مــــــــــــــــــــــنــــــتدى ألتــــــــــــــــــــوحيـــــــــــد
حياكم الله وبياكم في منتدى التوحيد
يسعدنا تسجيلكم ومشاركتكم اسره المنتدى
مــــــــــــــــــــــنــــــتدى ألتــــــــــــــــــــوحيـــــــــــد
حياكم الله وبياكم في منتدى التوحيد
يسعدنا تسجيلكم ومشاركتكم اسره المنتدى
مــــــــــــــــــــــنــــــتدى ألتــــــــــــــــــــوحيـــــــــــد
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

مــــــــــــــــــــــنــــــتدى ألتــــــــــــــــــــوحيـــــــــــد

حياكم الله وبياكم في منتدى التوحيد
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته,,الى اخواننا الاعضاء والمشرفين والاداريين نبلغكم بانتقال المنتدى الى الرابط التالي http://altawhed.tk/ علما ان المنتدى هذا سيغلق بعد مده نسئلكم الدعاء وننتظر دعمكم للمنتدى الجديد وفقنا الله واياكم

 

 كتاب قواعد في التكفير للشيخ ابو بصير الطرطوسي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
حامل المسك1
المدير العام
المدير العام
حامل المسك1


كتاب قواعد في التكفير للشيخ ابو بصير الطرطوسي 190070434
عدد المساهمات : 226
نقاط : 421
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 03/04/2011
الموقع : بلاد الرافدين

كتاب قواعد في التكفير للشيخ ابو بصير الطرطوسي Empty
مُساهمةموضوع: كتاب قواعد في التكفير للشيخ ابو بصير الطرطوسي   كتاب قواعد في التكفير للشيخ ابو بصير الطرطوسي I_icon_minitimeالجمعة أبريل 08, 2011 3:29 am

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

احبتي الكرام اليكم هذا الكتاب عسى ان يكون حجة لي يوم القيامة

وهو بعنوان ((قواعد في التكفير ))


إهـداء

إلى خوارج هذا الزمان، الذين أُصيبوا بِشَرَه التَّكفير، فانتهكوا حرمات العباد والبلاد ..!
إلى أهل التجهُّم والإرجاءِ؛ الذين ضلُّوا وأضلوا .. فلبَّسوا على الناس دينهم!
إلى كلِّ من ينشد الحقَّ في مسائل التوحيدِ والتكفير ..!
إلى إخواني وأحبتي .. من أهل التوسط والاعتدال .. أهل السنَّة والجماعة .. وما أقلهم في هذا الزمان!
إليهم جميعاً أهدي هذا الكتاب .. راجياً أن يكون للجميع سبب هداية ورشاد .. وأن يكون لهم مفتاح خير مغلاق شرٍّ .. إنه تعالى يهدي من يشاء.

المؤلف

ـ تنبيـه ـ

اعلم أن إصدار الأحكام على الأشياء والآخرين بالكفر أو الإيمان أمر هام جداً في ديننا وشريعتنا، والإقدام عليه من غير علم ولا دراية أو تثبت، يتسبب بنتائج وتبعات خطيرة ـ في الدنيا والآخرة ـ لا تحمد عقباها ..!
لذا نصيحتي لكل من يستشرف مَهمَّة الحكم على الأشياء والآخرين بالكفر أو الإيمان أن يلم ـ قبل إصدار الأحكام واتخاذ المواقف ـ بجميع القواعد ذات العلاقة بمسائل الكفر والإيمان، إلماماً وافياً شافياً ومن غير إهمالٍ لشيءٍ منها؛ فإن ما تطلقه قاعدة قد تقيده وتخصصه قاعدة أخرى، وما تُقيده قاعدة قد تُطلقه قاعدة أخرى .. أو قد تلغيه وتمنع من العمل به من وجه دون وجه .. بحسب الحالة المراد الحكم عليها .. وما يكون غامضاً مختصراً في قاعدة قد توضحه وتشرحه قاعدة أخرى!
وغالب الذين يخطئون في مسائل الكفر والإيمان، يكون بسبب تعاملهم مع قاعدة أو قاعدتين من قواعد التكفير متجاهلين بقية القواعد الأخرى، التي قد تلقي فهماً آخر للمسألة .. مما يجعلهم يقعون في محظور الغلو والإفراط، أو الإرجاء والتفريط ..!
لذا ـ تفادياً من الوقوع في الزلل والانحراف الآنف الذكر ـ نؤكد على ضرورة مراعاة وإعمال جميع قواعد التكفير المثبتة في هذا الكتاب .. بعضها مع بعض .. من غير ردٍّ أو تجاهل لشيء منها .. والله المستعان.

بسم الله الرحمن الرحيم
على الله توكلت، وهو حسبي ونعم الوكيل
ـ المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ آل عمران:102.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً النساء:1.
 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً  الأحزاب:70-71.
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلّ مُحدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
من يتأمل واقع كثير من الناس يجد أنهم يجنحون في كثيرٍ من حياتهم الدينية والدنيوية إما إلى غلوٍّ وإفراط، وإما إلى جفاءٍ وتفريط .. والوسط بينهما يكاد يكون عزيزاً نادراً، لكنه ـ في هذه الأمة ـ لا يمكن أن ينضب، وهو باقٍ بقاء الحق .. وإلى يوم القيامة بإذن الله.
وفي الآونة الأخيرة بزغت ظاهرة الغلو في التكفير من جديد، وبشكلٍ ملفت للإنتباه؛ ظاهرة تكفير الناس .. وانتهاك الحرمات بغير وجه حق .. أو مراعاةٍ لضوابط وقواعد التكفير ..!
مما حدى بالقوم ـ عن قصدٍ أو غير قصد ـ أن يقفوا تحت مظلة الخوارج الأوائل، وتحت رايتهم وشعارهم .. وينضموا إلى حزبهم وقافلتهم السوداء؛ الخوارج الذين حكَّموا الظن بدلاً من اليقين، والجهل بدلاً من العلم، فكفَّروا الناس بالذنوب التي هي دون الكفر الأكبر، ورتبوا على ذلك ولاء وبراء، وعداوة وبغضاء .. فأحلوا بذلك لأنفسهم انتهاك الحرمات بغير سلطان من الله!
وفي هؤلاء يصدق قول النبي :" يقتلون أهل الإسلام، ويتركون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد " متفق عليه.
وقوله :" سيخرج قوم آخر الزمان أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، لا يُجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة " البخاري.
وكان ابن عمر يقول فيهم:" إنهم انطلقوا إلى آياتٍ نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين! " البخاري.
وكذلك في الموقف المقابل ملاحظة حزب أهل التجهم والإرجاء؛حزب التفريط والجفاء، أصحاب النفس الإرجائي الإتكالي، القائل: لا يضر مع التصديق ذنب .. أي ذنب .. ومن قال لا إله إلا الله دخل الجنة مهما كان منه من عمل!!
فتعاملوا مع الناس على أساس أسمائهم التي تنم عن انتسابهم لأبوين مسلمين، بغض النظر عن عقائدهم وأفعالهم الظاهرة، فالمرء يكفي عندهم لأن يكون مسلماً في الدنيا والآخرة .. وأن يُزوج من بنات المسلمين، ويُعامل معاملة المسلمين من حيث الحقوق والواجبات .. أن يكون اسمه أحمد أو خالداً .. أو يحمل شهادة ميلاد مكتوب عليها مسلم .. ولا ضير عليه بعد ذلك أن يكون شيوعياً أو علمانياً حاقداً على الإسلام والمسلمين، شتاماً للرب والدين ولأتفه الأسباب .. وممن يُحاربون الله ورسوله .. لا يُراعي في المؤمنين
إلاً ولا ذمَّة .. فلا يضر مع اسمه الإسلامي أو هويته الإسلامية ذنب بل ولا كفر[ ]!!
فانطلقوا إلى آيات نزلت في المؤمنين الموحدين، ونصوصٍ قِيلت في عصاة الموحدين .. فحملوها على الكفار المارقين، والزنادقة الملحدين .. والطواغيت الآثمين .. وجعلوهم بمرتبة عصاة أهل القبلة من المؤمنين !!
فأماتوا ـ بذلك ـ الأمة أماتهم الله، وأصابوها بالوهن؛ حب الدنيا وكراهية الموت، وورثوا أبناءها روح الإتكالية وحب ترك العمل، حتى سهل عليهم ترك الحكم بما أنزل الله واستبداله بحكم وشرائع الطاغوت .. وصوروا لهم أن الأمر لا يتعدى أن يكون معصيةً .. وأن يكون كفراً دون كفر .. وأنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه .. فجرأوهم بذلك على الكفر البواح وهم يدرون أو لا يدرون ..!
وكذلك الصلاة ـ عمود الإسلام .. آخر ما يفقد من الدين؛ فإذا فُقدت فُقد الدين .. الصلاة التي حكم النبي  على تاركها بالكفر والشرك والخروج من الملة ـ فقد هونوا من شأنها؛ لأنها عمل .. وجادلوا عن تاركها أيما جدالٍ .. إلى أن هان على الناس تركها، وأصبح تركها صفة لازمة لكثير من الناس .. ولا حول ولا قوة إلا بالله!
فقالوا لهم: لا عليكم، هذا الكفر .. كفر عمل .. وكفر العمل ـ ما دام عملاً ـ ليس بالكفر الذي تذهبون إليه، وإنما هو كفر أصغر، وكفر دون كفر .. فوسعوا بذلك دائرة الكفر العملي الأصغر بغير علم ولا برهان حتى أدخلوا في ساحته الكفر الأكبر، وأئمة الكفر البواح ..!
ومن أخلاقهم وشذوذاتهم كذلك أنهم ضيقوا نواقض التوحيد وحصروها في ناقضة الاستحلال أو الجحود القلبي فقط، والمستحل عندهم الاستحلال الموجب للكفر هو الذي يسمعهم عبارة الاستحلال القلبي واضحة صريحة، وما سوى ذلك من القرائن العملية الظاهرة الدالة على الرضى والاستحلال والجحود، وحقيقة ما وقر في الباطن فلا اعتبار لها .. فباب التأويل مفتوح على مصراعيه، وساحة الأعذار الواهية، والتأويلات الباطلة تسع أطغى طغاة الأرض ..!!
فجرأوا الناس على ترك العمل، وعيشوهم على الرجاء المحض، وعلى أمل وأمان الذرة الواحدة من الإيمان ..  أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُون الأعراف:99.
ومما لا شك فيه أن كلا الفريقين ـ فريق الغلو وفريق الإرجاء ـ على ضلالٍ كبير، وخطر عظيم في دينهم؛ فكما أن تكفير المسلمين بالظن، ومن دون علم ولا برهان مؤداه أن يرتد الحكم بالكفر على صاحبه الذي أطلقه، كذلك فإن عدم تكفير الكافر، أو حتى الشك في كفره قد يؤدي بصاحبه إلى الكفر والخروج من دائرة الإسلام[ ].
والحصن من الانجراف وراء كلا الفريقين، وغيرهم من أهل البدع والأهواء هو العلم النافع؛ وأهم العلم و أوكده وأشرفه علم التوحيد الذي يعرِّف العبد على خالقه وعلى خصائصه، وأسمائه وصفاته  .. وعلى حقه عليه .. كما يعرفه على الإيمان وشروطه ومتطلباته وأسباب زيادته فيأتيها، ويجتهد في طلبها .. وعلى الشرك وما يقرب إليه فيجتنبه ويعتزله .. ويكفر به وبأهله.
فجاهل التوحيد سهل الغزو والمنال، لا تؤمن عليه فتنة الوقوع في شباك الشرك والكفر، وأن يكون ظهيراً للمجرمين؛ لأن جاهل الشيء كفاقده، وفاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه.
كما أن فاقد التوحيد لا يثبت له بنيان ولا قرار .. ولا يُقبل منه طاعة ولا عمل .. مهما اجتهد في الطاعات ..!
لذا نؤكد على أهمية التفقه بالتوحيد .. وأن أول ما ينبغي على المسلم تعلمه والتفقه به .. والنفور إلى تحصيله هو التوحيد؛ فيطلبه بدليله من الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة .. بعيداً عن طريقة ومسائل أهل الكلام والأهواء وغيرهم من أهل البدع الذين ضلوا الطريق .. وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً!
قال تعالى:فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُمحمد:19.
وعن جندب بن عبد الله، قال: كنا مع النبي  ونحن فتيان، فتعلمنا الإيمان ـ أي التوحيد ـ قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً[ ].
وهذا البحث الذي أسميته" قواعد في التكفير " هو محاولة جادة لترشيد طرفي الغلو والجفاء .. طرفي الإفراط والتفريط .. إلى الاعتدال والوسطية الحقة التي جاء بها الإسلام، ولكي يكون عوناً لكل من ينشد الحق في مسائل التوحيد .. مسائل الكفر والإيمان.
وقد تناولت فيه ضوابط وقواعد التكفير، وأجملتها في إثنى عشرة قاعدة .. ثم أتبعت القواعد بملحق أجبت فيه على بعض المسائل الهامة ـ ذات العلاقة بموضوع هذا الكتاب ـ أشكل فهمها على كثير من الناس.
وإني لأعترف أن الطريق وعر وصعب .. وأن المعبر طويلٌ وشاق .. وأن المزالق فيه قاتلة .. وأن الزاد قليل .. ولولا شعوري بالضرورة الملحة للبحث في هذا الموضوع الهام .. وحاجة الناس إليه .. لما شرَعت ولا تجرأت، راجياً من الله تعالى العون والتوفيق والسداد .. فإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان .. وأستغفر الله، وأتوب إليه .. وإن أصبت وأحسنت .. فمن الله تعالى وحده، وله الفضل كله .. وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ هود:88. وهو حسبي ونعم الوكيل.

