكفر ـ ومن دون استثناء فإنهم يقرون ويعترفون أن نذارة الرسل قد بلغتهم فقابلوها بالرد والإعراض، والجحود .. وأنهم ما دخلوا النار إلا بعد بلوغ نذارة الرسل إليهم .. ومما يدل على ذلك قوله تعالى: وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا  أي جميع وعموم الذين اتقوا ربهم من دون استثناء .. وهي نفس صيغة العموم الواردة في قوله تعالى: وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا  فكما لا يجوز أن نقول أن المراد من قوله  وسيق الذين اتقوا ..  بعض أو غالب الذين اتقوا وليس كل الذين اتقوا، كذلك لا يجوز أن نقول أن المراد من قوله تعالى  وسيق الذين كفروا ..  بعض أو غالب الذين كفروا؛ لتطابق الآيتين واللفظين من حيث صيغة العموم العامة والشاملة لجميع الذين اتقوا وجميع الذين
كفروا.
قال الألوسي في التفسير: واستدل بالآية على أنه لا تكليف قبل الشرع لأنهم وبخوهم بكفرهم بعد تبليغ الرسل للشرائع وإنذارهم .. وقيل وجه الاستدلال: إن الخطاب للداخلين عموماً يقتضي أنهم جميعاً أنذرهم الرسل، ولو تحقق تكليف قبل الشرع لم يكن الأمر كذلك ا- هـ.
وكذلك قوله تعالى: قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ. قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ قّ:28. أي قدمت إليكم بالوعيد والنذر عن طريق رسلي الذين أرسلتهم إليكم .. قبل أن تقفوا هذا الموقف العصيب الأليم، وتختصموا فيه .. وبالتالي فإن اختصامكم وتلاومكم الآن ـ وبعد أن فات الأوان ـ لا ينفعكم في شيء.
قال ابن جرير: وقد قدمت إليكم  في الدنيا قبل اختصامكم هذا بالوعيد لمن كفر بي وعصاني وخالف أمري ونهيي، في كتبي وعلى ألسن رسلي.
قال ابن عباس: إنهم اعتذروا بغير عذر، فأبطل الله حجتهم، ورد عليهم قولهم [ ].
وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ . قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ غافر:49-50.
قوله تعالى: وقال الذين في النار ..  هي أيضاً من صيغ العموم التي تفيد الاستغراق والعموم التي تعم جميع الذين في النار؛ أي قال جميع الذين في النار ومن دون استثناء  بلى  قد جاءتنا رسلنا بالبينات والنذر والآيات..!
قال الألوسي في التفسير: وقال الذين في النار  من الضعفاء والمستكبرين جميعاً لما ضاقت بهم الحيل، وعيت بهم العلل .. ا- هـ.
وكذلك قوله تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ الأنعام:130.
قوله تعالى: وقالوا شهدنا على أنفسنا  أي شهدوا على أنفسهم أن حجة الرسل قد بلغتهم .. وهذا خطاب موجه لجميع الإنس والجن يفيد كذلك العموم لا الغالب؛ لأن الجمع المعرف بأل يفيد العموم والاستغراق؛ أي جميع الجن والإنس يعترفون ويقرون بأن نذارة الرسل قد بلغتهم.
قال ابن كثير في التفسير: شهدنا على أنفسنا أي أقررنا أن الرسل قد بلغونا رسالاتك وأنذرونا لقاءك، وأن هذا اليوم كائن لا محالة ا- هـ.
قال ابن تيميه: من الناس من يكون جاهلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً يُعذر به، فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة كما قال تعالى: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ . وقال تعالى:  وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً .
ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، أو لم يعلم أن الخمر يحرم، لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا، بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية ..
والصحيح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية أ ن الخطاب لا يثبت في حق أحد قبل التمكن من سماعه، وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيراً مما بعث الله به رسوله ولا يكونه هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر ولهذا اتفق الأئمة على أنه من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام فأنكر شيئاً من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره، حتى يعرف ما جاء به الرسول[ ].
وقال ابن حزم في الأحكام 5/104-114: وأما شرائع الأبدان والاعتقاد فإنها تجب بوجهين: أحدهما البلوغ مبلغ الرجال والنساء، وهو البلوغ المخرج عن حد الصبا، والثاني بلوغ الشريعة إلى المرء.
وأما الحدود فإنها تلزم من عرف أن الذي فعل حرام، وسواء علم أن فيه حداً أم لا، وهذا لا خلاف فيه. وأما من لم يعرف أن ما عمل حرام فلا حد عليه فيه، وبرهان ذلك قوله تعالى: ْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغالأنعام:19.
فإنما جعل الله تعالى وجوب الحجة ببلوغ النذارة إلى المرء، وقال تعالى:  وأعرض عن الجاهلين . فأمر أن يهدر فعل الجاهل، إلى أن قال: أما من لم يبلغه ذكره ، فإن كان موحداً فهو مؤمن على الفطرة الأولى صحيح الإيمان لا عذاب عليه في الآخرة، وهو من أهل الجنة، وإن كان غير موحد فهو من الذين جاء النص بأنه يوقد له يوم القيامة نار، فيؤمرون بالدخول فيها، فمن دخلها نجا، ومن أبى هلك. قال الله عز وجل:  وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاًالإسراء:15. فصح أنه لا عذاب على كافر أصلاً حتى تبلغه نذارة الرسول  ا- هـ.

يتبع


اخوكم
ابو عزام الانصاري
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حامل المسك1
المدير العام
المدير العام
حامل المسك1


كتاب العذر بالجهل وقيام الحجة للشيخ ابو بصير الطرطوسي    190070434
عدد المساهمات : 226
نقاط : 421
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 03/04/2011
الموقع : بلاد الرافدين

كتاب العذر بالجهل وقيام الحجة للشيخ ابو بصير الطرطوسي    Empty
مُساهمةموضوع: كتاب العذر بالجهل وقيام الحجة للشيخ ابو بصير الطرطوسي   كتاب العذر بالجهل وقيام الحجة للشيخ ابو بصير الطرطوسي    I_icon_minitimeالجمعة أبريل 08, 2011 2:43 am

بسم الله الرحمن الرحيم

3- ومن الأدلة الدالة على العذر بالجهل أيضاً، خطاً الحواريين – في أول عهدهم – وجهلهم بصفة ربهم أنه تعالىعلى كل شيء قدير، وكذلك شكهم بمصداقية نبوة عيسى عليه ، كما أخبر الله تعالى عن قولهم : إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ المائدة:113.
قال ابن جرير: في قوله تعالى:  قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ، قال عيسى للحوارين: راقبوا الله أيها القوم، وخافوا أن ينزل بكم من الله عقوبة على قولكم هذا، فإن الله لا يعجزه شيء أراده، وفي شكهم في قدرة الله على إنزال مائدة من السماء كفر به، فاتقوا الله أن ينزل بكم نقمته إن كنتم مؤمنين، يقول: إن كنتم مصدقي على ما أتوعدكم به من عقوبة الله إياكم على قولكم  هل يستطيع ربك  .
وفي قوله : ونعلم أن قد صدقتنا ، قال: فقد أنبأ هذا عن قولهم أنهم لم يكونوا يعلمون أن عيسى قد صدقهم، ولا اطمأنت قلوبهم إلى حقيقة نبوته، فلا بيان أبين من هذا الكلام في أن القوم كانوا قد خالط قلوبهم مرض وشك في دينهم وتصديق رسولهم، وأنهم سألوا ما سألوا من ذلك اختباراً [ ].
وقال ابن حزم: فهؤلاء الحواريون الذين أثنى الله  عليهم قد قالوا بالجهل لعيسى  هل يستطيع ربك أن يُنزل علينا مائدة من السماء ؟!
ولم يبطل بذلك إيمانهم وهذا مالا مخلص منه وإنما كانوا يكفرون لو قالوا
ذلك بعد قيام الحجة وتبيُّنهم لها [ ] .
فرغم أن الشك في أن الله  على كل شيء قدير هو كفر، وكذلك الشك بمصداقية نبي الله، إلا أن الحوارين لم يكفروا وعذروا بالجهل لحداثة عهدهم بالإسلام وبنبيهم عيسى .
4- وكذلك الذين قالوا ـ من بني إسرائيل ـ لموسى :  اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَالأعراف:138. أي تجهلون عظمة الله وجلاله وما يجب أن ينزه عنه من الشريك والمثيل [ ]. لأجل ذلك لم يكفروا ولم يأمر موسى  بقتلهم أو استتابتهم من الردة، رغم أن قولهم وسؤالهم موسى أن يجعل لهم إلهاً مع الله كفر بواح لا شك فيه.
ونظير قولهم قول جهال المسلمين لرسول الله  : اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط!! وتمام الحديث كما في صحيح سنن الترمذي وغيره، عن واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله ، إلى حنين ونحن حديثو عهد بكفر، وكانوا أسلموا يوم فتح مكة، قال: فمررنا بشجرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فلما قلنا ذلك للنبي  قال:" الله أكبر، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى:  اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون  لتركبن سنن من كان قبلكم ".
فرغم أن قولهم قول كفري وهو شبيه بقول بني إسرائيل  اجعل لنا إلهاً  إلا أنهم لم يكفروا بأعيانهم لجهلهم وحداثة عهدهم بالإسلام .
ومما يستفاد من الحديث أيضاً " أن من أراد أن يفعل الشرك جهلاً فنهي
عن ذلك فانتهى لا يكفر "[ ]، ومن نهي عنه فلم ينته رغم قيام الحجة عليه فإنه يكفر.
5- ومنها أيضاً، قصة الرجل الذي أسرف على نفسه، فأمر أهله عند الممات أن يسحقوه ويذروا نصفه في البر ونصفه في البحر،ظناً منه أن الله لن يقدر على جمعه وإعادته لو فعل به ذلك، وهذا كفر، لكن لجهله وخشيته من الله فقد عفى الله عنه.
قال ابن تيميه: والحديث صريح في أن الرجل طمع أن لا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى هذا أن يكون شاكاً في المعاد، وذلك كفر إذا قامت حجة النبوة على منكره حكم بكفره .. فغاية ما في هذا أنه كان رجلاً لم يكن عالماً بجميع ما يستحقه الله من صفات، وبتفصيل أنه القادر، وكثير من المؤمنين قد يجهل مثل ذلك فلا يكون كافراً[ ].
وقال ابن حزم: فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله  يقدر على جمع رماده وإحيائه، وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله. وقد قال بعض من يحرف الكلم عن مواضعه أن معنى لئن قدر الله علي؛ إنما هو لئن ضيق الله علي، كما قال تعالى:  وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه . وهذا تأويل باطل لا يمكن لأنه كان يكون معناه حينئذ لئن ضيق الله علي ليضيقن علي، وأيضاً فلو كان هذا لما كان لأمره بأن يحرق ويذر رماده معنى، ولا شك في أنه إنما أمر بذلك ليفلت من عذاب الله تعالى[ ].
قلت هذا التأويل الباطل للحديث ـ الذي يشير إليه ابن حزم ـ يتبناه من لا يرى الجهل عذراً في الشريعة مطلقاً، ظناً منه أن ذلك يبطل الاستدلال بالحديث على مبدأ العذر بالجهل !
قال ابن القيم: وأما جحد ذلك جهلاً، أو تأويلاً يعذر فيه صاحبه أو تأويلاً يعذر فيه صاحبه، فلا يكفر صاحبه به، كحديث الذي جحد قدرة الله عليه، وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح، ومع هذا فقد غفر الله له ورحمه لجهله، إذ كان ذلك الذي فعله مبلغ عمله، ولم يجحد قدرة الله على إعادته عناداً أو تكذيباً[ ].
فإن عرفت ـ من خلال ما تقدم من أقوال أهل العلم ـ أن المانع من كفر ذلك الرجل الذي أمر أبناءه بأن يحرّقوه .. كان الجهل والخشية .. فلك أن تعجب من كلام الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ عندما جعل المانع من كفر ذلك الرجل هو أنه لم يكن كفره الذي تلفظ به وأمر به أبناءه معقوداً أو مقصوداً في القلب، حيث قال كما في شريطه الكفر كفران:" هذا الرجل حينما ظهر منه أنه ينكر قدرة الله على جمعه، وعلى بعثه ثم على تعذيبه بناء على أنه لم يعمل خيراً قط، لما ظهر منه هذا، هذا كفر، إذاً ما جوابنا على قوله تعالى: ويعفر ما دون ذلك لمن يشاء ، وهذا كفره ومع ذلك قد غفره ؟ الجواب: أنه كفر لم يكن مقصوداً في القلب، لم يكن معقوداً في القلب .." ا- هـ.
قلت: ومرد هذا التفسير الخاطئ للشيخ هو فساد أصوله في الإيمان والوعد والوعيد .. كما بيناه ورددنا عليه في كتابنا " الانتصار لأهل التوحيد .."، وغيره من الأبحاث ذات العلاقة بالموضوع.
6- ومن الأدلة كذلك على العذر بالجهل، حديث عدي بن حاتم  حيث قال: أتيت رسول الله  وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي:" يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك "، فطرحته فلما انتهيت إليه وهو يقرأ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ، حتى فرغ منها، قلت: إنا لسنا نعبدهم، فقال:" أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويُحلون ما حرم الله فتستحلونه "، قلت: بلى، قال:" فتلك عبادتهم "[ ].
يُستفاد من الحديث الفوائد التالية:
1- أن عدي بن حاتم  جاء النبي  مسلماً مقراً بالشهادتين .. لأنه كان قبل ذلك مهدور الدم، وما عصم دمه إلا إسلامه.
2- أن عدياً كان قد تنصر، وكان حديث عهد بالكفر؛ أي أنه كان عاجزاً عن معرفة كل ما يدخل في التوحيد ومتطلباته من أيامه الأولى من لإسلامه؛ أي أنه كان معذوراً بالجهل ..
3- بسبب ما تقدم فقد وقع عدي  بنوعين من الشرك الأكبر، كل واحد منهما يُخرج صاحبه من الملة لو اقتُرف من غير جهل بالنص الشرعي الذي يفيد التحريم، لكن عدياً لم يكفر بعينه لمانع الجهل المعتبر بالخطاب الشرعي:
أولهما: ارتداؤه الصليب .. وهذا شرك أكبر، لذا سماه النبي  بالوثن الذي يُعبد من دون الله  .. ومع ذلك فقد اكتفى النبي  بأن قال لعدي:" اطرح هذا الوثن من عنقك "، من دون أن يحكم عليه بعينه أنه كافر أو قد كفر وارتد، وعليه أن يدخل الإسلام من جديد بتلفظ الشهادتين ..
ثانياً: أن عدياً كان يجهل أن طاعة الأحبار والرهبان في التحليل والتحريم من دون سلطان من الله .. يدخل في معنى العبادة التي لا يجوز أن يُصرف منها شيء لغير الله تعالى، وأنه من الشرك الأكبر .. إلى أن بين له النبي  ذلك، وعلمه أن طاعة الأحبار والرهبان، والتحاكم إليهم من دون الله تعالى في التحليل والتحريم هو عبادة لهم وشرك بالله تعالى .. ومن دون أن يحكم عليه بالكفر والارتداد، أو يُلزمه بضرورة تجديد إسلامه وإيمانه ..!
ونحو ذلك سجود الصحابي للنبي  ظناً منه أن ذلك يجوز أن يُصرف للنبي  .. لكن النبي  نهاه عن ذلك واكتفى بتعليمه بأن السجود عبادة وهو لا يجوز أن يُصرف إلا لله  وحده .. ومن دون أن يحكم عليه بالكفر والارتداد!
وأيضاً عندما حلف عمر بن الخطاب  بأبيه، فنهاه الرسول  عن ذلك وبين له أن من كان حالفاً فليحلف بالله، وإلا فليصمت[ ].
فرغم أن الحلف بغير الله شرك، كما في الحديث:" من حلف بغير الله فقد أشرك "، إلا أن عمر  لم يكن يعلم وقتها أن الحلف بغير الله تعالى من الشرك .. لأجل ذلك فقد عُذر.
وكذلك قول الصحابي للرسول : ما شاء الله وشئت ! فقال له رسول الله :" أجعلتني لله نداً بل ما شاء الله وحده ".
فرغم أن المقولة كفر وشرك إلا أن الصحابي لجهله وعدم علمه أن هذه
هذه المقولة تندرج تحت الشرك، كان بذلك معذوراً ولم يكفر بعينه.
وكذلك النفر من الصحابة – وعلى رأسهم قدامة بن مظعون – الذين تأولوا قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ المائدة:93.[ ] فقالوا ليس علينا جناح لو شربنا الخمر؛ لأننا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات .. فشربوها واستحلوا شربها، وهذا كفر لاستحلالهم ما حرم الله تعالى، إلا أنهم لم يكفروا بأعيانهم قبل القيام الحجة عليهم، لوجود التأويل والجهل بسبب نزول الآية، وظنهم أن الآية يستفاد منها إباحة الخمر لمطلق من آمن وعمل الصالحات[ ].
فهذه القصة ـ وجميع ما تقدم من أدلة ـ تصلح كدليل على العذر
بالجهل المعجز الذي لا يمكن دفعه إلا ببلوغ الخطاب الشرعي.
قال ابن تيميه رحمه الله في الفتاوى 7/605: وأما الفرائض الأربع فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة فهو كافر، وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواترة تحريمها كالفواحش، والظلم، والكذب، والخمر، ونحو ذلك.
وأما من لم تقم عليه الحجة، مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الإسلام ونحو ذلك، أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر، وأمثال ذلك فإنهم يُستتابون وتقام الحجة عليهم، فإن أصروا كفروا حينئذٍٍِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك، كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيه من التأويل ا- هـ.
وكذلك الصحابي الذي أهدى للنبي  خمراً، فهذا قطعاً كان يعتقد حلها ـ وهذا كفر ـ إلا أنه كان يجهل أن الله قد حرمها، لذلك عذره الرسول  لجهله بالتحريم، وبين له حرمتها من دون يوبخه أو يكفره، بل اكتفى بتعليمه فقال له:" هل علمت أن الله  حرمها؟"[ ].
6- ومن الأدلة أيضاً، قوله  :" يَدْرِسُ الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يُدرى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله  في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة، لا إله إلا الله، فنحن نقولها.
قال صلة بن زفر لحذيفة – وهو راوي الحديث – ما تغني عنهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثاً، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة، فقال: يا صلة تنجيهم من النار، ثلاثاً[ ].
من فقه الحديث: الإعذار بالجهل، فلا إله إلا الله تنجيهم لأنهم جهال لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة، وهم يقولون لا إله إلا الله تقليداً وتبعاً لآبائهم .. لأنهم يعيشون في زمان رُفعت فيه الشريعة، واندرست فيه جميع تعاليم الإسلام، حتى شهادة أن محمداً رسول الله![ ].
ومعلوم أن من كان هذا هو حاله، لو كان يعيش في مجتمع استفاضت فيه تعاليم الإسلام وسهل فيه طلب العلم لمن يريد، ومن اليسير عليه أن يعبد الله تعالى بما فرض عليه، وبالصورة الصحيحة المشروعة .. ثم هو مع ذلك لا يأتي بشهادة أن " لا إله إلا الله" إلا لفظاً وتقليداً للآباء، من دون أن يعي متطلباتها أو يأتي بشيء من فرائض الإسلام وواجباته .. فإن من كان هذا هو حاله ووصفه لا تنفعه لا إله إلا الله ولا تنجيه، لانعدام العذر؛ وهو الجهل المعجز وعدم التمكن من العلم.
لذا من الخطأ الشنيع الاستدلال بالحديث على الأزمنة والأمكنة التي استفاضت فيها العلوم الشرعية وسهل فيها طلب العلم لمن نشده وأراده .. كما هو حال أهل التجهم والإرجاء، ومن تأثر بمنهجهم الفاسد، ويُقال: من أتى بلا إله إلا الله لفظاً وتقليداً للآباء، فإنها تنفعه وتنجيه من النار، وإن لم يأت بشيء من أركان وواجبات الإسلام، ولا حتى بشيء من متطلبات التوحيد وشروطه ..!
ومن الاستدلالات الفاسدة للشيخ ناصر بهذا الحديث انتصاراً لمذهبه الفاسد في الإيمان، قوله في السلسلة 1/130: هذا وفي الحديث فائدة فقهية هامة، وهي أن شهادة أن لا إله إلا الله تنجي قائلها من الخلود من النار يوم القيامة ولو كان لا يقوم بشيءٍ من أركان الإسلام الخمسة الأخرى كالصلاة وغيرها .. فهذا نص من حذيفة  على أن تارك الصلاة، ومثلها بقية الأركان ليس بكافر، بل هو مسلم ناج من الخلود في النار يوم القيامة، فاحفظ هذا فإنه قد لا تجده في غير هذا المكان!"ا- هـ.
قلت: تعميم العذر على كل زمان ومكان خطأ ظاهر وهو بخلاف ما يدل الحديث عليه من حصر العذر لأناس معينين لهم صفات معينة، وفي زمان معين اندرست فيه تعاليم الإسلام ..!
كما أن هذا التعميم في العذر ـ لكل أحد وفي كل زمان ومكان ـ لم يقل به سلف معتبر .. وقد صدق الشيخ لما قال:" احفظ هذا فإنه قد لا تجده في غير هذا المكان " لأنه قول محدث غريب لم يقل به السلف ولا عالم معتبر .. وهو بخلاف ما تدل عليه ألفاظ الحديث، ومهما قلبت صفحات كتب السلف الصالح وأقوالهم فإنك لن تجد هذا القول الذي قاله الشيخ ناصر .. لشذوذه وغرابته، وبعده عن دلالات نصوص وروح الشريعة!
وردنا على الشيخ هو قول النبي  كما في الصحيحين:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد ". وقوله :" وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ".
7- ومنها ـ أي من جملة الأدلة على العذر بالجهل ـ الحديث الذي يرويه الأسود بن سريع، عن النبي ، قال:" أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة. فأما الأصم فيقول ربِّ لقد جاء الإسلام ولم أسمع شيئاً، وأما الأحمق فيقول: رب جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، والصبيان يحذفونني بالبعر. وأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام ولم أعقل شيئاً. وأما الذي مات في الفترة. فيقول: رب ما أتاني لك رسول.