وصلى الله على محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبها
4 صفر/1415 هـ. عبد المنعم مصطفى حليمة
13 تموز/1994م. " أبو بصير الطرطوسي "




















ـ تمهيد لا بد منه:
ـ مصطلحات ومفاهيم بين يدي البحث ـ
لفهم قواعد التكفير وضوابطه، لا بد من تمهيد نوضح فيه المراد من بعض المفاهيم والمصطلحات الشرعية ذات العلاقة بموضوع هذا البحث، وهي:
1ـ الكُفْرُ.
المعنى اللغوي: هو تغطية الشيء وستره، وكل من ستر شيئاً فقد كفره، ومنه سمي الزَّراعُ كافراً لستره البذرَ بالتراب.
قال تعالى: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهالحديد:20. أي أعجب الزراع نباته. ومن ذلك سُمي الكافر كافراً لأنه ستر نعم الله عليه وجحدها؛ قال الأزهري: ونعمه آياته الدالة على توحيده، والنعم التي سترها الكافر هي الآيات التي أبانت لذوي التمييز أن خالقها واحد لا شريك له، وكذلك إرساله الرسل بالآيات المعجزة والكتب المنزلة والبراهين الواضحة نعمة منه ظاهرة، فمن لم يصدق بها وردها فقد كفر نعمة الله أي سترها وحجبها عن نفسه[ ].
المعنى الاصطلاحي للكفر:هو نقيض الإيمان وضده؛ وهو الكفر بالله تعالى وبأنعمه.
والكفر يُطلق في الشريعة ويُراد منه: الكفر الأكبر، والكفرُ الأصغر.
ـ الكفر الأكبر: هو الكفر الذي يمنع عن صاحبه صفة ومسمى الإسلام .. أو الكفر الذي يخرج صاحبه من ملة الإسلام .. ويرفع عنه حصانة الإسلام وحرمته .. فتجرى عليه في الدنيا أحكام الكفر إن كان كفره أصلياً، أو أحكام الردة إن كان كفره طارئاً بعد إسلام .. وفي الآخرة يكون جزاؤه نار جهنم خالداً فيها أبداً وبئس المصير .. لا تجوز بحقه شفاعة الشافعين.
والكفر الأكبر له نفس مدلولات ومعاني الكفر الاعتقادي، أو الكفر البواح، فحيثما يُطلق القول بواحد من هذين التعبيرين فإنه يُراد به الكفر الأكبر ودلالاته .. والعكس كذلك.
ـ مثال هذا النوع من الكفر في القرآن الكريم:
الأمثلة في القرآن الكريم الدالة على هذا النوع من الكفر كثيرة منها، قو تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُالبقرة:126.
وقال تعالى:لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمالمائدة:17.
وقال:لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍالمائدة:73.
وقال:وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَالبقرة:39.
وقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَالبقرة:162.
وغيرها كثيرُ من الآيات التي تدل على هذا النوع من الكفر، والذي يراد به الكفر الأكبر المخرج عن الملة.
وفي الحديث:عن عبادة بن صامت، قال:" دعانا النبي ، فبايعناه، فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان "متفق عليه.
فالكفر البواح هنا، يراد به الكفر الأكبر المخرج عن الملة، وهذا النوع من الكفر يندرج تحته أنواع وأصناف من الكفر منها: كفر العناد،[ ] وكفر الإنكار،[ ] وكفر الكبر،[ ] وكفر الجحود،[ ]، وكفر النفاق،[ ] وكفر التكذيب والاستحلال[ ] وكفر الكره والبغض[ ]وكفر الطعن والإستهزاء،[ ] وكفر الإباء الإعراض[ ]، فمن أتى كفره من جهة أي نوع أو سبب من هذه الأسباب المكفرة، فهو كافر كفراً
بواحاً مخرجاً عن الملة، وإن اجتمع فيه أكثر من نوع أو سبب من هذه الأسباب ، يكون كافراً كفراً مغلظاً ومركباً .. فالكفر منه المجرد ومنه المغلظ والمركب يعلو بعضها البعض!
ـ الكفر الأصغر: هو كفرٌ دون كفر؛ أي ليس بالكفر الأكبر الذي يُخرج صاحبه من الملة، كما أنه لا يسلبه صفة الإسلام وحكمه ولا حصانته، وهو في الآخرة يترك لمشيئة الله ، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه، ولو عُذب فهو لا يخلد في نار جهنم أبداً كصاحب الكفر الأكبر الذي مات على الكفر والشرك.
وهو ممن تنالهم يوم القيامة ـ بإذن الله تعالى ـ شفاعة الشافعين .. ممن يرتضي الله تعالى لهم الشفاعة ويأذن.
ويُطلق على هذا النوع من الكفر كذلك: الكفر العملي الأصغر، وكفر النعمة، وكفر دون كفر .. فحيثما يطلق حكم من هذه الأحكام فاعلم أنه يراد به الكفر الأصغر الذي لا يُخرج صاحبه من الملة.
ـ مثال هذا النوع من الكفر:
قال تعالى:قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ النمل:40. أي ءَأشكر النعمة أم أكفرها فلا أشكرها، فالكفر هنا يراد به كفر النعمة، وليس الكفر بالله .
وكذلك قول فرعون لموسى، كما في قوله تعالى:قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ .وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ الشعراء:19 . أي من الجاحدين لأنعمنا، قاله ابن عباس وغيره، واختاره ابن جرير في التفسير[ ]. ومثل هذا النوع من الكفر بالطاغوت مطلوب ومحمود .. فالكفر هنا أطلق وأريد منه معنـاه
اللغوي لا الاصطلاحي الذي يأثم صاحبه.
وفي الحديث، عن ابن عباس قال: قال النبي :" أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرون "قيل:أيكفرون بالله؟ قال:" يكفرون العشير، ويكفرون الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئاً قالت ما رأيت منك خيراً قط " البخاري. فالكفر هنا يراد به كفر النعمة والإحسان، فهو كفر دون الكفر الأكبر المخرج عن الملة.
والحديث قد ترجم له البخاري في صحيحه بعنوان: كفران العشير، وكفر دون كفر.
قال القاضي أبو بكر بن العربي في شرحه: مراد المصنف أن يبين أن الطاعات كما تسمى إيماناً، كذلك المعاصي تسمى كفراً، لكن حيث يطلق عليها الكفر لا يراد الكفر المخرج من الملة[ ].
وكذلك قوله :"سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" مسلم.
وقوله :" اثنان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت " مسلم.
وقوله :" من أتى حائضاً، أو امرأةً في دبرها، أو كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد "[ ].
وعن طاووس، قال: سئل ابن عباس عن الذي يأتي امرأته في دبرها؟ فقال: هذا يسألني عن الكفر؟![ ].
فالكفر الوارد في هذه الأحاديث يراد به الكفر دون كفر أو الكفر العملي الأصغر الذي لا يُخرج صاحبه من الملة، والله تعالى أعلم.
ـ تنبيه: كفر النعمة منه ما يكون كفراً أصغر وكفراً دون كفر لا يُخرج صاحبه
عن الملة، وذلك عندما يكون سبب الكفر الإنشغال بالنعمة عن واهبها، أو عدم القيام بحقها على الوجه الشرعي الصحيح. ومنه ما يكون كفراً يخرج صاحبه من الملة، وذلك عندما يجحد واهب النعمة وفضله عليه، ويرد الفضل لنفسه وجهده من دون الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى عن قارون:قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَالقصص:78 .إلى قوله: وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَالقصص:82 .
2ـ الشِّركُ.
هو أن تجعل لله تعالى نداً في ألوهيته أو ربوبيته أو في شيء من خصائصه وصفاته  .. وهو الذي خلقك!
والشرك في الشرع نوعان: شرك أكبر، وشرك أصغر.
ـ الشرك الأكبر: هو رديف الكفر الأكبر، ويترتب عليه ما يترتب على الكفر الأكبر؛ من حيث أنه يحبط العمل كلياً، ويخرج صاحبه من الملة، ويخلده في نار جهنم أبداً، ويمنع عنه شفاعة الشافعين.
والدليل على هذا النوع من الشرك، قوله تعالى:إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ النساء:48.
وقال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّة المائدة:72.
وقال تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ الزمر:65.
وقال تعالى: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ الأنعام:88.
فالشرك هنا له نفس مدلولات ومعنى الكفر الأكبر وتبعاته، ومنه يستنتج أن كل كفر شرك، وكل شرك كفر، وكل كافر مشرك، والعكس أيضاً.
كما في قوله تعالى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهآل عمران:151. فهم كفروا وبنفس الوقت وصفوا بأنهم أشركوا.
وقال تعالى:مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
بِالْكُفْرالتوبة:17.
وقال تعالى:إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ البينة:6 .فالذين كفروا هم الذين أشركوا.
وفي سورة الكهف التي جاء فيها قصة الرجل الذي أنعم الله عليه بجنتين من أعناب ونخل .. فجحد نعم الله عليه وأنكر قيام الساعة .. نجد أن القرآن الكريم تارةً وصفه بالكفر، وتارةً وصفه بالشرك مما دل أن كلا منهما مستلزم للآخر، كما في قوله تعالى:قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً إلى قوله تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً الكهف:42. فوصف فعله بالكفر والشرك.
وكذلك قوله تعالى:لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَة المائدة:73. ومما لا شك فيه أن قولهم: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَة هو صريح الشرك، ومع ذلك أطلق عليهم وصف الكفر، فدل أن كل شرك هو كفر، وكل كافر هو مشرك .. والعكس أيضاً.
وفي الحديث، عن بريدة قال: سمعت رسول الله  يقول:" العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر "[ ].
وعن ثوبان، قال: سمعت رسول الله  يقول:" بين العبد وبين الكفر والإيمان الصلاة؛ فإذا تركها فقد أشرك "[ ].
فتأمل كيف أن الحديث الأول أطلق على تارك الصلاة صفة الكفر، وفي الحديث الآخر أطلق عليه صفة الشرك، علماً أن العلة واحدة في كلا الحديثين؛ وهي ترك الصلاة،
مما دل أن أحدهما إذا أطلق فهو يستلزم الآخر ويدل عليه، والله تعالى أعلم.
فإن قيل هل يوجد فرق بين الكفر والشرك ..؟
أقول: إن أفرد ذكر أحدهما وأطلق في نص فإنه يُراد به الكفر والشرك كما دلت على ذلك النصوص الآنفة الذكر، وإن قرنا في نص واحد، كأن يُقال: كفر وشرك أو كافر ومشرك .. فإنهما في هذه الحالة يتفقان من حيث الدلالات الشرعية وما يترتب عليهما من تبعات، ويتغايران من حيث المعنى اللغوي، فيكون المراد: كافر من جهة الجحود والنكران .. وتغطية وستر ما يجب إظهاره .. ويكون مشرك: من جهة وقوعه في الشرك من جهة الإقرار بتعدد الآلهة .. وصرف العبادة لها.
ـ الشرك الأصغر: هو الشرك الخفي، وهو دون الشرك الأكبر، وهو رديف الكفر الأصغر؛ من حيث أنه لا يخرج صاحبه من الملة، ولا ينفي عنه الإيمان مطلقاً، وفي الآخرة يترك لمشيئة الله إن شاء عذبه وحاسبه وإن شاء عفا عنه، ولو عذب فهو ممن تنالهم شفاعة الشافعين، بإذن الله تعالى.
عن محمود بن لبيد، أن رسول الله قال:" إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر "قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال :"الرياء، يقول الله  إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء "[ ].
وعنه قال: خرج النبي  فقال:" يا أيها الناس! إياكم وشرك السرائر " قالوا:يا رسول الله! وما شرك السرائر؟ قال: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهداً لما يرى من نظر الناس إليه، فذلك شرك السرائر "[ ].
وروى البيهقي، عن يعلى بن شداد عن أبيه قال: كنا نعد الرياء في زمن النبي  الشرك الأصغر[ ].
وكذلك قول النبي :" كل يمين يحلف بها دون الله شرك "[ ]. وقوله :" من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك "[ ]. فالشرك هنا يراد به الشرك الأصغر الذي هو دون الشرك الأكبر، والله تعالى أعلم.
3ـ الفسقُ.
فسَقَ كل ذي قشر، فسقاً؛ أي خرج عن قشره. ويقال فسقت الرطبة عن قشرها، والفأرة عن جُحرها. وفلان فسَق؛ أي عصى وجاوز حدود الشرع. ويقال: فسق عن أمر ربه؛ أي خرج عن طاعته[ ].
والفسق من حيث الدلالة الشرعية أيضاً نوعان: فسق أكبر يُخرج صاحبه من الملة، وفسق أصغر دون الفسق الأكبر.
ـ الفسق الأكبر: هو رديف الكفر الأكبر، والشرك الأكبر؛ حيث أنه يخرج صاحبه من الملة وينفي عنه مطلق الإيمان كالكفر والشرك، ويترتب عليه من أحكام ما يترتب على الكفر والشرك، كما في قوله تعالى: وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ البقرة:99. وقال تعالى: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ  آل عمران:82. وقال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ المائدة:47. وقال تعالى: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ التوبة:67. وقال تعالى: وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ النور:55. وقال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ الحشر:19. فالفسق الوارد في هذه الآيات يُراد به الفسق الأكبر المخرج لصاحبه عن الملة.
ـ الفسق الأصغر: أو فسق دون فسق، وهو يُطلق على مرتكبي المعاصي التي لا تُخرج صاحبها من الملة، ولا تنفي عنه مطلق الإيمان، ولا مسمى ووصف الإسلام، كما في قوله تعالى:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُواالحجرات:6. وقوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَج البقرة:197. وقوله: وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُم  البقرة:282. فالفسوق الوارد في هذه الآيات يُراد به الفسق الأصغر.
وكذلك في الحديث فقد صح عن النبي  أنه قال:" سباب المسلم فسوق ". وقال :" إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق ". وقال :" لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر إلا ارتد عليه إن لم يكن صاحبه كذلك " البخاري. فالفسوق الوارد في هذه الأحاديث يراد به المعصية أو الذنب الذي لا يخرج صاحبه من الملة، ولا ينفي عنه مطلق الإيمان.
ومنه يُعلم أن الفسق يُطلق أحياناً ويُراد به الكفر الأكبر المخرج من الملة، وأحياناً يُطلق ويراد به الذنب والمعصية التي هي دون الكفر، بحسب درجة المعصية .. ونو عيتها .. وحال العاصي ذاته.
فإن قيل: كيف نفرق بينهما عند ورودهما في النص ..؟
أقول: من خلال القرائن الواردة في النص .. يُعرف أن المراد من الفسق؛ الفسق الأكبر أم الفسق الأصغر .. فالقرائن الواردة في النص ـ أو في نصوص أخرى ـ هي التي تعينك على معرفة هذا من ذاك.
4ـ الظلمُ.
الظلم: هو مجاوزة الحد، ووضع الشيء في غير موضعه. وهو في الشرع كذلك نوعان: ظلم أكبر، وظلم أصغر، أو ظلم دون ظلم.
ـ الظلم الأكبر: هو رديف الكفر والشرك، يطلق ويراد به نفي مطلق الإيمان عن صاحبه؛ لأن أظلم الظلم الذي لا يعدله ظلم هو الإشراك بالله  .. وأن تجعل لله تعالى نداً في أي خاصية من خصائصه  وهو الذي خلقك .. كما أن أعدل العدل الذي لا يعدله عدل، هو توحيد الله  وإفراده بالعبودية.
والأدلة على هذا النوع من الظلم كثيرة منها، قوله تعالى:إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌلقمان:13.
ولما أنزل الله :الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍالأنعام:82.قال أصحاب رسول الله :أينا لم يظلم؟ فأنزل الله: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ.
قال ابن حجر في الفتح 1/87: ووجه الدلالةمنه أن الصحابة فهموا من قوله:"بظلم" عموم أنواع المعاصي، ولم ينكر عليهم النبي  ذلك، وإنما بين لهم أن المراد أعظم أنواع الظلم وهو الشرك، فدل أن للظلم مراتب متفاوتة ا- هـ.