فيأخذ مواثيقهم ليطيعنَّه، فيرسل إليهم: أن ادخلوا النار، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن لم يدخلها سحب إليها" [ ].
فهؤلاء الأربعة جميعهم يحتجون بالجهل، وأنهم كانوا عاجزين عن تحصيل العلم أو الوقوف عليه .. وإن كان جهل كل واحد منهم له سببه المختلف عن الآخر، إلا أن صفة الجهل مشتركة فيما بينهم لعدم تمكنهم من طلب العلم وفهمه أو إدراكه.
لذلك فالله تعالى يقبل ـ كرماً وتفضلاً منه  ـ عذرهم ـ وكيف لا وهو  لا أحد أحب إليه العذر من الله تعالى ـ ويجري لهم اختباراً في عرصات يوم القيامة .. فمن كان في علم الله  أنه لو بلغته نذارة الرسل كان سيؤمن ويُتابع الرسل، ويعمل صالحاً، ييسر له أمره إلى النجاة، ومن ثم إلى الجنة. ومن كان في علم الله تعالى أنه لو بلغته نذارة الرسل كان سيقابلها بالرد والإعراض والجحود، ييسر له أمره إلى الهلاك والعذاب في نار جهنم .. وكل ميسر لما خلق له.
واعتراض البعض على صحة الحديث، لاعتبار أن دار الآخرة دار جزاء وحساب لا دار تكليف واختبار .. لا حجة لهم في ذلك.
وقد كفانا ابن القيم ـ رحمه الله ـ مؤنة الجواب، بعد أن ذكر الحديث وطرقه، فقال: فهذه الأحاديث يشد بعضها بعضاً وتشهد لها أصول الشريعة وقواعدها، والقول بمضمونها هو مذهب السلف والسنة، نقله عنهم الأشعري رحمه الله في المقالات وغيرها. فإن قيل: قد أنكر ابن عبد البر هذه الأحاديث وقال: أهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب، لأن الآخرة ليست دار عمل ولا دار ابتلاء، وكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك في وسع المخلوقين، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها؟
فالجواب من وجوه: أحدها: أن أهل العلم لم يتفقوا على إنكارها بل ولا أكثرهم وإن أنكرها بعضهم فقد صحح غيره بعضها كما تقدم. والثاني: أن أبا الحسن الأشعري حكى هذا المذهب عن أهل السنة والحديث، فدل على أنهم ذهبوا إلى موجب هذه الأحاديث. الثالث: أن إسناد حديث الأسود أجود من كثير من الأحاديث التي يحتج بها في الأحكام. الرابع: أنه قد نص جماعة من الأئمة على وقوع الامتحان في الدار الآخرة، وقالوا: لا ينقطع التكليف إلا بدخول دار القرار ذكره البيهقي عن غير واحد من السلف. الخامس: ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد في الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولا إليها، أن الله  يأخذ عهوده ومواثيقه أ ن لا يسأله غير الذي يعطيه، وأنه يخالفه ويسأله غيره، فيقول الله تعالى: " ما أغدرك ". السادس: قوله: وليس ذلك في وسع المخلوقين. جوابه من وجهين: أحدهما، أن ذلك ليس تكليفاً بما ليس في الوسع، وإنما هو تكليف بما فيه مشقة شديدة وهو كتكليف بني إسرائيل قتل أولادهم وأزواجهم وآبائهم حين عبدوا العجل، وكتكليف المؤمنين إذا رأوا الدجال ومعه مثال الجنة والنار أن يقعوا في الذي يرونه ناراً. الثاني: إنهم لو أطاعوه ودخلوها لم يضرهم، وكانت برداً وسلاماً، فلم يكلفوا بممتنع ولا بما لم يُستطع.
السابع: إنه قد ثبت أنه  يأمرهم في القيامة بالسجود ويحول بين المنافقين وبينه، وهذا تكليف بما ليس في الوسع قطعاً .. كما جعل قطع الصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف سبباً، كما قال: أبو سعيد الخدري: " بلغني أنه أدق من الشعرة وأحد من السيف" رواه مسلم.
فركوب هذا الصراط الذي هو في غاية المشقة كالنار، ولهذا كلاهما يفضى منه إلى النجاة والله أعلم.
الثامن: إن هذا استبعاد مجرد لا ترد بمثله الأحاديث .. فإن قيل: فالآخرة دار جزاء وليست دار تكليف، يمتحنون في غير دار التكليف؟ فالجواب: إن التكليف إنما ينقطع بعد دخول القرار، وأما في البرزخ وعرصات يوم القيامة فلا ينقطع، وهذا معلوم بالضرورة من الدين من وقوع التكليف بمسألة الملكين في البرزخ وهي تكليف، وأما في عرصة القيامة فقال تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ . فهذا صريح في أن الله  يدعو الخلائق إلى السجود يوم القيامة، وأن الكفار يحال بينهم وبين السجود إذ ذاك، ويكون هذا التكليف بما لا يطاق حينئذ حساً عقوبة لهم، لأنهم كلفوا به في الدنيا وهم يطيقونه فلما امتنعوا منه وهو مقدور لهم كلفوا به وهم لا يقدرون عليه حسرة عليهم وعقوبة لهم [ ] ا- هـ.
ثم إن الاختبار الذي يجرى للأربعة الذين جاء ذكرهم في الحديث الآنف الذكر، مناسب من حيث صعوبة التكليف لما يحصل لهم من الإيمان واليقين القوي ـ الذي لا يلامسه أدنى شك ـ نتيجة رؤيتهم عين اليقين للآيات الباهرات يوم القيامة.
ومن كان بهذا اليقين ليس من الصعب أو المستحيل عليه أن يختبر في دخول النار طاعة وامتثالاً لأمر الله.
بل في الدنيا حصل أن بعض الصحابة ـ وهم لم يروا شيئاً من أهوال وآيات يوم القيامة ـ هموا بأن يلقوا بأنفسهم في النار طاعة لأميرهم، لولا أن تداركتهم رحمة الله تعالى فامتنعوا، وعلموا أن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وقد قال لهم رسول الله  بعد أن قصوا له ما حدث لهم:" لو دخلتموها لما خرجتم منها ".
فإذا كان مثل هذا يحصل في الدنيا .. وكاد الوقوع في النار أن يقع طاعة لأمر الأمير الذي هو عبد من عباد الله، فإنه لا يصح أن يُعتبر الاختبار ـ الذي يُجرى لذوي الأعذار الوارد ذكرهم في الحديث ـ يوم القيامة تكليفاً مستحيلاً، وغير ممكناً وهو فوق الطاقة .. مع العلم أن الآمر يومئذ هو الله  المطاع لذاته .
ـ خلاصة القول: بعد ذكر النصوص والأدلة الصحيحة الآنفة الذكر، ذات العلاقة بموضوع العذر بالجهل .. فقد ثبت لدينا بما لا يدع مجالاً للشك أو التساؤل، أن الجهل إذا توفرت دواعيه وأسبابه المعتبرة التي لا يمكن دفعها، فإنه يُعتبر في الشريعة الإسلامية عذراً يعذر صاحبه، ويُقيل عثرته، ويمنع عنه نزول العذاب والوعيد إلى أن تقوم عليه حجة الرسل، وتصله نذارتهم.
كما أن في الأدلة والشواهد الآنفة الذكر .. القدر الكافي لحسم شبهات المخالفين الذين لا يرون الجهل عذراً .. والحمد لله الذي تتم بفضله الطيببات الصالحات.
ـ تنبيه:
ممن لا يرون الجهل عذراً شرعياً، يفرقون بين الجهل في مسائل الأصول أو العقائد؛ وهو ما يعلم من الدين بالضرورة. وبين الجهل في مسائل الفروع أو المسائل العملية الغير معلومة من الدين بالضرورة.
ويقولون: من كان جهله في مسائل الأصول ـ أياً كان سبب جهله والظروف المحيطة به ـ لا يُعذر بالجهل مطلقاً؛ لأنه محجوج من جهة حُجج أخرى غير حجة نذارة الرسل .. أما من كان جهله في الفروع أو المسائل العملية .. فهو معذور بالجهل إلى أن تقوم عليه الحجة الشرعية من جهة نذارة الرسل.
أقول: هذا التفريق في الجهل إلى نوعين، جهل في الفروع يعذر وجهل في الأصول لا يعذر، لا أصل له عند السلف، وهو باطل يعلم بطلانه من سياق الأدلة الآنفة الذكر في إثبات شرعية العذر بالجهل، حيث اتضح أن الجهل حيثما وجدت أسبابه ودواعيه التي لا يمكن دفعها يعذر صاحبه، سواء كان جهله في المسائل الأصولية العقدية أو كان في مسائل الفروع العملية.
ومما يُرد به على هذه الشبهة:
1- أنه قول يعوزه الدليل من الكتاب والسنة .. فمثل هذا التقسيم لا يمكن إقراره، والقول به إلا بدليل صريح من الكتاب والسنة.
2- أن الأدلة من الكتاب والسنة التي تعذر بالجهل ـ الآنفة الذكر ـ
جاءت عامة لجميع أنواع الجهل، من دون تفريق بين جهل وجهل، وتخصيصها بنوع من الجهل دون نوع يحتاج لدليل مخصص، وأنَّى ..!
3- أن من الأدلة الآنفة الذكر جاءت كدليل صريح على العذر في مسائل الأصول كما في حديث عدي بن حاتم، وغيره ..!
4- أنه قول محدث مردود لم يقل به الصحابة ولا السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، وهو قول مأثور عن المعتزلة وغيرهم من أهل البدع والأهواء .. وعن بعض ممن تأثر بهم ـ وهو لا يدري ـ من أهل العلم ..!
ولشيخ الإسلام كلام مفيد في المسألة يحسن ذكره، حيث قال: أما التفريق ين نوع وتسميته مسائل الأصول وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع، فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان ولا أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم، وهو تفريق متناقض، فإنه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطئ فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فإن قال مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد ومسائل الفروع هي مسائل العمل. قيل له: فتنازع الناس في محمد  هل رأى ربه أم لا؟ وفي أن عثمان أفضل من علي، أم علي أفضل؟
وفي كثير من معاني القرآن، وتصحيح بعض الأحاديث هي من المسائل الاعتقادية العلمية، ولا كفر فيها بالاتفاق. ووجوب الصلاة والزكاة والحج وتحريم الفواحش والخمر هي مسائل عملية، والمنكر لها يكفر بالاتفاق.
وإن قال: الأصول هي المسائل القطعية، قيل له: كثير من مسائل العمل قطعية، وكثير من مسائل العلم ليست قطعية، وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية، وقد تكون المسألة عند رجل قطعية لظهور الدليل القاطع له، كمن سمع النص من رسول الله ، وتيقن مراده منه، وعند رجل لا تكون ظنية فضلاً عن أن تكون قطعية لعدم بلوغ النص إياه. أو لعدم ثبوته عنده، أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته.
وقال: فإن السلف أخطأ كثير منهم في كثير من هذه المسائل، واتفقوا على عدم التكفير بذلك، مثل ما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع نداء الحي، وأنكر بعضهم رؤية محمد ربه، ولبعضهم في الخلافة والتفضيل كلام معروف، وكذلك لبعضهم في قتال بعض، ولعن بعض، وإطلاق تكفير بعض، أقوال معروفة.
وكان القاضي شريح ينكر قراءة من قرأ:  بَلْ عَجِبْتَ  ويقول: إن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال: إنما شريح شاعر يعجبه علمه. كان عبد الله أفقه منه، فكان يقول:بل عجبت  فهذا قد أنكر قراءة ثابتة، وأنكر صفة دل عليها الكتاب والسنة، واتفقت الأمة على أنه إمام من الأئمة.
وكذلك بعض السلف أنكر بعضهم حروف القرآن، مثل إنكار بعضهم قوله:  أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا  وقال: إنما هي أولم يتبين الذين آمنوا. وإنكار الآخر قراءة قوله: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وقال: : إنما هي ووصى ربك. وبعضهم كان حذف المعوذتين، وآخر يكتب سورة القنوت. وهذا خطأ معلوم بالإجماع والنقل المتواتر، ومع هذا فلما لم يكن قد تواتر النقل عندهم بذلك لم يكفروا، وإن كان يكفر بذلك من قامت عليه الحجة بالنقل المتواتر.
وأيضاً فإن الكتاب والسنة قد دل على أن الله لا يعذب أحداً، إلا بعد إبلاغ الرسالة، فمن لم تبلغه جملة لم يعذبه رأساً، ومن بلغته جملة دون بعـض
التفصيل لم يعذبه إلا على إنكار ما قامت عليه الحجة الرسالية[ ]ا- هـ.
قلت: ولكن الذي يمكن قوله، إن الجهل إذا عدمت دواعيه وتوفرت عوامل دفعه، من استفاضة للعلم الصحيح، وتواجد العلماء وغير ذلك، فإن الجهل فيما يجب تعلمه؛ كمتطلبات التوحيد ونواقضه، وكذلك ما هو معلوم من الدين بالضرورة واستفاض العلم فيه بين الناس كوجوب الصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، وكذلك تحريم الفواحش كالزنى والخمر وغير ذلك، فإن جاهل هذه الأمور ـ مع انعدام دواعي الجهل ومبرراته ـ لا يعذر بالجهل، بينما يعذر لو جهل بعض المسائل العملية الفرعية التي لا يجب تعلمها على جميع أفراد الأمة، والجهل فيها لا يترتب عليه إثم أو كفر وخروج من دائرة الإسلام.
في مثل هذا الموضوع لا بد من التفريق، ليس بين مسائل عقيدة ومسائل عملية، وإنما بين ما يجب تعلمه على كل فرد من أفراد الأمة، وبين مالا يجب تعلمه على جميع أفراد الأمة حيث يجزئ فيه علم الخاصة عن العامة، لذلك نقول: جاهل ما يجب عليه تعلمه ـ إذا عدمت أسباب ودواعي الجهل ـ لا يعذر بالجهل، بينما الآخر يعذر إلى أن يتعين بحقه طلب العلم[ ].
ومن فرق من أهل العلم بين جهل يعذر وجهل لا يعذر هو على اعتبار مدى استفاضة العلم وسهولة طلبه والوقوف عليه لمن أراده .. وليس على اعتبار التفريق بين مسائل ومسائل .. فتراهم يقررون أن جاهل مسألة من المسائل لا يُعذر فيها بالجهل؛ لا لكون هذه المسألة من الأصول أو غير ذلك .. وإنما لكون هذه المسألة قد استفاض العلم بها استفاضةً مما يُرجح الظن باستحالة وجود الجاهل الذي يمكن أن يُعذر بالجهل في هذه المسألة..!
وفي المقابل تراهم يعذرون بالجهل في مسائل قد تكون من الأصول .. ولها مساس بالتوحيد .. لكثرة الجدال حولها .. ولرجحان الظن لديهم بإمكانية وقوع الخطأ أو الجهل المعذر فيها من بعض أفراد الأمة ..!
فالعلة التي تحملهم على التفريق بين مسألة ومسألة هو بالنظر إلى واقع كل مسألة ومدى احتمال حصول الجهل فيها .. ويتم ذلك بالنظر إلى جوانب عدة منها: طبيعة المسألة ذاتها هل يُحتمل فيها الجهل .. أم أن العلم فيها قد استفاض استفاضة يمنع من العذر بالجهل فيها..؟!
وهل هي من المسائل الكلامية الخفية والمحدثة .. أم أنها غير ذلك؟!
وهل هي من المسائل المحكمات .. التي لا تقبل إلا قولاً واحداً، وفهماً واحداً .. أم أنها من المسائل المتشابهات التي تحتمل أوجهاً من التفسيرات والتعليلات ..؟!
ومنها: النظر إلى البيئة .. هل هي بيئة علم .. يكثر فيها العلماء .. ويسهل فيها تحصيل العلم لمن ينشده .. أم أنها بيئة جهل وبدعة يكثر فيها أهل البدع والأهواء .. تحتمل إمكانية حصول الجهل بمثل هذه المسألة ..؟!
ومنها: النظر إلى الشخص ذاته .. هل هو من ذوي الكفاءات العقلية والعلمية المتقدمة .. أم أنه متخلف في ذلك .. وهل هو حديث عهد بالكفر أم لا .. وهل يملك القدرة على الطلب وشد الرحال أم لا .. وهل هو ممن يُحسنون العربية ـ لغة القرآن والسنة ـ أم لا ..؟!
فكل هذه الأوجه مجتمعة هي معتبرة عند أهل العلم عند تحديدهم لمن يعذر بالجهل ممن لا يُعذر .. والمسألة التي يُعذر فيها بالجهل من المسألة التي لا يُعذر فيها .. والله تعالى أعلم.