ومن الأدلة كذلك على هذا النوع من الظلم والذي يراد به الكفر والشرك، قوله تعالى:وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ الزخرف:39 . وقوله تعالى:فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَالأعراف:9. وقوله تعالى:وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ النحل:34. وقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِيالبقرة:150. وغيرها كثير من الآيات التي تدل على هذا النوع من الظلم والذي يراد به الكفر الأكبر.
ـ الظلم الأصغر: وهو ظلم دون ظلم؛ لا ينفي مطلق الإيمان عن صاحبه، كما لا ينفي عنه صفة الإسلام واسمه.
والدليل على هذا النوع من الظلم كما في قوله تعالى:وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهالبقرة:231. وقوله تعالى:قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهصّ:24. وقوله:وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهآل عمران:135. وقوله تعالى:قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَالأعراف:23 . فالظلم الوارد في هذه الآيات يراد به الظلم الأصغر الذي لا يترتب عليه ما يترتب على الظلم الأكبر المرادف للكفر والشرك.
وفي الحديث فقد صح عن النبي  أنه قال:" الظلم الذي لا يغفره الله الشرك، قال الله: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، وأما الظلم الذي يغفره فظلم العباد فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه الله فظلم العباد بعضهم بعضاً حتى يُدبر لبعضهم من بعض"[ ].
ومنه يُعلم أن الظلم يطلق أحياناً ويراد به الكفر والشرك، وأحياناً يطلق ويراد به الذنب أو المعصية التي هي دون الكفر والشرك .. والذي يدلل على كلٍّ منهما القرائن المحفوفة بالنص .. أو نصوص أخرى ذات العلاقة بالموضوع.
ومن جميع ما تقدم نستخلص القاعدة التالية: أن كلَّ كفر شركٌ، وكلَّ شرك كفرٌ، وكل شرك كفر ظلم وفسق، وليس كلُّ ظلم وفسق كفراً وشركاً.
ـ قول أهل العلم في الكفر دون كفر، والفسق دون فسق، والظلم ظلم.
في قوله :" الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل". قال ابن تيميه في الفتاوى 7/67: قال ابن عباس وأصحابه: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وكذلك قال أهل السنة كأحمد وغيره ا- هـ.
وعن طاووس، قال: قلت لابن عباس: ومن لم يحكم بما أنزل الله  فهو كافر؟ قال: هو به كفر وليسس كمن كفر بالله واليوم الآخر وملائكته وكتبه ورسله. وقال: كفر لا ينقل عن الملة[ ].
وعن ابن جريح عن عطاء قال: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق.
قال محمد بن نصر: قالوا: وقد صدق عطاء، قد يسمى الكافر ظالماً، ويسمى العاصي من المسلمين ظالماً، فظلم ينقل عن ملة الإسلام، وظلم لا ينقل. قال: وكذلك الفسق فسقان، فسق ينقل عن الملة وفسق لا ينقل عن الملة، فيسمى الكافر فاسقاً، والفاسق من المسلمين فاسقاً قال تعالى:وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ . يريد الكفار دل على ذلك قوله:كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا. ونسمي الفاسق من المسلمين فاسقاً ولم يخرج من الإسلام. قال تعالى:وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون . فقال العلماء في تفسير الفسوق هنا: هي المعاصي. قالوا: فلما كان الظلم ظلمين، والفسق فسقين، كذلك الكفر كفران. أحدهما: ينقل عن الملة، والآخر لا ينقل عن الملة، وكذلك الشرك شركان: شرك في التوحيد ينقل عن الملة، وشرك في العمل لا ينقل عن الملة وهو الرياء[ ].
5 ـ النفاقُ.
النفاق: هو إضمار الكفر وإظهار الإسلام، وهو في الشرع نوعان: نفاق اعتقادي ونفاق عملي.
ـ النفاق الاعتقادي: هو الذي يكون بمعنى إبطان الكفر وإظهار الإسلام فرقاً من أن يطاله سيف الحق، والنفاق الاعتقادي يترتب عليه ما يترتب على الكفر الأكبر؛ من حيث انتفاء الإيمان عن صاحبه، وخلوده يوم القيامة في الدرك الأسفل من النار أبداً .. مع بقاء حكم الإسلام له في الدنيا .. ومعاملته معاملة المسلمين ما لم يُظهر نفاقه وكفره؛ وذلك أن الأحكام الدنيوية تُقام بناء على الظاهر، وبناء على ما يُظهره المرء من كفر أو إسلام.
ومن الأدلة على هذا النوع من النفاق، قوله تعالى:إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا النساء:145.وقوله تعالى:وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ التوبة:68. وقوله تعالى:إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاًالنساء:140. فالنفاق الوارد في هذه الآيات يراد به النفاق الاعتقادي المنافي لمطلق الإيمان، والمخرج لصاحبه عن الملة، والمخلد له في النار.
ـ تنبيه: حيثما يُطلق النفاق في القرآن فاعلم أنه يُراد به النفاق الاعتقادي المنافي لمطلق الإيمان، بخلاف الكفر والظلم والفسق فإنها أحياناً تأتي بمعنى الكفر الأكبر وأحياناً بمعنى الكفر الأصغر، وكذلك الظلم والفسق كما بينا ذلك من قبل.
ـ النفاق العلمي: هو دون النفاق الاعتقادي، وهو لا ينفي عن صاحبه مطلق الإيمان، وصاحبه في الآخرة يُترك للمشيئة إن شاء الله عذبه، وإن شاء عفا عنه .. ولو عذب لا يُخلد فيها كالكافرين .. كما أن الشفاعة تدركه بإذن الله تعالى.
ومن الأدلة على هذا النوع من النفاق، قوله :" من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق" مسلم. وقوله :" أربعٌ من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خِلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها، إذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر" مسلم. فالنفاق هنا يُراد به النفاق العملي الأصغر الذي لا ينفي عن صاحبه مطلق الإيمان.
قال النووي في الشرح 2/46-47: قد أجمع العلماء على أن من كان مصدقاً بقلبه ولسانه وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر ولا هو منافق يخلد في النار. وقوله :" منافقاً خالصاً " معناه شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال، وقد نقل الإمام أبو عيسى الترمذي معناه عن العلماء مطلقاً فقال: إنما معنى هذه عند أهل العلم نفاق العمل. وحكى الخطابي رحمه الله قولاً آخر، أن معناه التحذير للمسلم أن يعتاد هذه الخصال التي يخاف عليه أن تفضي به إلى حقيقة النفاق ا- هـ.
وقال ابن تيمية في الفتاوى 11/140-143: والنفاق يطلق على النفاق الأكبر الذي هو إضمار الكفر، وعلى النفاق الأصغر الذي هو اختلاف السر والعلانية في الواجبات.
وعلى هذا فالنفاق اسم جنس تحته نوعان: قد يراد به النفاق في أصل الدين، مثل قوله:إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ و إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ المنافقون:1. والمنافق هنا الكافر. وقد يراد به النفاق في فروعه، مثل قوله :"آية المنافق ثلاث" وقوله:"أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً" ا- هـ.
ـ مسألة:فإن قيل ما الفرق بين التقية والنفاق، إذ كلاهما يقومان على معنى إظهار خلاف المضمر في الباطن ..؟
أقول: الفرق بينهما شاسع وكبير؛ فالتقية تعني إبطان الإيمان والإسلام، والموالاة لله ولرسوله، وللمؤمنين .. وإظهار ما يُخالف ذلك لحظة الإكراه أو الضرورة الملزمة .. بالقدر الذي يرفع الضرر والحرج من غير توسع ولا زيادة .. شريطة أن يكون الإكراه أو الأذى لا يندفع إلا بإظهار هذا القدر من المخالفة .. فإذا انتفى الإكراه أو رُفع تعين التوقف عن العمل بالتقية، ولا بد .. كما أن التقية تكون باللسان دون العمل؛ إذ حرمة المسلمين متساوية ومتكافئة فلا يجوز له أن يدفع الأذى عن نفسه بأذى إخوانه، أو ينقذ نفسه على حساب أمن وسلامة إخوانه؛ كأن يُقال له قتلناك أو قتلت أخوك بنفسك .. أو أعنتنا على قتل أو قتال إخوانك .. فلا يجوز له حينئذٍ أن يُطيعهم في شيء من ذلك .. وإن أدى ذلك إلى قتله.
ومن الأدلة على جواز التقية بالشروط الآنفة الذكر، قوله تعالى:مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِالنحل:106.
وقوله تعالى:لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةًآل عمران:28.
هذه هي التقية .. بينما النفاق ـ كما تقدم ـ فهو يعني إبطان الكفر والإلحاد وإظهار الإسلام فرقاً من أهل الحق، ومن أن يطالهم سيف الحق.
وكذلك فإن النفاق منه ما يكون مصاحباً لصاحبه منذ أن أسلم في الظاهر، ومنه ما يكون طارئاً يطرأ على المرء بسبب مقولة أو فعل فعله لا يصدر إلا عن المنافقين، فيكتسب صفتهم بعد أن كان مسلماً، كالذين قالوا على وجه الخوض واللعب والاستهزاء، في غزوة تبوك، قاصدين النبي ، وأصحابه:" ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء"، فأنزل الله فيهم بسبب مقولتهم هذه وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ التوبة:66.
فهؤلاء كفروا ونافقوا بسبب مقولتهم تلك، بعد أن كانوا مؤمنين، كما قال ابن تيمية في الفتاوى 7/272: فقد أمره أن يقول لهم كفرتم بعد إيمانكم. وقول من يقول عن مثل هذه الآيات إنهم كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولاً بقلوبهم، لا يصح لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر، فلا يقال: قد كفرتم بعد إيمانكم، فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر وإن أريد أنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان، فهم لم يظهرون للناس إلا لخواصهم وهم مع خواصهم ما زالوا هكذا، بل لما نافقوا وحذروا أن تنزل سورة تبين ما في قلوبهم من النفاق وتكلموا بالإستهزاء، صاروا كافرين بعد إيمانهم،
ولا يدل اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين ا- هـ.
وفي قوله تعالى: إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ، ذكر أهل التفسير: أنهم كانوا جماعة وأن الذي تاب منهم رجل واحد يقال له"مخشن بن حمير" وقال بعضهم: كان قد أنكر عليهم بعض ما سمع ولم يمالئهم عليه، وجعل يسير مجانباً لهم، فلما نزلت هذه الآية برئ من نفاقه، وقال: اللهم إني لا أزال أسمع آية تقر عيني، تقشعر منها الجلود، وتجب منها القلوب، اللهم فاجعل وفاتي قتلاً في سبيلك.
وكذلك الذي ينتصر للمنافقين والطواغيت ويذود عنهم، فإنه بذلك يطرأ عليه النفاق وإن كان قبل ذلك مسلماً، ودرجة نفاقه تكون بحسب درجة وظهور انتصاره للطواغيت والمنافقين، كما حصل لسعد بن عبادة عندما انتصر لرأس النفاق ابن أبي في قصة الإفك، فقال لسعد بن معاذ:" كذبت والله لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقال أسيد بن حضير لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه، إنما أنت منافق، تجادل عن المنافقين، قالت عائشة: وكان قبل ذلك امرءاً صالحاً، ولكن أخذته الحمية " متفق عليه.
وكما حصل لأبي لبابة عندما أشار على يهود بني قريظة، أنهم لو نزلوا على حكم محمد  فإنه الذبح، وأشار بيده إلى حلقه. قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله .
فتأمل كيف تغير عليه قلبه واختلف عليه إيمانه حتى ظن أنه قد خان الله ورسوله لمجرد أنه أشار على اليهود أنهم ليسوا لهم عند النبي  إلا الذبح والقتل .. وقيل فيه نزل قوله تعالى:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ لأنفال:27.
قلت: هذا فيمن أشار لهم برأي مرة واحدة .. فكيف بمن يجعل من نفسه جاسوساً وعيناً لهم على المسلمين .. طيلة حياته .. لا شك أنه أولى بالنفاق وبالخيانة لله وللرسول، وللمؤمنين.
وكذلك الذين يثبطون الأمة عن الجهاد، ويخذلون المسلمين عن القتال في سبيل الله، ويتهكمون بالمجاهدين، ويقللون من شأنهم وينبذونهم بالألقاب الرديئة، وينفرون الناس عنهم وعن نصرتهم، أو يتهمونهم بالتهور والجنون وأنهم أصحاب فتنة لكونهم يجاهدون في سبيل الله وغير ذلك، فهذه الأقوال والأفعال قرينة دالة على النفاق .. وهي مؤدية إلى النفاق .. وهي لا تصدر إلا عن المنافقين .. والعياذ بالله.
كما قال تعالى عنهم:قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاًالأحزاب:18.
وقال تعالى:الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَآل عمران:168.
وقال تعالى: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ . إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ التوبة:44-45.
قال ابن تيمية في الفتاوى 28/438: فهذا إخبار من الله بأن المؤمن لا يستأذن الرسول في ترك الجهاد، وإنما يستأذنه الذين لا يؤمنون، فكيف بالتارك من غير استئذان ؟!ا- هـ.
قلت: فكيف بمن يثبط الأمة عن الجهاد، ويؤثم المجاهدين ويجرمهم لجهادهم ..؟!
كيف بمن يعطل الجهاد كلياً، ويصد الأمة عنه، لتأويلات باطلة وفاسدة، ومبعثها ـ في الحقيقة ـ يكون الخور والجبن، والإرجاف ..؟!
كيف بمن يكره الجهاد والمجاهدين ـ صفوة هذه الأمة ـ ويعاديهم، ويحرض الناس على أذاهم والنيل منهم ومن جهادهم ..؟!
كيف بمن يستبدل الجهاد في سبيل الله بالطرق الباطلة الشركية؛ كالديمقراطية، والانتخابات البرلمانية وغيرها ..؟!
لا شك أنه أولى بالنفاق .. وبانتفاء الإيمان عنه! فليحذر كل امرئ لنفسه من أن ينصر أعداء الله ولو في كلمة أو موقف، أو يصد الناس عن الجهاد، أو ينصب من نفسه عدواً للجهاد والمجاهدين .. ينفر الناس عنهم .. أو يُعين الظالمين عليهم .. فيقع ـ وهو يدري أو لا يدري ـ في النفاق وإن كان قبل ذلك من المسلمين المؤمنين .. والعبرة
بالخواتيم وما يختم به على المرء، نسأل الله تعالى السلامة وحسن الختام.
6ـ الزنديق والزندقة.
الزنديق هو نفس المنافق من حيث أنه يعتقد عقائد كفرية وبنفس الوقت يظهر شعائر الإسلام، والفرق بينهما أن الزنديق ـ كلما سنحت له الفرصة ـ يظهر كفره ويدعو له، ويُعرف عنه ذلك، وإذا أقيمت عليه الحجة واستتيب جحد وأنكر ما ظهر منه من كفر.
لذلك فالراجح من أقوال أهل العلم أن الزنديق إذا أظهر كفره وعُرف عنه ذلك يُقتل ولا يستتاب؛ لأن الاستتابة تكون من شيء وهذا لا يعترف بشيء رغم قيام البينة على كفره وردته!
روى أبو أدريس قال: أُتي علي  بناس من الزنادقة ارتدوا عن الإسلام، فسألهم فجحدوا، فقامت عليهم البينة العدول، قال: فقتلهم ولم يستتبهم، قال: وأتي برجل كان نصرانياً وأسلم، ثم رجع عن الإسلام، قال: فسأله فأقر بما كان منه، فاستتابه، فتركه، فقيل له كيف تستتيب هذا ولم تستتب أولئك؟ قال: إن هذا أقر بما كان منه، وإن أولئك لم يقروا وجحدوا حتى قامت عليهم البينة، فلذلك لم أستتبهم. وفي رواية قال: أتدرون لم استتبت هذا النصراني؟ استتبته لأنه أظهر دينه، وأما الزنادقة الذين قامت عليهم البينة جحدوني، فإنما قتلتهم لأنهم جحدوا وقامت عليهم البينة[ ].
قال ابن تيميه في الصارم، ص350: ويدل على جواز قتل الزنديق المنافق من غير استتابة، ما خرجاه في الصحيحين عن علي في قصة حاطب بن أبي بلتعة، فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عن
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حامل المسك1
المدير العام
المدير العام
حامل المسك1