* * *
بعد أن أثبتنا بالأدلة مبدأ العذر بالجهل، وذكرنا أنه لا يوجد فرق بين جهل الأصول وجهل الفروع ـ من حيث العذر ـ إذا وجدت مبررات الجهل ودواعيه وأسبابه، وقبل أن نخوض في الحديث ـ على وجه التفصيل ـ عن مبررات الجهل ودواعيه، وبيان الجهل الذي يعذر وحالاته، والجهل الذي لا يعذر وحالاته، لا بد من التفريق ـ عند الحديث عن كل ذلك ـ بين الكافر الجاهل والمسلم الجاهل، حيث لكل منهما حالته المختلفة عن الآخر وبالتالي حكمه المختلف عن الآخر، وليس كل ما يصح أن يقال في الكافر الجاهل يصح أن يُقال ويحمل على المسلم الجاهل.
وإليك تفصيل ذلك:
ـ الكافر الجاهل.
اعلم أنه ما من مولود إلا ويولد على فطرة الإسلام، وملة التوحيد .. فالتوحيد فيه أصل فطره الله عليه، والشرك طارئ عليه مكتسب.
كما قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَالروم:30.
قال مجاهد:" فطرة الله" الإسلام. وكذلك قال ابن يزيد وابن عكرمة وغيرهم من أهل التأويل [ ]. وفي قوله تعالى: لا تبديل لخلق الله  قال ابن عباس، وإبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير، ومجاهد وعكرمة، وقتادة، والضحاك، وابن زيد: أي لدين الله.
وقال البخاري: قوله: لا تبديل لخلق الله لدين الله، خلق الأولين: دين الأولين، والدين الفطرة: الإسلام[ ].
وفي الحديث الصحيح الذي يرويه مسلم وغيره، عن أبي هريرة  قال:قال رسول الله :" ما من مولود إلا يولد على الفطرة. فأبواه يهودانه، أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟". ثم يقول أبو هريرة : و اقرؤوا إن شئتم  فطرة الله فطر الناس عليها لا تبدل لخلق الله، وفي رواية " حتى تكونوا أنتم تجدعونها ". أي تغيرون من خلقتها السوية فتجدعونها بالوشم والبتك، كما قال تعالى:  فليبتكن آذان الأنعام النساء:119. كذلك توحيد الله والإيمان به تعالى فهو أصل فُطر عليه الإنسان، إلا أن شياطين الإنس والجن تجتاله عن دينه الإسلام وتحرفه إلى الشرك.
كما في الحديث:" إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم ".
قال ابن تيميه: والإجماع والآثار المنقولة عن السلف لا تدل إلى على القول الذي رجحناه وهو أنهم على الفطرة ثم صاروا إلى ما سبق في علم الله فيهم من سعادة وشقاوة لا يدل على أنهم حين الولادة لم يكونوا على فطرة سليمة مقتضية للإيمان ومستلزمة له لولا العارض[ ] .
ثم إن الناس بعد ذلك فريقان، لا ثالث لهما: فريق كافر، وفريق مسلم، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ التغابن:2.
قال ابن عباس: إن الله خلق بني آدم مؤمناً وكافراً، ويعيدهم في يوم القيامة مؤمناً وكافراً[ ].
والكافر: هو كل من أشرك مع الله آلهة أخرى، ولم يرض بالإسلام ديناً، كما قال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍالمائدة:72.
وقال تعالى:إن الدين عند الله الإسلام آل عمران:19. وقال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَآل عمران:85.
وكل كافر يطلق عليه ـ في الدنيا ـ حكم الكفر ويأخذ صفته، أياً كان سبب كفره سواء كان كفره ناتجاً عن عناد أو كبر أو إعراض أو جهل، فالكافر الجاهل ـ الذي لم تصله نذارة الرسل ـ لا يمنع جهله من أن يطلق عليه في الدنيا حكم الكفر ويأخذ صفته. كما قال تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَالتوبة:6.
فوصفهم الله تعالى بالشرك رغم أنهم قوم جهلة لا يعلمون.
قال ابن جرير في التفسير: يقول تفعل ذلك بهم من إعطائك إياهم الأمان، ليسمعوا القرءان، وردك إياهم، إذا أبوا الإسلام، إلى مأمنهم، من أجل أنهم قوم جهلة لا يفقهون عن الله حجة، ولا يعلمون مالهم بالإيمان بالله لو آمنوا، وما عليهم من الوزر والإثم بتركهم الإيمان بالله[ ].
قال ابن قيم: الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله  لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول. هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه. هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر: فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم[ ].
لكن مما ينبغي الانتباه له، أن ما يميز الكافر الجاهل ـ لنذارة الرسل ـ عن غيره ممن كان كفره ناتجاً‌ عن عناد أو إعراض .. أن الأول لا تجوز مبادأته بالقتال أو الاعتداء على شيء من حرماته، قبل دعوته وإيصال نذارة الرسل إليه .. وقبل ذلك لا يشرع قتاله، ولا الاعتداء عليه في شيء.
كما في صحيح مسلم وغيره، عن سلمان بن بريدة عن أبيه، قال: كان رسول الله  إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال:" اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدة، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكُّف عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن أجاوبك فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم".
وعن سهل بن سعد أنه سمع النبي  يوم خبير، فقال:" أين علي "؟ فقيل إنه يشتكي عينيه، فأمر فدعى له فبصق في عينيه، فبرأ مكانه حتى كأن لم يكن به شيء، فقال:علي : نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال:"على رسلك حتى تنزل بساحتك ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فوالله لأن يهتدي بك رجل واحد خير لك من حمر النعم "متفق عليه.
وعن فروة بن مسيل قال: قلت يا رسول الله أقاتل بمقبل قومي و مدبرهم؟ قال:" نعم "، فلما وليت دعاني، فقال:" لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام"[ ].
وعن ابن عباس: ما قاتل رسول الله  قوماً قط إلا دعاهم[ ].
قال الشوكاني: فيه دليل على وجوب تقديم الدعاء الكفار إلى الإسلام قبل المقاتلة، وفي المسألة ثلاث مذاهب: الأول: أنه يجب تقديم الدعاء للكفار إلى الإسلام من غير فرق بين من بلغته الدعوة منهم ومن لم تبلغه وبه قال: مالك والهادوية وغيرهم وظاهر الحديث معهم. والمذهب الثاني: أنه لا يجب مطلقاً. والمذهب الثالث: أنه يجب لمن لم تبلغه الدعوة ولا يجب إن بلغتهم لكن يستحب، قال ابن المنذر: وهو قول جمهور أهل العلم وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة
على معناه وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف من الأحاديث[ ].
قلت: والصواب منها، المذهب الثالث الذي قال عنه ابن المنذر أنه قول جمهور أهل العلم؛ وذلك لأنه قد صح عن النبي  أنه قد أغار على بني المصطلق وهم غارُّون[ ]. وأنعامهم تُسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وأصاب يومئذٍ جويرية بنت الحارث. متفق عليه.
وهذا يحمل على أن الدعوة بلغت بني المصطلق من قبل فجحدوها وردوها، عندها أغار عليهم رسول الله  من دون نه يعلمهم أو ينذرهم.
وفي صحيح البخاري، عن أنس بن مالك  قال:" كان رسول الله  إذا غزا قوماً لم يغز حتى يصبح، فإن سمع أذاناً أمسك وإن لم يسمع أذاناً أغار بعدما يُصبح ".
فانتظار رسول الله  للأذان دلالة صريحة على أن الدعوة قد بلغتهم من قبل، فإذا لم يسمع أذاناً أغار على القوم وفاجأهم من دون سابق إعلام أو إنذار قريب.
لكن هناك سؤال يرد، وهو هل الدعوة يجب أن تبلغ جميع أفراد المعسكر الكافر ـ قادة وجنوداً ـ بأعيانهم حتى يشرع قتالهم في حال ردهم وجحودهم للدعوة؟ أم أنه يكفي إيصال الدعوة وقيام الحجة على قادتهم ورؤسائهم دون جنودهم؟
أقول: الصواب الذي دلت عليه السنة، هو أنه يكفي لقتال المشركين
أن تبلغ الدعوة لقادتهم وزعمائهم، فإن جحدوها وقابلوها بالرد والإعراض،
قوتلوا جميعاً هذا ما كان يفعله الرسول  عندما أرسل الرسل إلى ملوك وقادة الكفار ليبلغهم دعوته ورسالته، فكان يكتفي بتوجيه الكتب إلى القادة والزعماء دون الجند والعامة، ورسالته  على هرقل عظيم الروم معروفة وهي مدونة في كتب الصحاح، جاء فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و  قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ آل عمران:64.
فاعتبر رسول الله  قيام الحجة على هرقل ملك الروم، هو قيام للحجة على أمته ورعيته وجنده . ورد الحجة وجحودها من قبل ملكهم مبرر كاف لقتال كل من ينضوي تحت سلطانه من بني الأصفر وغيرهم.
وعن أنس ، أن نبي الله  كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي، وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه رسول الله  " مسلم.
فواضح من الحديث أن رسول ، كان يكتفي لقيام الحجة على أمة من الأمم بأن يوجه كتبه ورسائله إلى ملوك ورؤساء تلك الأمم دون أفراد رعاياهم بأعيانهم.
لذلك أقول: رد الحجة ونذارة الرسل من قبل زعماء الكفار ورؤسائهم مبرر كاف لقتالهم وقتال جندهم وأقوامهم الذين هم تحت سلطانهم ـ كما قاتل الرسول  أهل الروم وغيرهم ـ على أنهم كفار رادون لدعوة الرسل، وهم في الآخرة في نار جهنم خالدين فيها أبدا، وكذلك على العموم لا التعيين [ ] لاحتمال وجود بعض الأفراد الذين لم تصلهم دعوة الرسل، وقد سيقوا للقتال وهم يجهلون حقيقة الأسباب التي لأجلها يقاتلون المسلمين. فمثل هؤلاء رغم أنهم يقاتلون على أنهم كفار إلا أنهم يوم القيامة يعتبرون من أهل الفترة الذين يحتجون بالجهل لعدم بلوغ نذارة الرسل إليهم، حيث يجري اختبار لهم في عرصات يوم القيامة كما جاء في حديث الأربعة الذين يحتجون يوم القيامة، وهم: الأصم، والأحمق، والهرم، ورجل مات في فترة.
لكن مما ينبغي الانتباه له هنا، هو أنه لا يجوز تعيين أحد بعينه على أنه من أهل الفترة المعذورين الذين لم تصلهم نذارة الرسل، ولم تقم عليهم حجج الله تعالى. فهذا مالا علم لنا به ولا إحاطة، وهو من الأمور المجهولة ـ بالنسبة لنا ـ التي يفوض أمرها إلى الله ، ولا ينبغي لمؤمن الخوض فيما ليس من
خصوصياته، ولم يُحط به علماً.
وكذلك لاحتمال وجود من بلغته نذارة الرسل، فآمن وصدق، لكن كان من المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة، فأكره على الخروج لمقاتلة المسلمين ومثل هذا يقاتل لظاهره.
كما في حديث الذي يرويه ابن عباس، قال: قال رسول الله  للعباس ابن عبد المطلب حين انتهى به إلى المدينة: افد نفسك وابن أخيك عقيل ابن أبي طالب ونوفل بن حارث وحليفك عتبة بن عمرو بن جحدم، فإنك ذو مال. فقال: يا رسول الله إني كنت مسلماً، ولكن القوم استكرهوني، فقال:" الله أعلم بإسلامك إن تكن ما تذكر حقا فالله يجزيك به، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا فافد نفسك "[ ]. فاعتبر الرسول الله  ظاهره، وهو وقوفه في صف الكفار ضد المسلمين، لذلك عامله معاملة بقية الأسرى الكفار وأمره بالفداء رغم
ادعائه أنه مسلم.
ولكن ذاك المكره المشار إليه آنفاً، لو قتل فهو يبعث على نيته. كما في الحديث الصحيح الذي يرويه البخاري وغيره، قال رسول الله : " العجب أن ناساً من أمتي يؤمُّون هذا البيت حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم " فقلنا: يا رسول الله إن الطريق قد تجمع الناس؟ قال:" نعم فيهم المستصبر والمجبور وابن السبيل، يهلكون مهلكاً واحداً ويصدرون مصادر شتى يبعثهم الله على نياتهم ".
ومن حديث أم سلمة: فقلت يا رسول الله فكيف بمن كان كارهاً؟ قال:" يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته ".
قال ابن حجر في الفتح 13/61: والحاصل أنه لا يلزم من الاشتراك في الموت الاشتراك في الثواب والعقاب، بل يجازى كل أحد بعمله على حسب نيته.
ـ خلاصة القول: أن الكافر الجاهل المعذور بالجهل الذي لم تبلغه نذارة الرسل .. رغم حكمنا عليه بالكفر، وتسميتنا له بالكافر إلا أن ذلك لا يستلزم منا أن نجزم له بالعذاب يوم القيامة .. كما لا يعني أن نبادئه ـ في الحياة الدنيا ـ بالقتال أو بأي نوع من أنواع الاعتداء .. قبل أن تبلغه نذارة الرسل .. والله تعالى أعلم.
ـ صفة الكافر الجاهل الذي يُعذر بالجهل.
يتصف الكافر الجاهل الذي يُعذر بالجهل بثلاث صفات، إن انتقصت واحدة منهن، رُفع عنه العذر بالجهل، وهي:
أولاً: أن يكون جهله من جهة عدم بلوغ نذارة الرسل إليه، ومن كان كذلك فهو معذور بالجهل إلى أن تقوم عليه حجة الرسل وتصله نذارتهم.
لقوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً الإسراء:15.
قال الشوكاني في كتابه فتح القدير: ذكر أنه لا يُعذب عباده إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال رسله، وإنزال كتبه، فبين سبحانه أنه لم يتركهم سدى، ولا يؤاخذهم قبل إقامة الحجة عليهم، والظاهر أنه لا يعذبهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال الرسل ا- هـ.
وقال ابن كثير في التفسير: قوله تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاًً  إخبار عن عدله تعالى وأنه لا يُعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسول إليه .. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى لا يدخل أحداً النار إلا بعد إرسال الرسول إليه ا- هـ.
وقال ابن الجوزي في زاد المسير  حتى نبعث رسولاً  أي حتى نُبين ما به نُعذب، وما من أجله نُدخله الجنة.
قال القاضي أبو يعلى: في هذا دليل على أن معرفة الله لا تجب عقلاً، وإنما تجب بالشرع، وهو بعثة الرسل، وأنه لو مات الإنسان قبل ذلك، لم يُقطع عليه بالنار .. ا- هـ.
وقال البغوي في التفسير: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ، إقامة للحجة وقطعاً للعذر، وفيه دليل على أن ما وجب وجب بالسمع لا بالعقل ا- هـ.
وقال الشنقيطي: ظاهر هذه الآية الكريمة أن الله جل وعلا لا يعذب أحداً من خلقه لا في الدنيا ولا في الآخرة حتى يبعث رسولاً ينذره ويحذره فيعصي ذلك الرسول، ويستمر على الكفر والمعصية بعد الإنذار والإعذار [ ]ا- هـ.
وقال ابن حزم: قال الله : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاًً  فصح أنه لا عذاب على الكافر أصلاً حتى تبلغه نذارة الرسول  .. [ ]. وغيرهم كثير من أهل العلم الذين يقررون أن لا عذاب أحد إلا بعد بلوغ نذارة الرسل .. ومقابلتها بالرد والإعراض، والجحود.
ومن الأدلة كذلك قوله تعالى:وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَالزمر:71.
وقال تعالى:  قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا
فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ غافر:50. وقال تعالى: تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ الملك:8-9.
فدلت الآية أن كل من يدخل النار من الكفار فقد أقيمت عليه حجة الرسل وبلغته نذارة الرسل من قبل .. وقد تقدم ذكر أقوال بعض أهل العلم في تفسير هذه الآيات.
وقال تعالى:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حامل المسك1
المدير العام
المدير العام
حامل المسك1