كتاب قواعد في التكفير للشيخ ابو بصير الطرطوسي 190070434
عدد المساهمات : 226
نقاط : 421
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 03/04/2011
الموقع : بلاد الرافدين

كتاب قواعد في التكفير للشيخ ابو بصير الطرطوسي Empty
مُساهمةموضوع: كتاب قواعد في التكفير للشيخ ابو بصير الطرطوسي   كتاب قواعد في التكفير للشيخ ابو بصير الطرطوسي I_icon_minitimeالجمعة أبريل 08, 2011 3:41 am

قال البغوي في التفسير، قال مقاتل: هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب فيتركها ا- هـ.
ومن المعلوم من ديننا بالضرورة أن المعاصي مهما تعاظمت أو تراكمت ـ ما لم تكن شركاً أو قد مورست على وجه الاستحلال ـ فإنها لا توصل صاحبها إلى درجة الكفر الأكبر، ولا تخرجه من الملة.
من خلال ما تقدم يتبين: أن الهوى يُطلق أحياناً ويُراد به الكفر، وأحياناً يُطلق ويُراد به ما هو دون الكفر .. وكذلك صاحب الهوى فهو ليس كافراً على الإطلاق، كما أنه ليس دون ذلك على الإطلاق؛ حيث أنه أحياناً يكون كافراً، وأحياناً يكون فاسقاً، وذلك بحسب الهوى المذموم المتبع والمطاع، وحسب نوع الطاعة؛ فهناك فرق بين الطاعة الناتجة عن ضعف ونزوة يتبعها استدراك وتوبة، واعتراف بالخطأ، وبين طاعة الاستحلال والتحسين .. فالأولى لا تكفر والثانية تكفر، والله تعالى أعلم.
9ـ الموالاة.
الموالاة: ضد المعاداة، وهي تعني: الحب والمناصرة، والحلف ويندرج تحتها معانٍ، منها: الركون، والتودد، والمداهنة، واتخاذ الآخرين بطانة وهذه المعاني والدلالات لكلمة الموالاة جاء ذكرها في الكتاب والسنة.
وموالاة المؤمنين بعضهم بعضاً من دون الكافرين واجبة، وموالاتهم للكافرين محرمة.
والموالاة في الشريعة نوعان: موالاة كبرى، وموالاة صغرى.
ـ الموالاة الكبرى: تفضي بصاحبها إلى الكفر الأكبر، والخروج من الملة، وصفة هذا النوع من الموالاة تكون بنصرة الكفار والتحالف معهم ضد المسلمين، أو بمعاونتهم على إنزال العذاب والفتنة بالمسلمين، وكذلك تكون بحبهم وحب من يحبهم، ومعاداة وبغض من يبغضهم ويعاديهم، فينعقد الولاء والبراء على أساس موالاة الكفار ومعاداتهم؛ فمن والى الكفار والوه وأحبوه، وقربوه، ومن عاداهم عادوه وأبغضوه، وأبعدوه .. فهذا النوع من الموالاة للمشركين كفر أكبر يُعد من أشد النواقض نقضاً للإيمان، والأدلة على ذلك كثيرة منها:
قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمالمائدة:51
عن محمد بن سيرين، قال: قال عبد الله بن عتبة: ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر، قال: فظنناه يريد هذه الآية:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءالمائدة:51.[ ].
والولاية الواردة في الآية يراد بها ولاية التناصر والتحالف، وليس ولاية العقيدة والدين، كما دل على ذلك سبب النزول[ ].
قال ابن كثير في التفسير: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله ، تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله  وكان أحد بني عوف ابن الخزرج له من حلفهم مثل الذي لعبد الله ابن أبي فخلعهم إلى رسول الله، وتبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله، أبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم، ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات في المائدة ا- هـ.
وقال سيد قطب رحمه الله في الظلال: إن معنى الولاية التي ينهى الله الذين آمنوا أن تكون بينهم وبين اليهود والنصارى، إنها تعني التناصر والتحالف معهم، ولا تتعلق بمعنى اتباعهم في دينهم، فبعيد جداً أن يكون بين المسلمين من يميل إلى اتباع اليهود والنصارى في
الدين، إنما هو ولاء التحالف والتناصر ا- هـ.
وفي قوله تعالى:وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُم قال الشوكاني في التفسير: أي فإنه من جملتهم وفي عدادهم وهو وعيد شديد فإن المعصية الموجبة للكفر هي التي قد بلغت إلى غاية ليس وراءها غاية.وقوله:إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين تعليل للجملة التي قبلها: أي أن وقوعهم في الكفر هو بسبب عدم هدايته سبحانه لمن ظلم نفسه بما يوجب الكفر كمن يوالي الكافرين ا- هـ.
وقال تعالى:وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ المائدة:81.
قال ابن تيمية في الفتاوى 7/17: فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب. ومثله قوله تعالى:لا تتخذوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمالمائدة:51. فإنه أخبر في تلك الآية أن متوليهم لا يكون مؤمناً، وأخبر هنا أن متوليهم هو منهم، فالقرآن يصدق بعضه بعضاً ا- هـ.
وقال تعالى:لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةآل عمران:28.
قال الشوكاني في التفسير: وقول:فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْء أي من ولايته في شيء من الأشياء، بل هو منسلخ عنه بكل حال ا- هـ.
ولا تنسلخ ولاية الله مطلقاً إلا عن الكافرين المجرمين، كما قال تعالى: وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونالأنفال:34.
وقال تعالى:وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرالأنفال:73. قال البغوي في التفسير: فالفتنة في الأرض قوة الكفر، والفساد الكبير ضعف الإسلام ا- هـ.
وقال القرطبي في التفسير: الفساد الكبير ظهور الشرك ا- هـ.
وقال تعالى:إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراًالنساء:97.
وقال تعالى:الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِين النحل:29.
قال عكرمة: نزلت هذه الآية بالمدينة في قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا، فأخرجتهم قريش إلى بدر كرها فقتلوا بها.
وفي صحيح البخاري، عن ابن عباس: أن أناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله ، فيأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضربه فيقتله، فأنزل الله تعالى:إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِم.
فمقتضى الآيات ـ كما قرر ذلك أهل العلم والتفسير ـ أن هؤلاء الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قد ماتوا على الكفر والشرك بسبب مظاهرتهم للمشركين على المسلمين. ومما يقوي ذلك أن العباس عم النبي ، كان قد أسر مع من أسر من المشركين يوم بدر، فعومل معاملة المشركين لمظاهرته للمشركين على النبي رغم قوله أنه مسلم، وطلب منه أن يفدي نفسه شأنه شأن بقية الأسرى من المشركين.
كما أنه لم يقبل عذره بأنه خرج مكرهاً مع المشركين لمقاتلة المسلمين، لأنه كان ممن يستطيعون حيلة ويهتدون سبيلاً للهجرة والنفاذ من سلطان المشركين قبل أن يقع عليه هذا الإكراه، لكنه لم يفعل.
وفي السيرة أن خالد بن الوليد لما وصل إلى العرض في مسيره إلى أهل اليمامة لما ارتدوا قدَّم مائتي فارس، وقال: من أصبتم من الناس فخذوه، فأخذوه"مجاعة" في ثلاثة وعشرين رجلاً من قومه، فلما وصل إلى خالد، قال له: يا خالد، لقد علمت أني قدمت على رسول الله  في حياته فبايعته على الإسلام، وأنا اليوم على ما كنت عليه أمس، فإن يك كذاباً قد خرج فينا فإن الله يقول:وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.
فقال: يا مجاعة، تركت اليوم ما كنت عليه أمس! وكان رضاك بأمر هذا الكذاب وسكوتك عنه، وأنت أعز أهل اليمامة، وقد بلغك مسيري، إقراراً له ورضاء بما جاء به، فهل لا أبيت عذراً، وتكلمت فيمن تكلم، فقد تكلم ثمامة فرد وأنكر، وتكلم أليشكري.. فإن قلت: أخاف قومي، فهلاّ عمدت إليَّ أو بعثت إليَّ رسولاً ؟!
فقال: إن رأيت يا ابن المغيرة أن تعفو عن هذا كله، فقال: قد عفوت عن دمك، ولكن في نفسي حرج من تركك!![ ].
ومن نواقض الإسلام التي ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتبه: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين[ ].
ولحفيده الشيخ سليمان بن عبد الله: فالذي يتسبب بالدفع عنهم حميةً، أو يشير بكف المسلمين عنهم، من أعظم الموالين المحبين للكفار من المرتدين والمنافقين ..!
ويكفي في ذلك ما رواه أحمد، والترمذي وحسنه، وابن أبي حاتم، والطبراني والحاكم وصححه، عن ابن مسعود، قال: لما كان يوم بدر جيء بالأسرى وفيهم العباس، فقال: رسول الله:" ما تأمرون في هؤلاء الأسرى؟" فقال أبو بكر: قومك يا رسول الله وأهلك. وفي حديث أنس عن أحمد، نرى أن تعفو عنهم وتقبل منهم الفداء.
فقال عمر: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، قدمهم فاضرب أعناقهم، فدخل النبي  ولم يرد عليهم شيئاً فخرج رسول الله وقال:" أنتم عالة، فلا ينفلتن أحدٌ منهم إلا بفداءٍ أو ضرب عنق". فأنزل الله:مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْض.
وأما من يشير بكف المسلمين عنهم، فإن كان مراده بذلك تأليفهم على الدخول في الإسلام، أو دخولوا فيه أو واعدوه بالدخول فيه عن قريب، وكانت المصلحة في تركهم قليلة ونحوه يجوز ذلك. وإن كان المراد به أن لا يتعرض المسلمون لهم بشيء لا بقتال ولا نكال وإغلاظ ونحو ذلك، فهو من أعظم أعوانهم وقد حصلت له موالاتهم مع بعد الديار وتباعد الأقطار ..!
وأما قول السائل: هل يكون هذا موالاة نفاق أم يكون كفراً؟ إن كانت الموالاة مع مساكنتهم في ديارهم والخروج معهم في قتالهم ونحو ذلك، فإنه يحكم على صاحبها بالكفر[ ]، كما قال تعالى:وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُم[ ].
وللشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ، قال كما في الرسائل المفيدة، ص64: وأكبر ذنب وأضله وأعظمه منافاة لأصل الإسلام نصرة أعداء الله ومعاونتهم والسعي فيما يظهر به دينهم وما هم عليه من التعطيل والشرك والموبقات العظام، وكذلك انشراح الصدر لهم وطاعتهم والثناء عليهم ومدح من دخل تحت أمرهم وانتظم في سلكهم، وكذلك ترك جهادهم ومسالمتهم وعقد الأخوة والطاعة لهم ا- هـ.
ـ موالاة دون موالاة: وهي مولاة صغرى لا تخرج صاحبها من الملة، وصفتها: أن تكون أقل ظهوراً من المولاة الكبرى؛ كأن يكون عند المرء شيء من الود والميل للكفار والمنافقين من أجل مآرب مادية أو روابط عرقية وقبلية .. ونحو ذلك.
كما في الصحيحين من قصة الإفك، قال النبي :" من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي ـ يريد رأس النفاق عبد الله بن أُبي ـ والله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً "؟. فقام سعد بن معاذ فقال: أنا أعذرك منه، إن كان من إخواننا من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك، فأخذت سعد بن عبادة غيرة!
قالت عائشة رضي الله عنها: كان قبل ذلك أمرءأً صالحاً، ولكن أخذته حمية، لأن ابن أُبي كان كبير قومه.
فقال سعد: كذبت لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله!!
فقام أسيد بن حضير، فقال: كذبت لعمر الله، فإنك منافق تجادل عن المنافقين! وثار الحيان حتى نزل رسول الله فجعل يسكّنهم.
فرغم هذه الحمية التي أخذت سعد بن عبادة، ودخوله في هذا النوع من الجدال عن المنافقين إلا أنه لم يكفر ولم يكن موالٍ لهم الموالاة الكبرى التي تخرجه من الملة
قال ابن تيميه في الفتاوى 7/523: وقد تحصل للرجل موادتهم لرحم فتكون ذنباً بنقص به، إيمانه، ولا يكون به كفراً، كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة[ ]، لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي ، وأنزل الله فيه:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةالممتحنة:1.
وكما حصل لسعد بن عبادة لما انتصر لابن أبي في قصة الإفك، فقال: لسعد بن معاذ: كذبت والله لا تقتله ولا تقدر على قتله، قالت عائشة: وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً، ولكن احتملته الحمية. وكذلك قول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنّه، إنما أنت منافق تجادل عن المنافقين، هو من هذا الباب.
وكذلك قول من قال من الصحابة عن مالك بن الدخشم: منافقاً! وإن كان قال ذلك لما رأى فيه من نوع معاشرة ومودة للمنافقين ا- هـ.
ولكن هذا النوع من الموالاة ـ وإن لم يكن كفراً ـ إذا اتسعت دائرته ليأخذ طابع التعاون والتحالف مع الكفار والمنافقين على أمن وسلامة المسلمين، فإنه حينئذٍ يدخل إطار الموالاة الكبرى التي تخرج صاحبها من الملة .. فالحذر فإن الصغائر بريد إلى الكبائر، والموالاة الصغرى غالباً ما تكون ـ مع التهاون ـ بريداً إلى الموالاة الكبرى.
10ـ الإيمان.
الإيمان لغة: التصديق، وحقيقته: اعتقاد، وقول، وعمل يزيد بالطاعات والعمل الصالح، وينقص بالمعاصي والعمل الطالح.
والعمل منه ما يعتبر شرطاً لصحة الإيمان، ومنه ما يعتبر مكملاً للإيمان، والزيادة أو النقصان في الإيمان مداره على هذا النوع من العمل.
هذا ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وأقوال سلف وصالحي الأمة، وإليك بيان ذلك:
1- دخول الاعتقاد في الإيمان: لا خلاف بين جميع أهل العلم أن من لم يعتقد الإيمان هو كافر خارج من الملة .. وإن أتى ظاهراً بالقول والعمل.
قال تعالى: إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون . اتخذوا أيمانهم جُنةً فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون . ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطُبع على قلوبهم فهم لا يفقهون  المنافقون:1-3. فكفروا بسبب أنهم قالوا بلسانهم بالإيمان ما ليس في قلوبهم .. وهم إذ يقولون بالإيمان لا يقولون به على وجه الاعتقاد، وإنما يقولون به على وجه الاتقاء والنفاق ليدفعوا عن أنفسهم حكم الكفر والردة .. وبالتالي حكم السيف ..!
وقال تعالى: إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً  النساء:145. وقال تعالى: وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم  التوبة:68. والنفاق هو إبطان الكفر والجحود في القلب وإظهار الإسلام على الجوارح نفاقاً خوفاً من سيف الحق .. أو من ملاحقة نظرات الناس له بالازدراء والاحتقار!
وهذا خداع منهم وما يخدعون إلا أنفسهم كما قال تعالى: يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون  البقرة:9.
قال القرطبي في التفسير: مخادعتهم ما أظهروه من الإيمان خلاف ما أبطنوه من الكفر، ليحقنوا دماءهم وأموالهم، ويظنون أنهم قد نجوا وخدَعوا ا- هـ .
وفي الحديث الذي أخرجه مسلم وغيره، قوله :" إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ".
فدل أن مرد قبول الأعمال ـ بما في ذلك الإيمان ـ إلى النية المنعقدة في القلب والباعثة على العمل ..
وقال :" ما من أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار " البخاري.
وفي رواية عند البخاري كذلك:" أبشروا وبشروا من وراءكم أنه من شهد أن لا إله إلا الله صادقاً بها دخل الجنة " .
منطوق الحديث ومفهومه يقضي ويلزم بأن من يشهد أن لا إله إلا الله .. لكنه لا يكون صادقاً بها، معتقداً لها في قلبه .. لا يدخل الجنة، ولا يكون من أهلها، وإنما هو من أهل النار .
فالأدلة على دخول الاعتقاد في الإيمان .. والتي تدل كذلك أن الإيمان لا يصح ولا يستقيم إلا بعد أن ينعقد الاعتقاد الصادق للإيمان في القلب .. هي أكثر من أن تحصر في هذا الموضع.
ومما يُستفاد مما تقدم بطلان مذهب مرجئة الكرامية الخبيث الذي يحصر الإيمان في
الإقرار باللسان؛ والذي من لوازمه أن يعد المنافقين من المؤمنين الذين يدخلون الجنة يوم القيامة ..!
وهذا المذهب الخبيث الضال وإن كان لا يوجد في زماننا من يتبناه اسماً وشعاراً، إلا أنه يوجد من يتبناه تأصيلاً وتقعيداً وهم لا يشعرون .. وعلامتهم أنك لو أشرت إلى كفر الشيوعيين، والعلمانيين الذين يعتقدون الكفر والباطل .. لقالوا لك من فورهم: كيف تكفرهم وقد أتوا بالإقرار باللسان بشهادة أن لا إله إلا الله ..؟!!
2- دخول القول في الإيمان: نعني بالقول هنا الإقرار باللسان بشهادتي التوحيد: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
ومن الأدلة الدالة على دخول القول في الإيمان وكشرط من شروطه، قوله  لعمه أبي طالب كما في صحيح مسلم وغيره:" يا عم قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة " قال: لولا أن تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك .. وأبى أن يقول لا إله إلا الله ! فأنزل الله: إنك لا تهدي من أحببت ولكنَّ الله يهدي من يشاء . وقوله تعالى: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أُولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم من أصحاب الجحيم .
فالذي منع أبا طالب عن الإقرار بشهادة التوحيد ليس لكونه مكذباً بالنبي  أو لاعتقاده بطلان رسالته ودعوته .. لم يكن لذلك، وإنما ـ كما أفاد النص ـ حتى لا تعيره قريش بأن الذي حمله على الإقرار بشهادة التوحيد الجزع من الموت .. وأبى أن يقولها إلى أن مات كافراً.
وقال :" أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله " متفق عليه.
قال النووي في الشرح 1/212: فيه أن الإيمان شرطه الإقرار بالشهادتين مع اعتقادهما واعتقاد جميع ما أتى به رسول الله  ا- هـ.
وقال ابن تيمية في الفتاوى 7/609: الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو
كافر باتفاق المسلمين، وهو كافر باطناً وظاهراً عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير علمائها ا- هـ.
3- دخول العمل في الإيمان: حيث دلت نصوص عديدة على دخول العمل في مسمى الإيمان، كما قال تعالى: وما كان الله ليضيع إيمانكم  البقرة:143. والمراد صلاتكم، فسمى الصلاة ـ وهي عمل ـ إيماناً .
قال القرطبي في التفسير 2/157: وما كان الله ليضيع إيمانكم ؛ أي صلاتكم . فسمى الصلاة إيماناً لاشتمالها على نية وقول وعمل . وقال مالك: إني لأذكر بهذه الآية قول المرجئة: إن الصلاة ليست من الإيمان ا- هـ.
وفي الحديث من رواية أبي هريرة أن رسول الله  سُئل أي العمل أفضل ؟ فقال:" إيمان بالله ورسوله "البخاري. فسمى الإيمان عملاً وعده أفضل الأعمال .
وقال :" الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان "مسلم. فعد  إماطة الأذى عن الطريق ـ وهو عمل ـ من شعب الإيمان، وكذلك الحياء.
ومن حديث النبي  لوفد عبد قيس قال :" آمركم بالإيمان بالله .. أتدرون ما الإيمان بالله وحده ؟" قالوا الله ورسوله أعلم، قال:" شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس "متفق عليه. ففسر الإيمان بالعمل؛ والعمل الظاهر على الجوارح .
وقال :" ليس بمؤمن من لا يأمن جاره غوائله "مسلم.
وقال :" والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه " البخاري. فنفى مسمى الإيمان عمن لا يأمن جاره بوائقه وأذاه .. مما دل أن من الإيمان أن يأمن الجار بوائق وشرَّ جاره .. وهو عمل.
وقال :" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرقُ وهو مؤمن، ولا يشرب الخمرَ حين يشربُها وهو مؤمنٌ " متفق عليه.
قال ابن رجب في جامع العلوم 1/105: فلولا أن ترك هذه الكبائر من مسمى
الإيمان لما انتفى اسمُ الإيمان عن مرتكب شيءٍ منها؛ لأن الاسم لا ينتفي إلا بانتفاء بعض أركان المسمى أو واجباته ا- هـ.
من هذه النصوص وغيرها نص علماء الأمة وسلفها أن الإيمان: اعتقاد، وقول، وعمل . وإليك بعض أقوالهم:
قال البخاري في صحيحه: هو قول وفعل، ويزيد وينقص.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى المسلمين في الأمصار: إن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص.
قال ابن رجب في كتابه القيم " جامع العلوم "1/144: أنكر السلف على من أخرج الأعمال عن الإيمان إنكاراً شديداً، وممن أنكر ذلك على قائله وجعله قولاً محدثاً: سعيد بن الجبير، وميمون بن مهران، وقتادة، وأيوب السختياني، وإبراهيم النخعي، والزُّهري، ويحيى بن أبي كثير، وغيرهم.
وقال الثوري: هو رأي محدث، أدركنا الناس على غيره . وقال الأوزاعي: كان من مضى ممن سلف لا يفرقون بين الإيمان والعمل ا- هـ.
قال الشافعي في كتابه الأم: كان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم، ومن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزي واحد من الثلاث إلا بالآخر ا- هـ.
قال ابن تيمية في الفتاوى 7/144: قال أبو القاسم الأنصاري شيخ الشهرستاني في " شرح الإرشاد " لأبي المعالي بعد أن ذكر قول أصحابه: قال: وذهب أهل الأثر إلى أن الإيمان جميع الطاعات فرضها ونفلها، وعبروا عنه بأنه إتيان ما أمر الله به فرضاً ونفلاً والانتهاء عمن نهى عنه تحريماً وأدباً .
قال: وهذا قول مالك بن أنس إمام دار الهجرة، ومعظم أئمة السلف رضوان الله عليهم أجمعين ا- هـ.
وقال ابن رجب في كتابه " فتح الباري شرح صحيح البخاري " 1/5: وأكثر العلماء قالوا: هو قول وعمل، وهذا كله إجماع من السلف وعلماء أهل الحديث، وقد
حكى الشافعي إجماع الصحابة والتابعين عليه، وحكى أبو ثور الإجماع عليه أيضاً .
وقال الأوزاعي: كان من مضى ممن سلف لا يفرقون بين الإيمان والعمل، وحكاه غير واحدٍ من سلف العلماء عن أهل السنة والجماعة . وممن حكى ذلك عن أهل السنة والجماعة: الفضيلُ بن عياض، ووكيع بن الجراح .
وممن روي عنه أن الإيمان قول وعمل: الحسن، وسعيد بن جبير، وعمر ابن عبد العزيز، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، والزهري، وهو قول الثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، ومالك، الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور، وغيرهم ا- هـ.
ـ ولكن هل العمل شرط لصحة الإيمان أم أنه مكمل له ؟
لعل قائلاً يقول: إذا كان العمل إيماناً أو هو من الإيمان .. فهل يلزم من انتفائه انتفاء الإيمان؟
أقول: الذي دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة وأقوال السلف أن العمل بعضه يعتبر شرطاً لصحة الإيمان ينتفي الإيمان بانتفائه، وبعضه يعتبر مكملاً للإيمان لا ينتفي الإيمان عن صاحبه بانتفائه إنما ينتفي كماله وتمامه.
فالعمل الذي فعله من متطلبات التوحيد وتركه يعتبر من نواقضه، أو فعله يعتبر من نواقض التوحيد وتركه من متطلباته، أقول: هذا النوع من العمل لا يصح الإيمان إلا به، ولا يسمى المرء مسلماً إلا بفعله، فيفعل ما أمر به وينتهي عما نهي عنه.
ومن الأعمال التي ينتفض بها الإيمان وينتفي عن صاحبه بسببها، عبادة غير الله تعالى أو السجود لنصم أو قبر، أو قول الكفر من دون إكراه أو جهل يعذر، أو الاستهزاء بدين الله  وأسمائه الحسنى، أو مجالسة المستهزئين بدين الله تعالى من غير إكراه، ولا إنكار، ولا قيام، أو شتم الله ورسوله، أو إرادة التحاكم إلى الطاغوت، أو الحكم بغير ما أنزل الله، أو سن القوانين والتشريعات المضاهية لشرع الله تعالى، أو حراسة قوانين الكفر والشرك وفرضها على البلاد والعباد، أو موالاة الكفار ومظاهرتهم على المسلمين، وكذلك من ينتفي عنه جنس العمل أو الطاعة، أو فعَل السحر، أو ترَك الصلاة .. وهذه كلها أعمال وكل واحد من هذه الأعمال ينفي عن صاحبه مطلق الإيمان، وإن أدعى بلسانه أنه لا يستحل ذلك، كما أن القيام بنقيض هذه الأفعال وضدها يعتبر شرطاً لصحة الإيمان وشرطاً لثبوته[ ].
قال تعالى:مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌالنحل:106. وقال تعالى:وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ.لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ التوبة:66.وقال:يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ التوبة:74.
قال ابن تيمية في الفتاوى 7/557: من سب الله ورسوله طوعاً بغير كره، بل من تكلم بكلمات الكفر طائعاً غير مكره، ومن استهزأ بالله وآياته ورسوله فهو كافر باطناً وظاهراً، وإن من قال إن مثل هذا قد يكون في الباطن مؤمناً بالله وإنما هو كافر في الظاهر فإنه قال قولاً معلوم الفساد بالضرورة من الدين ا- هـ.
وفي الفتاوى كذلك 7/209: قال عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل: سئل أبي عن رجل قال: يا ابن كذا وكذا أنت ومن خلقك. قال أبي ـ أحمد بن حنبل ـ: هذا مرتد عن الإسلام، قلت لأبي: تضرب عنقه؟ قال :نعم، نضرب عنقه ا- هـ.
ومن الأدلة كذلك على التكفير بالعمل، قوله تعالى:وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمالنساء:140. وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمالمائدة:51.
وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً النساء:60.
وقوله تعالى:وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَالمائدة:44.
وقوله تعالى:فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً النساء:65.
قال ابن القيم في كتابه التبيان، ص270: أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسماً مؤكداً بالنفي قبله، عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع، وأحكام الشرع وأحكام المعاد وسائر الصفات وغيرها، ولم يثبت لهم إيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج؛ وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الإنشراح وتنفسح له كل الإنفساح وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضى والتسليم وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض ا- هـ.
وكذلك تارك الصلاة، فقد صح عن النبي  أن تارك الصلاة كافر مشرك، وأن آخر ما يفقد من الدين الصلاة، وأن المرء لا يصح إيمانه إلا بالصلاة[ ].
عن عبد الله بن شقيق ، قال:كان أصحاب محمد ، لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر، غير الصلاة[ ].
ولا يصح أن يقال أن الكفر الوارد هنا يراد به الكفر العملي الأصغر وليس الكفر الأكبر، فهذا بعيد جداً عن الصواب، ولو كان الأمر كذلك لاستوى ترك الصلاة مع ترك كثير من الطاعات التي يعتبر تركها كفراً عملياً أصغر، ولما تميزت الصلاة عن غيرها من الطاعات، علماً أن الصلاة ـ بأدلة الكتاب والسنة ـ هي أعظم أركان الإسلام بعد شهادتي التوحيد.
وحديث عبد الله بن شقيق واضح أن مراد الصحابة هو الكفر الأكبر وليس الكفر الأصغر، بدليل أنهم كانوا يرون ترك كثير من الأعمال غير الصلاة كفراً أصغر أو كفراً عملياً أصغر، فعلم من ذلك أن نفي اجتماعهم على شيء من الأعمال أنه كفر سوى الصلاة .. أن مرادهم هو حصول الكفر الأكبر البواح وليس سواه.