كتاب العذر بالجهل وقيام الحجة للشيخ ابو بصير الطرطوسي    190070434
عدد المساهمات : 226
نقاط : 421
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 03/04/2011
الموقع : بلاد الرافدين

كتاب العذر بالجهل وقيام الحجة للشيخ ابو بصير الطرطوسي    Empty
مُساهمةموضوع: كتاب العذر بالجهل وقيام الحجة للشيخ ابو بصير الطرطوسي   كتاب العذر بالجهل وقيام الحجة للشيخ ابو بصير الطرطوسي    I_icon_minitimeالجمعة أبريل 08, 2011 2:49 am

فدلت الآية أن كل من يدخل النار من الكفار فقد أقيمت عليه حجة الرسل وبلغته نذارة الرسل من قبل .. وقد تقدم ذكر أقوال بعض أهل العلم في تفسير هذه الآيات.
وقال تعالى: ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَالأنعام:131.
قال ابن جرير في التفسير:  بظلم  أي بشرك من أشرك، وكفر من كفر من أهلها  وأهلها غافلون  يقول: لم يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم رسلاً تنبههم على حجج الله عليهم، وتنذرهم عذاب الله يوم معادهم إليه، ولم يكن بالذي يأخذهم غفلة، فيقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير[ ].
قال ابن حزم: فنص الله تعالى على أن النذارة إنما تلزم من بلغته وأنه تعالى لا يعذب أحداً إلا بعد إرسال الرسل.
فصح بهذا أن من لم تبلغه الدعوة إما لانقزاح مكانه وإما لقصر مدته إثر مبعث النبي ، فإنه لا عذاب عليه ولا يلزمه شيء، وهذا قول جمهور أصحابنا[ ].
وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "والذي نفسي
محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار".
مفهوم الحديث أن من مات ولم يسمع بالرسول  ولا بدعوته، فهو ليس من أصحاب النار، حيث له شأن آخر يوم القيامة، كما جاء في حديث صاحب الفترة الذي يقول:" ربي ما أتاني لك رسول ". فيرسل له الله تعالى أن ادخل النار فإن دخلها كانت بردً وسلاماً، وإن لم يدخلها سحب إليها.. كما تقدم معنا في الحديث الذي رواه أسود بن سريع عن الأربعة الذين يحتجون يوم القيامة.
ثانياً: أن يكون جهله بنذارة الرسل عن عجزٍ لا يمكن له دفعه .. وهذا يلزمه بأن لا يقصر في بذل جهد يستطيعه لمعرفة دعوة الرسل وما جاءوا به، أما إن كان جهله بنذارة الرسل عن عجز لا يمكن دفعه فهو معذور بالجهل إلى أن تقوم عليه الحجة التي ترفع عنه العجز فيما قد جهل فيه.
أما إن كان جهله بدعوة الرسل ونذارتهم ناتج عن تقصير منه، وعن سبب هو يستطيع دفعه وتفاديه، لكنه شحاً بالدنيا وملذاتها لا يكلف نفسه هذا الجهد، فمثل هذا لا يعذر بجهله لنذارة الرسل، وهو مثله مثل من بلغته النذارة فجحدها .. وآثر الركون إلى الدنيا عليها.
قال تعالى: لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا البقرة: 233.
وقال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ البقرة:286.
وقال تعالى: لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا الأعراف:42.
وقال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا التغابن:16. وقال تعالى:  لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً الطلاق:7.
فمن شروط التكليف ـ أيَّاً كان هذا التكليف ـ الاستطاعة وانتفاء العجز، فإن انتفت الاستطاعة وتحقق العجز رُفع التكليف بدلالة النصوص، واتفاق جميع أهل العلم.
قال ابن حزم: من بلغه أن محمداً  دعا إلى أشياء ذكر أن ربه تعالى أمره بها، فواجب عليه حيث ما كان البحث عما دعا إليه. فإذا أخبره مخبر بأنه  أخبر بأنه رسول لزمه الإقرار، فإن لم يفعل فقد حقت عليه كلمة العذاب ولا عذر بشيء من أشغال الدنيا لمن بلغه ذلك في اشتغاله عن البحث[ ].
وقال ابن القيم: وأما العاجز عن السؤال والعلم الذي لا يتمكن من العلم بوجه فهم قسمان أيضاً: أحدهما مريد للهدى مؤثر له محب له، غير قادر عليه وعلى طلبه لعدم من يرشده، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات ومن لم تبلغه الدعوة. الثاني: معرض لا إرادة له ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه. فالأول يقول: يا رب لو أعلم لك ديناً خيراً مما أنا عليه لدنت به وتركت ما أنا عليه، ولكن لا أعرف سوى ما أنا عليه ولا أقدر على غيره، فهو غاية جهدي ونهاية معرفتي. والثاني: راضٍ بما هو عليه لا يؤثر غيره عليه ولا تطلب نفسه سواه، ولا فرق عنده بين حال عجزه و قدرته، وكلاهما عاجز، وهذا لا يجب أن يلحق بالأول لما بينهما من الفرق. فالأول كمن طلب الدين في الفترة ولم يظفر به فعدل عنه بعد استفراغ الوسع في طلبه عجزاً وجهلاً، والثاني كمن لم يطلبه بل مات على شركه وإن كان لو طلبه لعجز عنه، ففرق بين عجز الطالب وعجز المعرض فتأمل هذا الموضع[ ].
ثالثاً: أن لا يتكلف ما ليس له به علم ولا سلطان أو برهان؛ كأن ينكر أن يكون للوجود خالقاً أو يبتدع آلهة تعبد من دون الله، أو ينكر البعث، أو يقول إن الملائكة بنات الله وغير ذلك من الأمور التي لا تليق بالجاهل المتوقف الباحث عن الحق.
إذ أن الجاهل ـ صاحب الفترة ـ من شأنه الاجتهاد والبحث عن الحق، وكل ما يمكن أن يقوم به أن لا يأتي بالتوحيد على الوجه المطلوب.
كما جاء في السيرة عن زيد بن عمرو بن نفيل، وكان قد فارق دين قومه فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان، ونهى عن قتل المؤودة، وقد بادى قومه بعيب ما هم عليه. وكان يقول: يا معشر قريش، والذي نفسي زيد بن عمرو بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري، ثم يقول: اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به، ولكني لا أعلمه، ثم يسجد على راحته[ ].
وكذلك ما حصل لسلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ وقصته مشهورة في كتب السنن والسير، كيف كان قبل إسلامه يرفض المجوسية وعبادة النار، وكان يسعى جهد وسعه لمعرفة الدين الحق، فيسأل عن أعلم أهل الأرض ليشد إليه الرحال حتى يتعلم منه ويصيب منه الحق، إلى أن وصل به الترحال إلى الاهتداء إلى رسولنا ونبينا محمد  ودخل دين الإسلام.
هذا الذي يليق بالجاهل ـ صاحب الفترة ـ أن يفعله، أما أن يبتدع آلهة مع الله وأموراً ليس له فيها علم ولا برهان .. ولا تناسب مقامه كجاهل .. فمثل هذا على الراجح أنه سيسأل عن تكلفه وابتداعه وسيُحاسب عليه .. والله تعالى أعلم.
قال تعالى:وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَالزخرف:19.
وقال تعالى:وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ الجاثـية:24.
وقال تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ. وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍالمطففين:12.
وقال تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَالمؤمنون:117.
وفي قوله تعالى:وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا، قال ابن الوزير اليماني: في هذه الآية وما في معناها في السمع حجة على أن ما لم يبينه الله تعالى سمعاً لم يعذب المخطىء فيه إن شاء الله تعالى. لكن يخشى على من خاض فيما لم يبينه الله أن يعذب على الابتداع [ ].
وفي الحديث فقد صح عن النبي  أنه قال:" القضاة الثلاثة. اثنان في النار وواحد في الجنة، رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل جار في الحكم فهو في النار "[ ].
قلت: القاضي الجاهل الذي يقضي للناس عن جهل هو في النار، لأنه تكلف مالا ينبغي له، وكان مقامه المناسب له يقتضي منه أن يحجم عن القضاء بين الناس فيما ليس له به علم؛ لأنه جاهل وجاهل الشيء لا يمكن أن يعطيه.
وإذا كان هذا هو حال من يتكلف القضاء ـ عن جهل ـ بين الناس، فما يكون القول فيمن يتكلف الحكم على الغيب ـ من دون علم ولا برهان ـ ويحكم أن لله شركاء وبنات وأن لا بعث ولا نشور، وأن الحياة مادة ولا موجد للوجود .. وغير ذلك من الأمور التي لا تليق بالجاهل المتوقف والباحث عن الحق من ذوي الفترات ؟!!
فهذا قد جمع في حكمه وقوله على الله بغير علم بين الجهل والجور وهو لا شك أنه أشد جرماً وإثماً، وأولى بالحساب وبالنار، ممن يقضي في شؤون الناس عن جهل .. والله تعالى أعلم.
وفي صحيح مسلم، عن جندب، أن رسول الله  حدث:" أن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله قال: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك ".
تأمل كيف أن هذا الرجل تكلف ما ليس له به علم، وخاض فيما لا ينبغي له الخوض فيه، فحلف بالله أن الله لا يغفر لفلان ـ و كأنه اطلع على علم الله به، وعرف ما في نفسه !! ـ فأحبط الله عمله، وكان ذلك سبباً كافياً لخسران دنياه وآخرته ..!



* * *
ـ أهل الفترة:
أهل الفترة قسمان: قسم تأتي فترتهم من جهة انقطاع الرسل، وطول الفترة بينهم وبين من أرسل إلى من قبلهم، ولكن بلغتهم نذارة الرسل، وهؤلاء ـ رغم انقطاع الرسل عنهم ـ لا يعذرون بالجهل، وهم محجوجون بنذارة الرسل الذين أرسلوا إلى من قبلهم.
وقسم آخر تأتي فترتهم من جهة عدم بلوغ نذارة الرسل إليهم .. ومن جهة انقطاع النذارة عنهم .. وهؤلاء هم الذين يعذرون بالجهل، وإن لم يكن بينهم وبين إرسال الرسل فترة طويلة.
فالعبرة في اعتبار أهل الفترة المعذورين عدم بلوغ نذارة الرسل وليس طول الفترة بين الرسول والرسول، أو بينهم وبين إرسال الرسول[ ].
ـ أهل الفترة قبل بعثة النبي :
لاشك أن من كان قبل بعثة النبي ، يعتبر من أهل الفترة، بدليل قوله
تعالى:  ُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ السجدة: 3.
والمراد بالقوم أهل الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام، قاله ابن عباس ومقاتل[ ].
وقال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌالمائدة:19.
قال القرطبي في قوله" على فترة من الرسل " أي سكون. وقيل: على انقطاع ما بين النبيين ا- هـ.
لكن هل كانوا من أهل الفترة المعذورين لعدم بلوغ نذارة الرسل إليهم، أم أنهم كانوا من أهل الفترة من جهة انقطاع الرسل عنهم مع بلوغ النذارة إليهم ؟
أقول: الراجح الذي دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة، أن فترتهم كنت من جهة انقطاع الرسل، وليس من جهة انقطاع وانعدام نذارة الرسل.
قال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَآل عمران:103.
في قوله: وكنتم على شفا حفرة من النار قال ابن عباس: أي وكنتم على طرف حفرة من جهنم إذ لم يكن بينكم وبينها إلا الموت، فأنقذكم منها
أي بمحمد [ ].
وقال ابن جرير الطبري: وكنتم على طرف جهنم بكفركم الذي كنتم عليه قبل أن ينعم الله عليكم بالإسلام، فتصيروا بائتلافكم عليه إخوانا، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على ذلك من كفركم، فتكونوا من الخالدين فيها، فأنقذكم بالإيمان الذي هداكم له.
وعن السُّدي: كنتم على طرف النار من مات منكم أوبق في النار، فبعث الله محمداً  فاستنقذكم به من تلك الحفرة[ ].
قال الشافعي رحمه الله: فكانوا قبل إنقاذه إياهم بمحمد ، أهل كفر في تفرقهم واجتماعهم، يجمعهم أعظم الأمور: الكفر بالله، وابتداع ما لم يأذن به الله، تعالى عما يقولون علواً كبيراً، لا إله غيره، وسبحانه وبحمده رب كل شيء وخالقه، من حي منهم فكما وصف حاله حياً: عاملاً قائلاً بسخط ربه، مزداداً من معصيته، ومن مات فكما وصف قوله وعمله: صار إلى عذابه[ ] .
قال ابن كثير: كانوا على شفا حفرة من النار بسبب كفرهم فأنقذهم الله منها أن هداهم للإيمان[ ].
قلت: كونهم كانوا على الكفر قبل بعثة النبي ، ولم يكن بينهم وبين دخولهم النار سوى الموت، لهو دليل كاف أن نذارة من تقدم من الرسل قد بلغتهم لأنه لا يدخل النار إلا من قامت عليه حجة الرسل كما سبق أن بينا ذلك، وأن فترتهم كانت من جهة انقطاع الرسل، وليس من جهة عدم بلوغ نذارة الرسل إليهم.
وقد صح عن النبي  أنه قال:" فضَّل الله قريشاً بسبع خصال، فضلهم بأنهم عبدوا الله عشر سنين، لا يعبد الله إلا قريش، وفضلهم بأنهم نصرهم يوم الفيل وهم مشركون .."[ ].
دل أن قريشاً كانت قبل بعثة النبي  على الشرك المستوجب للنار، كما دل أن الفترة التي ظهر فيها الإسلام في مكة ـ وهي الفترة المكية ـ لم يكن على وجه الأرض من يعبد الله على الوجه الصحيح، غير قريش .. ممن آمن منهم واتبع النبي الأمي .
وفي الحديث القدسي كما في صحيح مسلم:" إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ..".
والبقايا من أهل الكتاب هم الذين كانوا على التوحيد، وحافظوا على دينهم الحق ولم ينحرفوا مع المنحرفين عن جادة التوحيد. وقوله:" فمقتهم عربهم وعجمهم "، دليل أنهم كانوا مشركين الشرك الذي يستوجب المقت والعذاب .. وليسوا من أهل الفترة المعذورين.
وفي الصحيح أيضاً، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟
قال:" لا ينفعه، إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ".
قلت: كون ذلك لا ينفع ابن جدعان، لأنه لم يقل في حياته قط:" رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين "، دل على أمرين: أنه وقومه ليسوا من أهل الفترة المعذورين .. وإن كانوا من أهل الفترة من جهة انقطاع الرسل عنهم.
ثانياً: أن حجة ونذارة الرسل قبل نبينا  ـ وبخاصة إبراهيم  ـ قد بلغته؛ لأن هذه الكلمات التي ألزمه بها النبي  وعلل عذابه بسبب أنه لم يقلها لا يمكن لابن جدعان أن يعرفها إلا عن طريق الرسل.
ولما افترض فيه أنه كان ينبغي أن يقول تلك الكلمات وأمثالها .. لكنه أبى وأعرض واستكبر .. فحق عليه العذاب بسبب ذلك.
وفي الحديث الذي يرويه جابر قال:دخل النبي  يوماً نخلاً لبني النجار، فسمع أصوات رجال من بني النجار ماتوا في الجاهلية يُعذبون في قبورهم، فخرج رسول الله  فزعاً، فأمر أصحابه أن تعوذوا من عذاب القبر.
ومن رواية أنس  مر بنخل لبني النجار، فسمع صوتاً فقال:ما هذا قالوا:قبر رجل دفن في الجاهلية، فقال رسول الله :" لولا أن تدافنوا لدعوت الله  أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمعني"[ ].
قال الشيخ ناصر: من فوائد الحديث أن أهل الجاهلية الذين ماتوا قبل بعثته عليه الصلاة والسلام معذبون بشركهم وكفرهم، وذلك يدل على أنهم ليسوا من أهل الفترة الذين لم تبلغهم دعوة نبي، خلافاً لما يظنه بعض المتأخرين، إذ لو كانوا كذلك لم يستحقوا العذاب لقوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [ ].
وكذلك الحديث الذي يرويه أنس، أن رجلاً قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال:" في النار " فلما قفا دعاه، فقال: إن أبي وأباك في النار"[ ].
فكون والد النبي  ووالد الصحابي الذي سأله عن مصير والده هما في النار .. وكانا قد ماتا قبل بعثة النبي  .. دل أن نذارة الأنبياء والرسل قبل نبينا عليهم الصلاة والسلام كانت قد بلغتهم .. وأنهم ليسوا من أهل الفترة المعذورين.
قال النووي في الشرح: فيه أن من مات على الكفر فهو في النار ولا تنفعه قرابة المقربين . وفيه أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم[ ].
قلت: ومما يدل على أن دعوة إبراهيم  كانت قد بلغتهم قول زيد بن عمرو بن نفيل لقريش قبل بعثة النبي  : يا معشر قريش والذي نفس زيد بن عمرو بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري، ثم يقول: اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به، ولكني لا أعلمه، ثم يسجد على راحته.
قلت: وهذا الذي رجحناه من أن الكفار قبل بعثة النبي  كانت فترتهم من جهة انقطاع الرسل، وليس من جهة انقطاع نذارة الرسل وأن كفرهم مستوجب للنار والعذاب، حكى القرافي عليه الإجماع وجزم به النووي
في شرحه لصحيح مسلم[ ].
والحمد لله الذي تتم بفضله ونعمته الطيبات الصالحات.
ـ تنبيه:
قولنا أن من كان قبل بعثة النبي  من الكفار لا يعتبرون من أهل الفترة المعذورين، وأنهم محجوجون بنذارة من تقدم من الرسل.
أقول: قولنا هذا لا يستلزم انتفاء وجود من يعتبر من أهل الفترة المعذورين من جهة عدم وصول نذارة الرسل إليهم، قبل بعثة النبي ، فنحن نسلم على العموم لا التعيين، أن كل من بذل جهده المستطاع لمعرفة دعوة الرسل، لكنه لم يتمكن من ذلك، فهو معذور بالجهل، ويعتبر من أهل الفترة المعذورين، لكن تعيين أشخاص بأعيانهم ـ من دون نص ـ على أنهم من أهل الفترة المعذورين، لا ينبغي لأحد أن يخوض فيه، فالله وحده أعلم بمن قامت عليه حجة الرسل ممن لم تقم عليه من أهل الفترات.
والسنة قد دلت على وجود أفراد من أهل الفترة المعذورين قبل بعثة النبي ، كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر، وقد تجنبوا عبادة الأوثان .. وكانوا حريصين على معرفة الحق .. منهم ورقة بن نوفل.
كما في الحديث الذي ترويه عائشة عن رسول الله  ،قال:" لا تسبوا ورقة بن نوفل، فإني قد رأيت له جنة وجنتين "[ ] .
ومنهم قس بن ساعدة من إياد بن معد، كان حكيم العرب، وكان مقراً بالبعث، وهو الذي يقول:" من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت ". وقد وفد من إياد إلى النبي  فسألهم عنه، فقالوا: هلك. فقال: " رحمه الله "[ ].
ـ أهل الفترة بعد بعثة النبي :
قد يرد السؤال: هل يوجد بعد بعثة النبي  من له حكم أهل الفترات من حيث العذر وغير ذلك ..؟
أقول: ذكرت سابقاً أن العلة التي لأجلها يعذر أهل الفترة بالجهل، هي عدم تمكنهم من معرفة دعوة الرسل وعدم بلوغها إليهم.
وعليه أقول: أي إنسان توفرت فيه هذه العلة، بحيث لا يستطيع ـ رغم بذل الجهد المستطاع ـ معرفة دعوة الرسل، ولم تبلغه نذارتهم، فهو معذور بالجهل، وله حكم أهل الفترة المعذورين بالفترة والجهل، سواء كان قبل بعثة النبي  أو بعد بعثته، ولا عبرة لزمن دون زمن في حال وجدت هذه العلة.
ثم إذا كان أهل الفترة قبل النبوة وبعدها، كلاهما لا يستطيعان ـ من غير الحجة الرسالية ـ دفع ما هم فيه من جهل وعجز، فكيف يعذر من كان قبل النبوة والبعثة ولا يعذر من كان بعدها .. والعلة بينهما مشتركة وواحدة .. وهي الجهل والعجز ..؟!
مع ما كنا قد بيناه بأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها .. وأن العجز يرفع التكليف .. في أي زمان وأي مكان.
ومن يفرق ـ من حيث وجوب العذر ـ بين أهل الفترة قبل النبوة وأهل الفترة بعد النبوة والبعثة، مطالب بالدليل وأنَّى ..!
ـ حالات لا ينفع معها العذر بالجهل.
هناك حالات لا ينفع معها العذر بالجهل، لو كان جهل المرء بسببها أو بسبب واحدة منها، من هذه الحالات:
1- الإعراض عن طلب العلم الشرعي، وعن النظر في آيات الله  التي تدل على وحدانيته وصدق ما جاء به الرسل.
فلا هو يأتي العلم .. ولا هو يسمح للعلم أن يأتيه .. فمن كان جهله بنذارة الرسل بسبب إعراضه هذا، فجهله لا ينفعه .. ولا يتشفع له .. ولا يمنع من عذابه .. وهو محاسب ومسؤول عن تقصيره وتفريطه فيما يجب عليه.
كما قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَالأنعام: 157. وقوله  صدف عنها  أي أعرض عنها. قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وابن جرير.
قال ابن جرير في التفسير: سيثيب الله الذي يعرضون عن آياته وحججه ولا يتدبرونها ولا يتعرفون حقيقتها فيؤمنوا بما دلتهم عليه من توحيد الله وحقيقة نبوة نبيه، وصدق ماجاء به من عند ربهم سوء العذاب[ ].
وقال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداًالكهف:57.
قال ابن جرير: يقول عز ذكره، وأي الناس أوضع للإعراض والصد في غير موضعهما ممن ذكره بآياته وحججه، فدله بها على دليل سبيل الرشاد، وهداه بها إلى طريق النجاة، فأعرض عن آياته وأدلته في استدلاله بها الوصول على الخلاص من الهلاك[ ].
وقال ابن كثير: يقول تعالى وأي عباد الله أظلم ممن ذُكر بآيات الله فأعرض عنها، أي تناساها وأعرض عنها ولم يصغ لها ولا ألقى إليها بالاً[ ].
وقال تعالى: وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً. مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً. خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً طـه:101.
وقال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى طـه:124- 126.
وقال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ السجدة:22.
وغيرها كثير من الآيات القرآنية الدالة على أن الجاهل بسبب إعراضه عن دين الله وآياته لا يعذر بالجهل، بل هو من أشد الناس ظلماً وكفراً، ويجزى يوم القيامة سوء العذاب.
وفي الحديث، عن أبي واقد الليثي، أن رسول الله ، بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله  وذهب واحد. قال: فوقفا على رسول الله ، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهباً فلما فرغ رسول الله  قال:" ألا أخبركم عن النفر الثلاث؟ أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه " متفق عليه.
فهذا الرجل أعرض عن مجالسة الرسول  وطلب العلم منه ـ رغم توفره له ـ فاستحق من الله أن يعرض عنه، ومن أعرض الله عنه أنى له أن يُعذر بالجهل.
ومن تأمل حال أكثر المسلمين اليوم أدرك أن سبب ما يعانونه من جهل بالشريعة وعلومها هو إعراضهم عن طلب العلم وعن مجالس العلم وحلقاته التي تعقد في المساجد وغيرها، وإيثارهم لمجالس اللهو واللغو عليها.
وهؤلاء لو وقعوا في ما يناقض الإيمان ـ بسبب الإعراض عن العلم ـ لا يعذرون بالجهل، لأن جهلهم من النوع الذي يمكن دفعه وتفاديه بأقل جهد لو أرادوا وقصدوا.
ومن جملة ما اعتبره الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ من نواقص الإسلام، الإعراض عن الدين، وتعلمه والعمل به، فقال: اعلم أن من أعظم نواقص الإسلام عشرة، منها الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى:  وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ [ ].
وقال ابن القيم رحمه الله: إن العذاب يستحق بسببين، أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بها وبموجبها.
الثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها. فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد. أما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها
فهذا نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل[ ].
2- من كان جهله بنذارة الرسل ـ رغم توافرها وسهولة طلبها ـ بسبب تقليده للآباء وطاعته لأئمة الكفر والضلال، فمثل هذا لا يعذر بالجهل، وحجة التقليد والاتباع داحضة ومردودة على صاحبها.
قال تعالى : يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا . وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً الأحزاب:67-68.
وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَسـبأ:33.
وقال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ البقرة:166- 167.
قال ابن القيم رحمه الله: طبقة المقلدين وجهال الكفرة وأتباعهم وحميرهم الذين هم معهم تبعاً لهم، يقولون: إنا وجدنا آبائنا على أمة وإنا على أسوة بهم، ومع هذا فهم تاركون لأهل الإسلام غير محاربين لهم، كنساء المحاربين وخدمهم وأتباعهم الذين لم ينصبوا أنفسهم لما نصب له أولئك أنفسهم من السعي في إطفاء نور الله وهدم دينه وإخماد كلماته، بل هم بمنزلة الدواب. وقد اتفقت الأمة على أن هذه الطبقة كفار وإن كانوا جهالاً مقلدين لرؤسائهم وأئمتهم، إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنه لم يحكم لهؤلاء بالنار وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة، وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين لا الصحابة ولا التابعين ولا من بعدهم، وإنما يعرف عن بعض أهل الكلام المحدث في الإسلام.
فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفاراً، فإن الكافر من جحد الله وكذب رسوله إما عناداً أو جهلاً وتقليداً لأهل العناد. فهذا وإن كان غايته أنه غير معاند فهو متبع لأهل العناد، وقد أخبر الله في القرآن في غير موضع بعذاب المقلدين لأسلافهم من الكفار، وأن الأتباع مع متبوعيهم وأنهم يتحاجون في النار وأن الاتباع يقولون: رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُون َلأعراف:38. وقال تعالى: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ غافر:48.
فهذا إخبار من الله وتحذير بأن المتبوعين والتابعين اشتركوا في العذاب، ولم يغن عنهم تقليدهم شيئاً.
وصح عن النبي  أنه قال: من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل أوزار من اتبعه، لا ينقص من أوزارهم شيئاً. وهذا يدل على أن كفر من اتبعهم إنما هو بمجرد اتباعهم وتقليدهم[ ]ا- هـ .
وفي الحديث الذي يرويه مسلم:" أهل النار خمسة ـ منهم ـ: الضعيف الذي لا زَبْرَ له، الذين هم فيكم تبعاً، لا يبغون أهلاً ولا مالاً ..". أي لا يسعون في تحصيل منفعة دينية ولا دنيوية[ ]. وقوله " لا زير له " أي لا عقل له يزبره ويمنعه مما لا ينبغي [ ].
3- كذلك من كان جهله بنذارة الرسل بسبب ظنه أنه على الحق والصواب .. فركن إلى ظنه واعتقاده وترك طلب العلم فهذا لا يعذر بالجهل ـ لو وقع بسببه في الكفر ـ وظنه أنه على هدى وصواب لا ينفعه شيئاً ولا يرد عنه عذاباً ولا يبرر له جهلاً.
قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُون َالبقرة:11-12.
قال الألوسي في تفسيره: وما يقال من أنه لا ذمَّ على من أفسد ولم يعلم، وإنما الذم على من أفسد عن علم يدفعه أن المقصر في العلم مع التمكن منه مذموم بلا ريب، بل ربما يقال إنه أسوأ حالاً من غيره. وفيه مزيد تسليه له ، إذ من كان من أهل الجهل لا ينبغي للعالم أن يكترث بمخالفته.
وفي التأويلات لعلم الهدى: إن هذه الآية حجة على المعتزلة، في أن التكليف لا يتوجه بدون العلم بالمكلف به، وأن الحجة لا تلزم بدون المعرفة، فإن الله تعالى أخبر أن ما صنعوا من النفاق إفساد منهم مع عدم العلم، فلو كان حقيقة العلم شرطاً للتكليف ولا علم لهم به لم يكن فعلهم إفساداً، فحيث كان إفساداً دل على أن التكليف يعتمد قيام آلة العلم والتمكن من المعرفة لا حقيقة المعرفة، فيكون حجة عليهم [ ].
وقال تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً الكهف:105.
قال ابن جرير: يقول هم الذين لم يكن عملهم الذي عملوه في حياتهم الدنيا على هدى واستقامة، بل كان على جور وضلاله، وذلك أنهم عملوا بغير ما أمرهم الله به بل على كفر منهم به، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، يقول: وهم يظنون أنهم بفعلهم ذلك لله مطيعون، وفيما ندب عباده إليه مجتهدون، وهذا من أدل الدلائل على خطأ قول من زعم أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يقص إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته، وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية أن سعيهم الذي سعوا في الدنيا ذهب ضلالاً، وقد كانوا يحسبون أنهم محسنون في صنعهم ذلك، وأخبر عنهم أنهم هم الذين كفروا بآيات ربهم، ولو كان القول كما قال الذين زعموا أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يعلم، لوجب أن يكون هؤلاء القوم في عملهم الذي أخبر الله عنهم أنهم كانوا يحسبون فيه أنهم يحسنون صنعه مثابين مأجورين عليه، ولكن القول بخلاف ما قالوا، فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم بالله كفرة وأن أعمالهم حابطة[ ].
وقال الشنقيطي: هذه النصوص القرآنية تدل على أن الكافر لا ينفعه ظنه أنه على هدى لأن الأدلة التي جاءت بها الرسل لم تترك في الحق لبساً ولا شبهة.
ولكن الكافر لشدة تعصبه للكفر لا يكاد في الأدلة التي هي كالشمس،
فلذلك كان غير معذور[ ].
أما المسلم المخطىء في اجتهاده وتأويله ـ وكان تأويله مستساغاً شرعاً وعقلاً ولغة ـ يستثنى من هذه القاعدة، وهو معذور، بل وله أجر إن كان خطؤه ناتجاً عن اجتهاد.
كما في الحديث الصحيح:" إذا حكم الحاكم فاجتهد، ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر". فهو عندما أخطأ لم يكن يقصد الخطأ ولا يريده، وكل ظنه أنه قد أصاب الحق الذي يرضاه الله ورسوله، لذلك كان معذوراً ومأجوراً على اجتهاده.
ثم لو حملت هذه الآية القرآنية على المسلمين للزم ذلك أن نكفر أئمة المسلمين والصحابة والتابعين لهم بإحسان، لأنه ـ يقيناً ـ كل ما عدا النبي  يخطئ ويصيب، يؤخذ منه ويرد عليه، فعلم من ديننا بالضرورة أنه لا يجوز حمل هذه الآيات على إطلاقها وعلى المسلمين وعلمائهم .. ممن يرجون الله واليوم الآخر.
لكن الذي يمكن قوله أن من كان اجتهاده أو تأويله ناتجاً عن هوى، وهو غير مستساغ شرعاً ولا عقلاً ولا لغة،كتأويلات القرامطة، والباطنية، وغلاة الصوفية، والخوارج وغيرهم من فرق الضلال والبدع الذين يظنون في بدعهم التي ابتدعوها في الدين صلاحاً وخيراً، وأنهم بذلك مصلحون وهم في الحقيقة مفسدون ضالون.
أقول: مثل هؤلاء وإن تسموا باسم الإسلام، فإن الآيات القرآنية الآنفة الذكر تشملهم وتطالهم كل بحسب فساده وضلاله وانحرافه.
وفي قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَالبقرة:11.
قال سلمان الفارسي:" لم يجئ أهل هذه الآية بعد ".
قال الشكواني في التفسير: يحتمل أن سلمان يرى أن هذه الآية ليست في المنافقين، بل يحملها على مثل أهل الفتن التي يديهن أهلها بوضع السيف في المسلمين، كالخوارج وسائر من يعتقد في فساده أنه صلاح لما يطرأ عليه من الشبه الباطلة [ ]. والله تعالى أعلم.
4- وكذلك من كان جهله بنذارة الرسل بسبب عناده وتكبره، فهو لا يؤمن ولا ينقاد للحق ـ رغم ظهوره له ـ كبراً وترفعاً وأنفة .. ومن كان كذلك لا يعذر بالجهل، وهو من أشد الناس كفراً وطغياناً ..!
قال تعالى: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ الأنعام:111. فهم يجهلون لكن لعنادهم وتكبرهم في رد آيات الله البيانات لا يعذرون بالجهل .. ولهم عذاب أليم.
وقال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيم ٍلقمان:7. فهو وإن كان يسمعها السمع الآلي إلا أنه لاستكباره عن الحق فهو لا يسمعها الاستماع الذي يؤدي به الإيمان ومتابعة الحق .. فهو مثله في ذلك كمن لم يسمعها أصلاً.
قال ابن جرير: ولَّى مستكبراً  يقول: أدبر عنها، واستكبر استكباراً،
وأعرض عن سماع الحق والإجابة عنه  كأنه لم يسمعها  يقول: ثقلاً، فـلا
يطيق من أجله سماعه[ ].
5- كذلك من كان غافلاً عن آيات الله تعالى منشغلاً عنها وعن طلب العلم الشرعي الضروري ..بلهو الحديث وبالترهات وسفاسف الأمور، مؤثراً للدنيا ومتاعها وزخرفها على الآخرة ونعيمها .. أقول: من كان جاهلاً بنذارة الرسل بسبب ذلك لا يُعذر بالجهل، وهو في الآخرة من الخاسرين.
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ .أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ  يونس:7-8.
قال الحسن البصري: والله ما زينوها ولا رفعوها حتى رضوا بها وهم غافلون عن آيات الله الكونية فلا يتفكرون فيها، والشرعية فلا يأتمرون بها، فإن مأواهم يوم معادهم النار جزاءً على ما كانوا يكسبون في دنياهم من الآثام والخطايا والإجرام مع ما هم فيه من الكفر بالله ورسوله واليوم الآخر[ ].
قال ابن جرير في التفسير 11/87:قوله  والذين هم عن آياتنا غافلون عن آياتنا وهي أدلته على وحدانيته، وحججه على عباده في إخلاص العبادة له،  غافلون معرضون عنها لاهون لا يتأملونها تأمل ناصح لنفسه فيعلمون بها حقيقة ما دلتهم عليه، ويعرفون بها بطول ما هم عليه مقيمون أولئك مأواهم النار  هؤلاء الذين هذه صفتهم  مأواهم  مصيرهم إلى نار جهنم في الآخرة ا- هـ.
وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌلقمان:6.
روى ابن جرير بسنده، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله :" لا يحل بيع المغنيات، ولا شراؤهن، ولا التجارة فيهن ولا أثمانهم، وفيهن نزلت هذه الآية من الناس من يشتري لهو الحديث. قال عبد الله بن مسعود: الغناء، والذي لا إله إلا هو، يرددها ثلاث مرات.
وعن ابن عباس قال: الغناء وأشباهه، وقال: هو الغناء والاستماع له.
قال ابن جرير الطبري: عني به ما كان من الحديث ملهياً عن سبيل الله، مما نهى الله عن استماعه أو رسوله، لأن الله عم بقوله لهو الحديث ولم يخصص بعضاً دون بعض، والغناء والشرك من ذلك.
وقوله تعالى: ليضل عن سبيل الله  يقول: ليصد ذلك الذي يشتري من لهو الحديث عن دين الله وطاعته، وما يقرب إليه من قراءة قرآن وذكر الله[ ].
وقال تعالى: الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ إبراهيم:3.
وقال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَالتوبة:24.
ولا شك أن من حبّ الله ورسوله، الائتمار بما أمر الله ورسوله والانتهاء عما نهى عنه الله ورسوله، وهذا لا يتحقق إلا بعد السعي في طلب العـلم
الشرعي، والتفقه في دين الله .
وكذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ المنافقون:9.
أي من يتلهى بزينة الحياة الدنيا ـ المال والبنون ـ عن ذكر الله وتلاوة القرآن وتدبر آياته ومعانيه، والتفقه في الدين، فهو من الخاسرين المحاسبين على تقصيرهم، وليس من المعذورين بجهلهم لو جهلوا .. أو وقعوا بالجهل بسبب ذلك.
وعليه نقول: فمن آثر التجارة والأموال والمساكن، وكان اشتغاله بالدنيا سبباً صارفاً عن عبادة الله، وطلب العلم الشرعي الضروري، لا شك أنه ممن أحب الدنيا والعمل لها أكثر من حبه لله ورسوله، لأن من علامة حب الشيء الاشتغال بما يقرب إليه ويزيد منه.
وإذا كان هذا حال من ينشغل بالمباحات عن طلب العلم الشرعي الضروري فما يكون القول فيمن ينشغل بالمحرمات ولهو الحديث عن دين الله والتفقه فيه، كالاستماع إلى الأغاني الماجنة وآلات العزف والطرب ـ كما يسمونها ـ واللعب بالورق والنرد، والاعتكاف على الأفلام والمسلسلات التلفزيونية ـ وما أكثر الناس في هذا الزمان الذي يفضلونها عن مجالس العلم، بل عن الاستماع إلى آية من ذكر الله الحكيم أو حديث من أحاديث النبي المصطفى  ـ وغير ذلك من ألعاب اللهو والمتاع والترف التي افتعلها لنا العدو الكافر، ليصرف بها شباب الأمة عن دينها، وعن الجد والعطاء النافع ومعرفة ما يجب عليهم نحو دينهم وأمتهم ..!
ومما يُستهجن ويُمقت في هذا الشأن أن كثيراً من شباب الأمة ـ بفعل
الدعايات السيئة التي يُروج لها ـ تراهم يعرفون ما خفي من أسماء لاعبي الكرة .. وأسماء المغنيين .. وأسماء أغنياتهم .. وأسماء ما ظهر وما بطن من أفلام السوء التي تُنشر على الشاشتين الصغيرة والكبيرة .. بينما في المقابل لا يعرفون شيئاً عن دينهم وما يجب عليهم .. ولا يعرفون شيئاً عن شئون أمتهم، وما تتعرض له من أخطار جسام!!
ومن كان هذا وصفه لا شك أنه أشد جرماً وإثماً من الذي ينشغل بالمباحات عن دين الله، ومثل هذا أنى له أن يعذر بالجهل .. لو تعذر به، والله تعالى أعلم.

يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حامل المسك1
المدير العام
المدير العام
حامل المسك1


كتاب العذر بالجهل وقيام الحجة للشيخ ابو بصير الطرطوسي    190070434
عدد المساهمات : 226
نقاط : 421
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 03/04/2011
الموقع : بلاد الرافدين

كتاب العذر بالجهل وقيام الحجة للشيخ ابو بصير الطرطوسي    Empty
مُساهمةموضوع: كتاب العذر بالجهل وقيام الحجة للشيخ ابو بصير الطرطوسي   كتاب العذر بالجهل وقيام الحجة للشيخ ابو بصير الطرطوسي    I_icon_minitimeالجمعة أبريل 08, 2011 2:53 am

6- من كان جهله بنذارة الرسل بسبب قساوة قلبه، وماران عليه من آثام وذنوب، حيث تراه لا يستطيع أن يتدبر آيات الله ولا أن يطلب علماً نافعاً ولا حتى أن يذكر الله أو يسمع ذكر الله .. بسبب ما ران على قلبه من غشاوة وظلمة بما كسبت يداه من السيئات والمعاصي والآثام ..!
وجاهل كهذا لا يعذر بالجهل، وأنى ..؟!
قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ الزمر:22. وقال تعالى: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ الأنعام:43.
وقال تعالى: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ المطففين:14.
* * *