وقال حنبل: حدثنا الحميدي قال: وأخبرت أن ناساً يقولون: من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت، ويصلي مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه إذا كان مقراً بالفرائض واستقبال القبلة[ ]، فقلت: هذا الكفر الصراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين. قال الله تعالى:وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين. وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله بن حنبل يقول: من قال هذا فقد كفر بالله ورد على أمره وعلى الرسول ما جاء به عن الله[ ].
وقال ابن تيميه رحمه الله في الفتاوى 7/287: لو قدر أن قوماً قالوا للنبي : نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك، ونقر بألسنتنا بالشهادتين، إلا أنا لا نطيعك في شيء مما أمرت به ونهيت عنه؛ فلا نصلي ولا نصوم، ولا نحج، ولا نصدق الحديث، ولا نؤدي الأمانة، ولا نفي بالعهد، ولا نصل الرحم، ولا نفعل شيئاً من الخير الذي أمرت به، ونشرب الخمر وننكح ذوات المحارم بالزنا الظاهر، ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك، ونأخذ أموالهم، بل نقتلك أيضاً، ونقاتلك مع أعدائك، هل كان يتوهم عاقل أن النبي  يقول لهم: أنتم مؤمنون كاملون الإيمان، وأنتم من أهل شفاعتي يوم القيامة، ويرجى لكم أن لا يدخل أحدكم النار، بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به، ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك ا- هـ.
وقال محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به، فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما، فإن عمل بالتوحيد عملاً ظاهراً وهو لا يفهمه ولا يعتقده بقلبه، فهو منافق وهو شر من الكافر الخالص، لقوله تعالى:إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّار [ ].
فعلم مما تقدم أن العمل بالتوحيد ـ وما يدخل في معناه من الأعمال كشرط لصحتة كالصلاة ـ يعتبر شرطاً لصحة الإيمان وشرطاً لثبوته، وما سوى ذلك من الأعمال فهي تعتبر مكملة للإيمان .. يزداد الإيمان بفعلها، كما ينقص ويضعف بتركها.
ومن الأدلة الدالة على أن الإيمان يزيد ويقوى بالطاعات، ويضعف وينقص بالذنوب والمعاصي، قوله تعالى:وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناالأنفال:2. وقوله تعالى:وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَالتوبة:124. وقوله تعالى: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً مريم:76. وقوله تعالى: لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ الفتح:4. وقوله تعالى:وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماًالأحزاب:22. وغيرها كثير من الآيات.
وفي الحديث، عن جندب بن عبد الله، قال: كنا مع النبي ونحن فتيان، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا به إيماناً[ ].
وعن أنس بن مالك قال: غدا أصحاب رسول الله ، قالوا: يا رسول الله! هلكنا ورب الكعبة. قال:" وما ذاك؟" قالوا: النفاق النفاق! قال:"ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟" قالوا: بلى. قال: ليس ذاك النفاق". ثم عاودوه الثانية، فقالوا:يا رسول الله! هلكنا ورب الكعبة. قال:" وما ذاك؟" قالوا:النفاق النفاق! قال:" ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟" قالوا:"بلى. قال:" ليس ذاك بنفاق". ثم عاودوه الثالثة، فقالوا مثل ذلك، فقال لهم:"ليس ذلك بنفاق". فقالوا: يا رسول الله! إنا إذا كنا عندك كنا على حال، وإذا خرجنا من عندك همتنا الدنيا وأهلونا. فقال رسول الله :" لو أنكم إذا خرجتم من عندي تكونون على مثل الحال التي تكونون عليها عندي
لصافحتكم الملائكة في طرق المدينة"[ ].
فانظر كيف أن إيمانهم كان يتغير عليهم عندما كانوا ينشغلون بالدنيا وزينتها، عما هم عليه من قوة الإيمان واليقين عندما يكونون في حضرة النبي المصطفى ، حتى بلغ منهم الحال أن يخشوا على أنفسهم النفاق، مما دل أن الإيمان تتغير أحواله زيادة ونقصاناً بحسب الحال والعمل والبيئة التي يعيش فيها صاحب هذا الإيمان.
ومن حديث الشفاعة الصحيح الذي يرويه أبو سعيد الخدري عن رسول الله ، جاء فيه أن الرب سبحانه وتعالى يقول للمؤمنين بعد أن أخرجوا من النار من يعرفون من أهل الإيمان:" أخرجوا من كان في قلبه وزن دينار من الإيمان، ثم من كان في قلبه وزن نصف دينار حتى يقول: من كان في قلبه مثقال ذرة " قال أبو سعيد: فمن لم يصدق بهذا فليقرأ هذه الآية:إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماًالنساء:40.
فدل أن الإيمان يتفاضل عند الناس بحسب أعمالهم؛ فلا يستوي من كان إيمانه يزن جبلاً بمن يزن إيمانه ديناراً، ومن كان إيمانه يزن ديناراً بمن يزن إيمانه ذرة.
سُئل ابن عمر : هل كان الصحابة يضحكون؟ فقال:نعم، والإيمان في قلوبهم أمثال الجبال .. رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
ـ مسألة: ثم أنه حصل خلاف، هل الإيمان يتضمن الإسلام أم لكل منهما معناه المختلف عن الآخر؟
أقول: خلاصة القول في المسألة، والذي دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة، أن الإيمان أحياناً يطلق ويكون له معنى مغايراً للإسلام، وكذلك الإسلام فإنه أحياناً يطلق ويكون له معنى مغايراً للإيمان. وأحياناً يُطلق الإيمان ويكون شاملاً ومتضمناً للإسلام، وكذلك الإسلام يُطلق ويكون شاملاً ومتضمناً للإيمان.
1- الحالة التي يكون فيها الإيمان مغايراً للإسلام، والإسلام مغايراً للإيمان: في هذه الحالة يكون الإيمان مكانه القلب ويتضمن الأعمال القلبية: كالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر خيره وشره، والحب في الله والكره في الله .. وغيرها من الأعمال القلبية.
أما الإسلام فيكون مكانه الجوارح ويتضمن الأعمال الظاهرة: من صلاة، وصوم، وحج، وزكاة، وجهادٍ وغير ذلك من أعمال الجوارح الظاهرة.
من الأدلة على ذلك، سؤال جبريل النبيَّ  عن الإسلام والإيمان، قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله:" الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ". قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال:" أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره ". قال:صدقت. رواه مسلم.
فتأمل كيف فسر الإسلام بأمر ظاهر؛ وبأعمال ظاهرة تُمارس على الجوارح الظاهرة، بينما فسر الإيمان بأمر باطن، وبأعمال قلبية.
وكذلك كان النبي يقول:" اللهم من أحييته منا، فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا، فتوفه على الإيمان "[ ]. ففرق بين الإسلام والإيمان.
قال ابن رجب في جامع العلوم 1/108: لأن العمل بالجوارح إنما يتمكن منه في الحياة، فأما عند الموت فلا يبقى غير التصديق بالقلب ا- هـ.
وقال :" من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلكم المسلم " البخاري. وهذه أعمال ظاهرة على الجوارح الظاهرة.
وفي صحيح مسلم أن رجلاً سأل رسول الله ، أي المسلمين خير؟ قال:" من
سلم المسلمون من لسانه ويده ". بينما عندما سئل عن المؤمن قال:" من أمنه على أموالهم وأنفسهم ". ففسر المسلم بأمر ظاهر؛ وهو أن يسلم المسلمون من لسان ويده، وكلاخما من العمال الظاهرة. بينما فسر المؤمن بأمر باطن؛ وهو أن يأمنه الناس، والأمان مكانه القلب، ومن الأعمال الباطنة.
وفي حديث عمرو بن عبسة، أن رجلاً قال للنبي : ما الإسلام؟ قال:" إطعام الطعام ولين الكلام ".قال: فما الإيمان؟ قال:" السماحة والصبر". ففسر الإسلام بأمر ظاهر؛ وهو إطعام الطعام، ولين الكلام. بينما فسر الإيمان بأمر باطن؛ لأن السماحة والصبر مكانها القلب، وهما من أعمال القلب.
وكذلك قوله، في "الصحيحين":" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وقوله :" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ". وقوله :" ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحب إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار". فعلق وجود الإيمان والشعور بحلاوته على أن يكون الله ورسوله أحب للمرء مما سواهما .. والحب من أعمال القلوب الباطنة.
وكذلك قول النبي  في الأنصار:" لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق" رواه مسلم. والأحاديث في هذا الباب الدالة على هذا المعنى كثيرة.
2- الحالة التي يكون الإيمان فيها شاملاً ومتضمناً للإسلام، وكذلك يكون الإسلام شاملاً ومتضمناً للإيمان: في هذه الحالة يطلق الإيمان ويكون شاملاً للإسلام ومتضمناً له، وكذلك الإسلام يطلق ويكون متضمناً للإيمان؛ وفي هذه الحالة يكون الإيمان مكانه الباطن والظاهر، ويشمل الأعمال الظاهرة والباطنة، وكذلك الإسلام فإنه يكون مكانه الظاهر والباطن، ويشمل الأعمال الظاهرة والباطنة.
كما في قوله تعالى:إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامآل عمران:19. وقوله تعالى:وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهآل عمران:85 . فالإسلام الذي لا يقبل الله ديناً
غيره، هو الإسلام الذي يتضمن الإيمان والإسلام، والأعمال الظاهرة والباطنة معاً مما يحبه
الله تعالى، ولا يصح أن يقال غير ذلك.
وكذلك قوله تعالى:فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَالذريات:36. فالمسلم والمؤمن هنا بمعنى واحد، وكل منهما متضمن للآخر، وهو كقوله  في السلام على مقابر المسلمين:" السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمتأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون " مسلم.
قال النووي في الشرح 7/44: ولا يجوز أن يكون المراد بالمسلم في هذا الحديث غير المؤمن لأن المؤمن[ ]إن كان منافقاً لا يجوز السلام عليه والترحم ا- هـ.
وكذلك قول النبي ، لوفد عبد القيس:" أتدرون ما الإيمان بالله وحده ؟"قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:" شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تُعطوا من المغنم الخمس ". ففسر الإيمان بالإسلام الظاهر، مما دل أن الإيمان أحياناً يُطلق بالمعنى الشامل والمتضمن للإسلام الظاهر.
وفي مسند الإمام أحمد، عن عمرو بن عبسة، قال: جاء رجل إلى النبي ، فقال: يا رسول الله، ما الإٍسلام؟ قال:" أن تسلم قلبك لله[ ]، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك"، قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال:" الإيمان ". قال: وما الإيمان؟ قال:أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت" قال: فأي الإيمان أفضل؟ قال:"الهجرة". قال: فما الهجرة؟ قال:" أن تهجر السوء"، قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال:"الجهاد"[ ].
فجعل النبي  الإيمان داخلاً في الإسلام وهو أفضله، ثم أدخل الأعمال كالهجرة
والجهاد في مسمى الإيمان وجعلها منه.
وكذلك قوله :" لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة" البخاري. أي مسلمة مؤمنة، فالإسلام هنا يشمل الإيمان ويتضمنه؛ لأن من لوازم دخول الجنة تحقيق الإيمان، كما في قوله لعمر:" يا ابن الخطاب! اذهب فناد في الناس: إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون " مسلم. وفي حديث آخر قال:" يا ابن عوف! اركب فرسك، ثم ناد: إن الجنة لا تحل إلا لمؤمن[ ].
ـ تنبيه: بقي أمر لا بد من ذكره والتنبيه إليه، وهو أن كل مؤمن مسلم، وذلك أن المؤمن الصادق في إيمانه لا بد من أن يدفعه إيمانه للعمل وأن تظهر آثاره على جوارحه بفعل الأركان والطاعات، والإنتهاء عما نهي عنه.
كما في الحديث الصحيح:" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ".
قال ابن حجر في"الفتح" 1/128: خص القلب بذلك لأنه أمير البدن، وبصلاح الأمير تصلح الرعية، وبفساده تفسد ا- هـ.
لذلك فأيما امرءٍ يدعي الإيمان في قلبه ، وأنه يصدق بكل ما جاء به الإٍسلام، وهو بنفس الوقت لا يقوم بأركان الإسلام ولا بشيء من واجبات الإيمان ومتطلباته العملية، فهو كافر كذاب لأن الظاهر دليل على الباطن، وبرهان يدل عليه؛ فخراب الظاهر من خراب الباطن كما أن صلاح الظاهر من صلاح الباطن، فكل منهما للآخر لازم وملزوم.
وليس كل مسلم مؤمناً؛ لاحتمال أن يكون المسلم منافقاً؛ يأتي بأركان الإسلام في الظاهر ـ نفاقاً ـ ويكون في الباطن كافراً حاقداً ملحداً لا يؤمن بشيء مما جاء به الإسلام.
فمثل هذا وإن كان في الآخرة كافراً مخلداً في نار جهنم وفي الدرك الأسفل منها، إلا أنه في الدنيا يعامل معاملة المسلمين بناء على ظاهره ما لم يُعرف نفاقه ويظهر.
ومما تقدم نستطيع أن نقول كذلك: أن كل مؤمن يدخل الجنة؛ لأن من كان صادق الإيمان في قلبه لزمه العمل ولا بد، وليس كل مسلم ـ بالمعنى المغاير للإيمان[ ] ـ يدخل الجنة؛ لأنه لا يلزم بالضرورة من العمل الظاهر عمل الباطن.
ـ مسألة: فإن قيل هل يجوز بأن نشهد على المعين بأنه مؤمن ..؟
أقول: لا يجوز أن نشهد على معين على وجه الجزم ـ من غير نص ـ بأنه مؤمن؛ لأن الإيمان مقره القلب، ولا يعلم ما في القلوب إلا علام الغيوب .. كما لا يجوز أن نشهد لمعينٍ ـ من غير نص ـ بأنه من أهل الجنة .. والمؤمن بيقين من أهل الجنة.
ولكن يجوز أن نشهد له بالإسلام بناء على ظاهره الذي يدل على إسلامه، كما في الحديث الصحيح:" من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلكم المسلم ". أي فذلكم المسلم الذي نحكم ونشهد عليه بالإسلام، والله تعالى أعلم.














* * *
ـ قواعد في التكفير.
بعد هذا التمهيد ـ الهام والضروري ـ بذكر بعض المفاهيم والمصطلحات الشرعية وبيان المراد منها، نشرع ـ بإذن الله ـ في بيان قواعد التكفير، مع شرحها وذكر الأدلة عليها، سائلين الله تعالى العون والتوفيق والسداد.

ـ القاعدة الأولى:"الكفرُ العامُّ لا يستلزمُ دائماً كُفرَ المُعَيَّن".
الشرح: أي أن التكفير العام الوارد في النصوص الشرعية، لا يصح حمله دائماً على الأشخاص بأعيانهم ممن قد وقع في ذلك الكفر، لاحتمال وجود موانع التكفير بحقهم وانتفاء لوازمه.
فأن يقال: هذا القول كفر أو هذا الفعل كفر، أو من فعل كذا أو قال كذا فهو كافر؛ فهذا كله تكفيرٌ عام لا يستلزم دائماً أن يكون كل من قال هذا القول أو فعل ذلك الفعل هو كافر بعينه؛ لاحتمال وجود العلة الآنفة الذكر التي تُحيل من تكفيره بعينه، وهي انتفاء لوازم التكفير ووجود موانعه في حق ذلك الشخص المعين.
فقد صح عن النبي أنه قال:" أتاني جبريل، فقال: يا محمد إن الله لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وساقيها، ومستقيها "[ ]. فهذا لعن عام.
وبالمقابل فقد جاء في صحيح البخاري، عن عمر بن الخطاب  أن رجلاً كان على عهد النبي كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حماراً، وكان يُضحك رسول الله ، وكان النبي قد جلده في الشراب، فأُتي به يوماً فأمر به فجُلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتَي به، فقال النبي :" لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله".
فرغم أن شارب الخمر قد لُعن لعناً عاماً، إلا أن النبي  منع من إنزال هذا اللعن بحق الصحابي لوجود عِلة مانعة تمنع من لعنه بعينه؛ وهي أنه يحب الله ورسوله، علماً أن هذا الصحابي كان من المدمنين على شرب الخمر بدليل قول الرجل من القوم:" ما أكثر ما يُؤتى به".
وفي المقابل فقد صح عن النبي  أنه قال:" مدمن الخمر كعابد وثن"[ ]. لكن هذا الحكم العام ـ عابد وثن ـ لا يجوز حمله على الصحابي لوجود حسنة عنده ترجح على تلك السيئة، وتمنع من لحوق الوعيد بحقه؛ وهي حسنة حبه لله ولرسوله، فإن الحسنات يذهبن السيئات.
وعن أبي هريرة، أن رسول الله أُتي برجل قد شرب، فقال:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حامل المسك1
المدير العام
المدير العام
حامل المسك1


كتاب قواعد في التكفير للشيخ ابو بصير الطرطوسي 190070434
عدد المساهمات : 226
نقاط : 421
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 03/04/2011
الموقع : بلاد الرافدين

كتاب قواعد في التكفير للشيخ ابو بصير الطرطوسي Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب قواعد في التكفير للشيخ ابو بصير الطرطوسي   كتاب قواعد في التكفير للشيخ ابو بصير الطرطوسي I_icon_minitimeالجمعة أبريل 08, 2011 3:47 am

وفي المقابل فقد صح عن النبي  أنه قال:" مدمن الخمر كعابد وثن"[ ]. لكن هذا الحكم العام ـ عابد وثن ـ لا يجوز حمله على الصحابي لوجود حسنة عنده ترجح على تلك السيئة، وتمنع من لحوق الوعيد بحقه؛ وهي حسنة حبه لله ولرسوله، فإن الحسنات يذهبن السيئات.
وعن أبي هريرة، أن رسول الله أُتي برجل قد شرب، فقال:" اضربوه ". قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، فقال رسول الله :" لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان " وفي رواية:" ولكن قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه "[ ].
فتأمل كيف أن النبي  نهى عن الدعاء عليه، وأمر بالدعاء له، علماً أن الحكم العام في شارب الخمر الدعاء عليه باللعن والطرد من رحمة الله.
وكذلك لما ظاهر حاطب بن أبي بلتعة كفار قريش على النبي ، وفعل الكفر ـ كما كنا قد بيناه من قبل ـ فمما تشفع له حسنة بدر العظيمة " لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم "، وهو إلى جانب أنه من أهل بدر، كان متأولاً في فعلته، صادق الباطن .. لم تُعرف عنه الخيانة من قبل .. كل ذلك كان شافعاً له ومانعاً من إنزال حكم الكفر أو النفاق في حقه.
وكذلك النفر ـ وعلى رأسهم قدامة بن مظعون ـ الذين أولوا قوله تعالى:لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتالمائدة:93. فشربوا الخمر، وقالوا: هي حلال، وكانوا في الشام، فأرسل عمر في طلبهم، واستشار فيهم الناس فقالوا: يا أمير المؤمنين نرى أنهم كذبوا على الله، وشرعوا في دينهم ما لم يأذن به الله، فاضرب أعناقهم، وعلي  ساكت، فقال: ما تقول يا أبا الحسن فيهم ؟ قال: أرى أن تستتيبهم، فإن تابوا ضربتهم ثمانين لشربهم الخمر، وإن لم يتوبوا ضربت أعناقهم، قد كذبوا على الله وشرعوا في دينهم ما لم يأذن به الله. فاستتابهم فتابوا فضربهم ثمانين ثمانين. وقال عمر لقدامة: أخطأت استك الحفرة، أما إنك لو اتقيت، وعملت الصالحات لم تشرب الخمر[ ].
وذلك أن تحريم الخمر كان بعد موقعة أحد، فقال بعض الصحابة: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فأنزل الله هذه الآية مبيناً أن من طعم الشيء قبل تحريمه ليس عليه شيء إذا ما اتقى وآمن وعمل صالحاً، إلا أن قدامة ومن معه، تأولوا الآية وحملوها على أنفسهم، وظنوا أن الآية تشملهم، فأحلوا لأنفسهم الخمر!
والشاهد هنا أنهم رغم استحلالهم للخمر وهو كفر، إلا أنهم لم يَكفُروا ولم يُكفَّروا بأعيانهم ـ قبل قيام الحجة عليهم ـ بسبب تأويلهم، وفهمهم الخاطئ لمراد الشارع من الآية.
وكذلك ما رواه ابن عباس من أن رجلاً أهدى لرسول الله راوية خمر!! فقال له النبي :" هل علمت أن الله  حرمها؟" فسارَّ ولم أفهم ما سار كما أردت، فسألت أناساً إلى جنبه، فقال النبي :" بما ساررته؟ " قال:" أمرته أن يبيعها!! فقال النبي :" إن الذي حرم شربها، حرم بيعها " ففتح المزادتين حتى ذهب ما فيهما[ ].
فهذا الرجل مما لا شك فيه أنه كان يعتقد حل الخمر بعد تحريمها، وهو كفر، إلا أن النبي عذره ولم يكفره بعينه لعدم بلوغه الخطاب الشرعي يتحريم الخمر وتحريم بيعها.
وكذلك قصة الرجل الذي أسرف على نفسه بالمعاصي، كما في الحديث الصحيح الذي يرويه مسلم بسنده عن أبي