ـ الحُجَّة.
الحجة: هي الدليل أو البرهان الذي به يندفع العجز أو الجهل، وتُحسم به الأعذار التي تمنع من نزول العذاب والوعيد بصاحبها.
ويمكن القول كذلك: أن الحجة هي التي تحقق القدرة عند المخالف على دفع الجهل فيما قد خالف فيه من الحق.
ـ بما تقوم الحجة ؟
تقوم الحجة على العباد بأمور عدة، وهي:
1- القرآن الكريم: هو الحجة المطلقة على العباد، طرف منه بيد الله ، وطرف آخر بأيدي العباد، من تمسك به نجا، ومن أعرض عنه هلك.
كما في الحديث:" أبشروا، فإن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تهلكوا ولن تضلوا بعده أبداً "[ ].
فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة التي تبطل الأعذار، وتوجب على مخالفها ومعاندها عذاب النار.
وقال :" القرآن شافعٌ مُشفّعٌ، وماحِلٌ مُصدَّقٌ، من جعله أمامَه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار "[ ].
وقال :" كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض "[ ]. من تعلق به نجا ومن تعلق بغيره هلك.
قال تعالى:وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَالأنعام:19.
روى ابن جرير بسنده عن قتادة، في قوله تعالى: لأنذركم به ومن بلغ  أن النبي  قال:" يا أيها الناس بلغوا ولو آية من كتاب الله، فإنه من بلغه آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله أخذه أو تركه ".
وعن محمد بن كعب القرظي قال: من بلغه القرآن، فكأنما رأى النبي.
وكان مجاهد يقول: حيثما يأتي القرآن فهو داع، وهو نذير.
وعن ابن عباس قولهلأنذركم به يعني أهل مكة  ومن بلغ  يعني ومن بلغه هذا القرآن فهو له نذير[ ].
قال الشنقيطي في أضواء البيان 2/188: صرح في هذه الآية الكريمة بأنه  منذر لكل من بلغه هذا القرآن العظيم كائناً من كان، ويفهم من الآية أن الإنذار به عام لكل من بلغه ولم يؤمن فهو في النار، وهو كذلك ا- هـ.
وفي الحديث في صحيح مسلم وغيره:" القرآن حجة لك أو عليك". فمن تلاه بحق وآمن وعمل به فهو حجة له يوم القيامة يشفع له ويذود عنه، ومن كفر به وأعرض عنه وجفاه، فهو حجة عليه يقوده يوم القيامة إلى نار جهنم وبئس المصير.
2- السُّنّة: وهي كل ما أثر عن النبي  من قول أو عمل أو إقرار. فمن بلغته السنة، أو بلغته الحجة بما صح من السنّة فقد بلغته نذارة الرسول ، وقد أقيمت عليه الحجة التي يستحق رافضها وجاحدها العذاب.
كما في صحيح مسلم وغيره، عن أبي هريرة ، عن رسول الله  أنه قال:" والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا
نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار".
والمراد بالسماع بالنبي ، السماع به وبدعوته على الوجه الصحيح لا المشوه الذي ينفي عنه صفة النبوة[ ]، ثم لا يؤمن به  وبما جاء به فهو من أهل النار؛ لأن طاعته واجبة وهي من طاعة الله ، ومعصيته من معصيته الله .
قال تعالى:  مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً النساء:80.
ومصداق ذلك في السنة قوله :" من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله " مسلم.
وكذلك التحاكم: فإن التحاكم إلى السنة كالتحاكم إلى القرآن الكريم ورفض واحد منهما رفض للآخر، لأن كلاهما من مشكاة الوحي كما قال تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى النجم:4-3.
وقال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ الحشر:7.
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً النساء:59.
قال ابن القيم رحمه الله: نكرة في سياق الشرط تعم كل ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين دقة وجله، جليه وخفيه، ولو لم يكن في كتاب الله وسنة رسوله بيان حكم ما تنازعوا فيه ولم يكن كافياً لم يأمر بالرد إليه، إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع.
ومنها أن الناس أجمعوا أن الرد إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول ، هو الرد إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته. ومنها أنه جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان، ضرورة انتفاء الملزوم لازمه، ولا سيما التزام بين هذين الأمرين فإنه من الطرفين، وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر[ ].
وفي قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماًالنساء:65.
يقول رحمه الله: أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسماً مؤكداً بالنفي قبله عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع وأحكام الشرع وأحكام المعاد وسائر الصفات وغيرها، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج، وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح و تنفسح له كل الانفساح وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً، حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضى والتسليم وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض[ ].
وقال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌالنور:63.
قال الإمام أحمد: نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول  في ثلاثة وثلاثين موضعاً، ثم جعل يتلو: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . وجعل يكررها ويقول: وما الفتنة؟ الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ قلبه فيهلكه، وجعل يتلو هذه الآية: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم .
وقيل له: إن قوماً يدَعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان، فقال: أعجب لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصحته يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره!
قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . وتدري ما الفتنة؟ الكفر. قال الله تعالى: والفتنة أكبر من القتل. فيدعون الحديث عن رسول الله  وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي[ ].
ومما يدلل أيضاً أن حجة السنة كحجة القرآن قوله :" يوشك الرجل متكئاً على أريكته يحدَّث بحديث من حديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله  فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا ما حرم رسول الله  مثل ما حرم الله "[ ].
3- حجة الميثاق: من حجج الله  على عباده التي يحاجهم بها يوم القيامة، حجة الميثاق الذي أخذه عليهم وهم في أصلاب آبائهم، وأشهدهم على أنفسهم على وحدانية الله تعالى وربوبيته، وقطع به أعذارهم، وحذرهم من الغفلة في الدنيا عن هذا الميثاق ومن أن لا يفوا به، أو أن يعتذروا يوم القيامة بتقليد الآباء والأسلاف على الضلال ومقارفة الشرك.
كما قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ الأعراف:173-174.
عن ابن عباس، عن النبي  قال:" أخذ الله تبارك وتعالى الميثاق من ظهر آدم بـ " نعمان " ـ يعني عرفة ـ فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلاً قال: ألست بربكم ؟. قالوا بلى، شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون[ ].
وروى ابن جرير بسنده عن أبي بن كعب، قال: جمعهم يومئذ جميعا ما هو كائن إلى يوم القيامة، ثم استنطقهم، وأخذ عليهم الميثاق  وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين  قال: فإني أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا، اعلموا أنه لا إله غيري، ولا رب غيري، ولا تشركوا بي شيئاً، وسأرسل إليكم رسلاً يذكرونكم عهدي وميثاقي، وسأنزل عليكم كتبي، قالوا: شهدنا أنك ربنا وإلهنا لا رب غيرك، ولا إله لنا غيرك، فأقروا له يومئذ بالطاعة ا- هـ.
قال البغوي في التفسير 2/213: فإن قيل كيف يلزم الحجة واحد لا يذكر الميثاق؟
قيل: قد أوضح الله الدلائل على وحدانيته وصِدق رسله فيما أخبروا، فمن أنكره كان معانداً ناقضاً للعهد ولزمته الحجة، وبنسيانهم وعدم حفظهم لا يُسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق صاحب المعجزة ا- هـ.
وقال تعالى: وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَالحديد:8.
قال ابن جرير في التفسير وغيره من أهل التأويل: عني بذلك وقد أخذ منكم ربكم ميثاقكم في صلب آدم بأن الله ربكم لا إله لكم سواه.
 إن كنتم مؤمنين  يقول: إن كنتم تريدون أن تؤمنوا بالله يوماً من الأيام، فالآن أحرى الأوقات، أن تؤمنوا لتتابع الحجج عليكم بالرسول وإعلامه ودعائه إياكم إلى ما قد تقررت صحته عندكم بالإعلام والأدلة والميثاق المأخوذ عليكم[ ].
وقال تعالى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَالأنعام:149.
روى ابن جرير بسنده عن السدي، قال: يعني يوم أخذ منهم الميثاق.
وفي الحديث فقد صح عن النبي  كما في صحيح مسلم وغيره:" يقول الله لأهون أهل النار عذاباً يوم القيامة: يا ابن آدم كيف وجدت مضجعك؟ فيقول: شر مضجع، فيقال له: لو كانت لك الدنيا وما فيها أكنت مفتدياً بها؟ فيقول: نعم. فيقول: كذبت، قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئاً ولا أدخلك النار فأبيت إلا الشرك، فيؤمر به إلى النار".
فواضح أن هذا " الميثاق " حجة من حجج الله  على العباد يوم القيامة في بطلان ما كانوا عليه في الحياة الدنيا من الشرك، وتقليد الآباء في الباطل، وبغير حق ..!
لكن هل يترتب عذابهم يوم القيامة على مخالفة حجة الميثاق، قبل ـ ومن دون ـ قيام حجة الرسل عليهم ؟
أقول: الراجح ـ والله تعالى أعلم ـ أن هذا الميثاق رغم أنه حجة على العباد يحاجون به يوم القيامة، إلا أن مخالفته ـ منفرداً ـ قبل قيام حجة الرسل لا تستوجب العذاب، فالعذاب ـ كما دلت على ذلك النصوص، وكما تقدم بيانه ـ لا يكون إلا بعد قيام الحجة من جهة نذارة الرسل .. ومقابلتها بالرد والجحود.
وقوله تعالى لأهون أهل النار عذابا:" قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئا ولا أدخلك النار فأبيت إلا الشرك فيؤمر به إلى النار".
لا يفهم منه أن أهون أهل النار عذاباً أمر به، إلى النار لمجرد مخالفته لحجة الميثاق قيل أو من دون قيام حجة الرسل عليه، وبخاصة أن أهون أهل النار عذاباً هو " أبو طالب " كما في صحيح مسلم:" أهون أهل النار عذاباً أبو طالب". ومعلوم لدينا بما لا يدع مجالاً للشك أن أبا طالب قد بلغته نذارة الرسل وحجتهم، وقد أقامها عليه شخص الرسول صلوات ربي وسلامه عليه، فأبى إلا الموت على الشرك .. ورفض أن يقول " لا إله إلا الله "!
ثم إذا كان أهون أهل النار عذاباً قد ثبت بالدليل أنه قد بلغته نذارة الرسل وأقيمت عليه الحجة النبوية، فمن باب أولى أن تكون نذارة الرسل قد بلغت من كان أشد منه عذاباً يوم القيامة.
ـ تنبيه:
لا يصح حمل هذا الميثاق على الفطرة، لحديث ابن عباس المرفوع الدال على أن الميثاق شيء آخر غير الفطرة التي فطر الله عليها العباد، وإن كانت الفطرة في الحقيقة أتت تصديقاً لما جاء في الميثاق من إقرار العباد بوحدانية الله  في ألوهيته وربوبيته.
قال الشوكاني في الفتح 2/263: المعنى أن الله سبحانه لما خلق آدم مسح ظهره فاستخرج منه ذريته وأخذ عليهم العهد، وهؤلاء هم عالم الذر، وهذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه ولا المصير إلى غيره لثبوته مرفوعاً إلى النبي  وموقوفاً على غيره من الصحابة، ولا ملجىء للمصير إلى المجاز ا- هـ.
4- حجة الفطرة: وكذلك الفطرة، فهي حجة من حجج الله تعالى على عباده؛ حيث ما من مولود إلا ويولد على الملة وفطرة الإسلام والإيمان بالله  كما يفطر على إلهام التنفس والتقام ثديي أمه منذ اللحظات الأولى من حياته، ثم إن طرأ عليه الشرك والكفر فيما بعد فهو بفعل عوامل التضليل المكتسبة من الآباء والزعماء وغيرهم من أئمة الضلال والشرك.
قال الله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ الروم:30.
وفي الحديث الصحيح الذي يرويه مسلم وغيره، عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله :" ما من مولود إلا يولد على الفطرة. فأبواه يهودانه أو يهودانه أو ينصرانه أم يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ". ثم يقول أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم: فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله .
قال ابن كثير في التفسير 3/442: يقول تعالى فسدد وجهك واستمر على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم، التي هداك الله لها وكملها لك غاية الكمال، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها، فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده وأنه لا إله غيره.
وفي قوله  لا تبديل لخلق الله  قال ابن عباس، وإبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، وابن زيد: أي لدين الله. وقال البخاري: قوله  لا تبديل لخلق الله : لدين الله، خلق الأولين: دين الأولين، الدين والفطرة الإسلام ا- هـ.
وقد صح عن النبي  أنه قال في الحديث القدسي:" إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وأن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم و عجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب" صحيح مسلم.
وقوله:" إني خلقت عبادي حنفاء "قال النووي في الشرح: أي مسلمين[ ].
وقال :" كل مولود يولد على الملة، فأبواه يهودانه، وينصرانه،
ويشركانه "[ ].
وقال:" ما بال أقوام جاوز بهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية ؟! ألا إن خياركم أبناء المشركين ألا لا تقتلوا ذرية، كل نسمة تولد على الفطرة فما يزال عليها حتى يُعرب عنها لسانها، فأبواها يهودانها أو ينصرانها "[ ].
فقوله " خياركم أبناء المشركين " فيه أنهم لم يزالوا على الإيمان الذي فطروا عليه، وهم خيار المسلمين يومئذٍ لأنهم لم تكتب عليهم سيئة بعد، لارتفاع القلم عن الصبي حتى يبلغ الحلم.
كما في الحديث:" رُفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم "[ ].
وفي صحيح البخاري، من حديث الرؤيا الذي جاء فيه قوله :" وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإبراهيم ، وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة ". فقيل: يا رسول الله! وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله :" وأولاد المشركين ". وهذا نص في أن أولاد المشركين في الجنة، لأنهم عندما ماتوا ماتوا على التوحيد والإسلام الذي فطروا عليه .. والله تعالى أعلم.
قال ابن حزم: فصح بهذا كله ضرورة أن الناس كلهم مولودون على الإسلام وهذا تأويل قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً
الأحزاب:72. فقبول الملة الإسلامية هي الأمانة، وأن الله تعالى خلق الأنفس
كلها جميلة وهي الحساسة العاقلة المميزة، ثم واثقها بالإسلام فقبلته[ ].
لكن هل يحاسب العباد على مخالفتهم لحجة الفطرة من دون أن تقوم عليهم حجة الرسل؟
أقول: رغم أن الحجة تقوم على العباد بحجة الميثاق، والفطرة التي فطروا عليها، والآيات العظام التي أودعها الله  في الكون والنفس البشرية الدالة على وحدانيته ، إلا أن رحمة الله  قضت أن لا يعذب أحداً إلا بعد قيام حجة الرسل عليه وبلوغ نذارتهم إليه، كما بينا ذلك من قبل.
يقول سيد قطب رحمه الله: ولكن الله سبحانه رحمة منه بعباده، لما يعلمه من أن في استعدادهم أن يضلوا إذا أضلوا وأن فطرتهم هذه تتعرض لعوامل الانحراف ـ كما قال  ـ بفعل شياطين الإنس والجن الذين يعتمدون على ما في التكوين البشري من نقط ضعف. رحمه من الله بعباده قدَّر ألا يحاسبهم على عهد الفطرة هذا، كما أنه لا يحاسبهم على ما أعطاهم من عقل يميزون به حتى يرسل إليهم الرسل، ويفصل لهم الآيات لاستنقاذ فطرتهم من الركام والتعطل والانحراف، واستنقاذ عقلهم من ضغط الهوى والضعف والشهوات.
ولو كان الله يعلم أن الفطر والعقول تكفي وحدها للهدى دون رسل ولا رسالات، ودون تذكير وتفصيل للآيات لأخذ الله عباده بها، ولكنه رحمهم بعلمه فجعل الحجة عليهم هي الرسالة[ ].
5- حجة الآيات التي أودعها الله تعالى في الكون وفي أنفسنا:
من حجج الله تعالى ـ على عباده ـ الدالة على وحدانيته وألوهيته
وربوبيته، ما أودعه  في الكون وفي الآفاق وفي أنفسنا من آيات بينات باهرات، حتى يتبين للعباد أنه ـ سبحانه ـ هو الحق وحده لا شريك له.
قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَالبقرة:164.
قال ابن جرير في التفسير 2/62-65: إن الله تعالى ذكره، نبه عباده على الدلالة على وحدانيته وتفرده بالألوهية، دون كل ما سواه من الأشياء بهذه الآية. فإن قال قائل: وكيف احتج من أهل الكفر بقوله إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ . الآية في توحيد الله، وقد علمت أن أصنافاً من أصناف الكفرة تدفع أن تكون السماوات والأرض وسائر ما ذكر في هذه الآية مخلوقة ؟ قيل: إن إنكار من أنكر ذلك غير دافع أن يكون جميع ما ذكر تعالى ذكره في هذه الآية دليل على خالقه وصانعه، وأن له مدبراً يشبهه، وبارئاً لا مثل له، وذلك وإن كان كذاك فإن الله إنما حاج بذلك قوماً كانوا مقرين بأن الله خالقهم، غير أنهم يشركون في عبادته الأصنام والأوثان فحاجهم تعالى ذكره فقال إذ أنكروا قوله  وإلهكم إله واحد  .. فأخبرهم أن إلههم هو الله الذي أنعم عليهم بهذه النعم وتفرد لهم بها .. وإن كان في أصغر ما عدَّ الله في هذه الآية من الحجج البالغة المقنع لجميع الأنام ا- هـ.
وقال الشوكاني في التفسير1/163: لما ذكر سبحانه التوحيد بقوله  وإلهكم إله واحد  عقب ذلك بالدليل الدال عليه، وهو هذه الأمور التي هي من أعظم صنعة الصانع الحكيم، مع علم كل عاقل بأنه لا يتهيأ من أحد من الآلهة التي أثبتها الكفار أن يأتي بشيء منها، أو يقتدر عليه أو على بعضه، وهي خلق السماوات، وخلق الأرض، وتعاقب الليل والنهار، وجري الفلك في البحر، وإنزال المطر من السماء، وإحياء الأرض به، وبث الدواب منها بسببه، وتصريف الرياح فإن من أمعن نظره وأعمل فكره في واحد منها انبهر له، وضاق ذهنه عن تصور حقيقته، وتحتم عليه التصديق بأن صانعه هو الله سبحانه ا- هـ.
وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ. فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ. وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَالأنعام:95-99.
قال ابن جرير في تفسير الآيات: هذا تنبيه من الله جل ثناؤه، هؤلاء العادلين به الآلهة والأوثان، على موضع حجته عليهم، وتعريف منه لهم خطأ ما هم عليه مقيمون من إشراك الأصنام في عبادتهم إياه.
وفي قوله:قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون قال: يقول قد ميزنا الأدلة، وفرقنا الحجج فيكم وبيناها أيها الناس ليتدبرها أولوا العلم بالله منكم، ويفهمها أولوا الحجا منكم، فينيبوا من جهلهم الذي هم عليه مقيمون وينزجروا عن خطأ
فعلهم الذي هم عليه ثابتون، ولا يتمادوا في عناد الله مع علمهم بأن ما هم عليه مقيمون خطأ في غيهم[ ].
وقال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِالحج:46.
فهم إذ يرون آيات الله بأبصارهم المجردة عن نظر القلوب والعقول، لا يهتدون إلى حقيقة ما تدل عليه من عظمة الخالق وأنه لا إله إلا هو .. ولو نظروا إليها بقلوبهم وعقولهم لأوصلتهم تلك الآيات إلى الإيمان بالله ، لأن نظر القلوب والعقول ينفذ إلى معرفة حقيقة الأشياء ومدلولاتها والغاية من وجودها، بعكس نظر الأعين المجرد عن نظر القلوب فهي لا ترى سوى ظاهر الأشياء دون معرفة مدلولاتها وحقيقة ما تهدي إليه.
قال ابن كثير في التفسير 3/238: أي ليس العمى عمى البصر وإنما العمى عمى البصيرة، وإن كانت القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر ولا تدري ما الخبر ا- هـ.
وقال تعالى: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ. أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَءلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَالنمل:61.
وقال تعالى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ يونس:101.
قال ابن جرير في التفسير 11/175: يقول تعالى ذكره، قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك السائليك الآيات على صحة ما تدعوهم إليه من توحيد الله، وخلع الأنداد والأوثان  انظروا  أيها القوم  ماذا في السماوات من الآيات الدالة على حقيقة ما أدعوكم إليه من توحيد الله من شمسها وقمرها واختلاف ليلها ونهارها، ونزول الغيث بأرزاق العباد من سحابها، وفي الأرض من جبالها وتصدعها بنباتها وأقوات أهلها، وسائر صنوف عجائبها، فإن في ذلك لكم أن عقلتم وتدبرتم موعظة ومعتبراً، ودلالة على أن ذلك من فعل من لا يجوز أن يكون له في ملكه شريك، ولا له على تدبيره وحفظه ظهير يغنيكم عما سواه من الآيات،  وما تغني الآيات  وما تغني الحجج والعبر والرسل المنذرة عباد الله عقابه، عن قوم قد سبق لهم من الله الشقاء وقضى لهم في أم الكتاب أنهم من أهل النار لا يؤمنون بشيء من ذلك ولا يصدقونه به ا- هـ.
وقال تعالى:  وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ الذريات:21.
معنى ذلك وفي أنفسكم أيضاً أيها الناس آيات وعبر تدلكم على وحدانية صانعكم وأنه لا إله لكم سواه، إذ كان لا شيء يقدر على أن يخلق مثل خلقه إياكم  أفلا تبصرون  يقول: أفلا تنظرون في ذلك فتتفكروا فيه فتعلموا حقيقة وحدانية خالقكم[ ].
وفي الحديث الذي يرويه مسلم وغيره، قال رسول الله : " يؤتى بالعبد يوم القيامة، فيقال له: ألم أجعل لك سمعاً وبصراً ومالاً وولداً، وسخرت لك الأنعام والحرث، وتركتك ترأس وتربَع فكنت تظن أنك ملاقي يومك هذا؟ فيقول: لا. فيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني ".
فيه أن الآيات والنعم المسخرات للإنسان في الأرض هي من جملة الحجج التي يحاج بها العبد يوم القيامة زياد وإمعاناً في قيام الحجة عليه، وإمعاناً في إبطال أعذاره، وإن كان يكفي لاستحقاقه العذاب مجرد مخالفته لحجة الرسل و نذارتهم.
ولا بن الوزير اليماني ـ رحمه الله ـ كلام طيب مفيد في هذه المسألة يحسن ذكره، حيث يقول:" الطرق إلى الله تعالى كثيرة جداً ولكننا نقتصر منها على أصحها وأجلاها وأوضحها وأشفاها حتى نأمن بالسلوك فيها من الضلال في الطرُق التي تُبعد السائر فيها عن مقصوده والعياذ بالله.
فنقول: في بيان شيء من طريق معرفة الله تعالى على مناهج الرسل والسلف على جهة التفصيل. للإجمال المتقدم في الباب الذي قبل هذا، فلنذكر إشارة لطيفة على قدر هذا المختصر إلى ثلاثة دلالات: دلالة الأنفس، ودلالات المعجزات، ودلالة الآفاق، وكلها دلَّ عليها القرآن الذي وصفه الله تعالى بأنه يهدي للتي هي أقوم.
أما دلالة الأنفس فإنها بليغة، قال الله تعالى:  قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره. وقال تعالى:  وفي أنفسكم أفلا تبصرون . وقال تعالى:  يا أيها الإنسان ما غرَّك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك .
وقال تعالى:  كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم . وأبسط آية في ذلك آية الحج:  يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍٍ. وقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ . وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ . ومن ثم قيل فكرك فيك يكفيك.
وقد جمع الله تعالى ذكر دلالتي النفوس والآفاق في قوله تعالى : سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ فصلت:53. وذلك أنا نعلم بالضرورة وجودنا أحياء قادرين عالمين ناطقين سامعين مبصرين مدركين بعد أن لم نكن شيئاً، وأن أول وجودنا كان نطفة قذرة مستوية الأجزاء والطبيعة غاية الاستواء، بحيث يمتنع في عقل كل عاقل أن يكون منها بغير صانع حكيم.
وقد اختار المؤمن هذه الحجة في قوله لصاحبه الكافر المخاصم له:  قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاًالكهف:37. وأثنى الله تعالى عليه بذلك وخلَّد ذكره في أفضل كتبه، فكيف لا يختاره المؤمن لتقوية يقينه، ودفع وساوس خصومه وشياطينه؟!
وأما دلالة الآفاق: فما يحدث ويتجدد في العالم من طلوع القمرين والكواكب وغروبها عند دوران الأفلاك الدائرات والسفن الجاريات، والرياح الذاريات والنجوم الثوابت منها، والمعالم والرواجم. والاستدلال بالرواجم جيد لدلالته الواضحة على الفاعل المختار كما يدل على ذلك حركة القمرين الدائمة وسائر النجوم و الأفلاك.
وكذلك تغير أحوال الهواء بالغيوم والصواعق والبروق العجيبة، المتتابعة المختلطة بالغيوم الثقال الحاملة للماء الكثير، والمطفئ بطبعه للنار المضادة له، وما في الجمع بينها وإنشائها، وإنزال الأمطار منها بالحكمة البالغة، لا تختلط قطرة بأخرى ولو اشتدت الرياح العواصف وصغرت القطرة وكثرت وتقاربت حتى تقع متفرقة غير ضارة، فتأتي هذه الأمطار فتعم الأرض سهولها ووعورها وشعابها و شعافها، لينبت الأشجار والفواكه والأزهار والثمار، وتمد البحار والأنهار والآبار.
وقد جمع الله تعالى ذلك في قوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ إلى قوله:  لآياتٍ لقومٍ يعقلون .
وكيف يُنكَر هذا أو يُستبعد وقد حكى الله عن الهدهد وهو من العالم البهيمي أنه وحَّد الله واحتج على صحة توحيده بهذا الدليل المذكور في الآفاق، قال الله حاكياً عنه: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَالنمل:25. يعني المطر والنبات، فاحتج بحدوث هذين الأمرين العجيبين المعلوم حدوثهما مع تكررهما بحسب حاجة الجميع إليهما.
وكذلك قيل لبعض الأعراب بم عرفت ربك؟ فقال: البعرة تدل على البعير وآثار الخطا تدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، كيف لا تدل على العلي الكبير ؟!"[ ].
بلى إنها تدل عليه  .. وما من شيء في خلقه إلا وهو آية باهرة تدل عليه  لمن تدبرها وعقلها ..  فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ
الَّتِي فِي الصُّدُورِ . أي العقول التي في الصدور.
ـ تنبيه:
حجة الآيات التي أودعها الله سبحانه في الكون وفي أنفسنا تدفع بعض الجهل لا كله، وهي لا تغني عن الرسل، إذ لا يدفع الجهل مطلقا سوى حجة الرسل، كما قال تعالى:  لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ النساء:165.
لذلك قضت حكمة الله تعالى ـ رغم قيام الحجة على العباد من غير جهة الرسل ـ أن لا يعذب أحداً من عباده إلا بعد قيام الحجة عليه من جهة الرسل، وبعد بلوغ نذارتهم إليه.
قال الشنقيطي في تفسيره" أضواء البيان ": إن مقتضى القول أن ما أقام الله لهم من البراهين القطعية كخلق السماوات والأرض، وما فيها من غرائب صنع الله الدالة على أنه الرب المعبود وحده. وما ركز فيهم من الفطرة التي فطرهم عليها تقوم عليهم به الحجة ولو لم يأتهم نذير، والآيات القرآنية مصرحة بكثرة بأن الله تعالى لا يعذب أحداً حتى يقيم عليه الحجة بإنذار الرسل وهو دليل على عدم الاكتفاء بما نصب من الأدلة، وما ركز من الفطرة، فمن ذلك قوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً الإسراء:15. ولم يقل حتى نخلق عقولاً، وننصب أدلة، ونركز فطرة. ومن ذلك قوله تعالى:  رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرسُل النساء:165. فصرح بأن الذين تقوم به الحجة على الناس، وينقطع به عذرهم هو إنذار الرسل، لا نصب الأدلة والخلق على الفطرة[ ].
قلت: أما أن يقال نصب الأدلة الكونية، وحجة الميثاق، والفطرة ليس فيها حجة على العباد مطلقاً، فهو قول قد جانب الصواب وخالف النصوص الثابتة في الكتاب والسنة.
ولكن الذي يمكن قوله هو ـ ما أسلفناه من قبل ـ من أن هذه الحُجج لا تكفي منفردة لدفع مطلق الجهل، كما أنها لا تغني العباد عن حاجتهم للرسل وما جاءوا به من عند ربهم .. وأن العذاب مشروط بمعاندة حجة الرسل وليس غيرها من الحجج، والله تعالى أعلم.


يتبع

اخوكم
ابو عزام الانصاري
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
كتاب العذر بالجهل وقيام الحجة للشيخ ابو بصير الطرطوسي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» كتاب العذر بالجهل وقيام الحجة للشيخ ابو بصير الطرطوسي الموضوع الثاني
» كتاب قواعد في التكفير للشيخ ابو بصير الطرطوسي
» كتاب قواعد في التكفيرالقاعدة التاسعة للشيخ ابو بصير الطرطوسي
» كتاب قواعد في التكفيرالقاعدة الثامنة للشيخ ابو بصير الطرطوسي
» كتاب قواعد في التكفيرالقاعدة الحادية عشر للشيخ ابو بصير الطرطوسي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
مــــــــــــــــــــــنــــــتدى ألتــــــــــــــــــــوحيـــــــــــد :: الاقسام الشرعية :: مكتبـــه المنتدى-
انتقل الى: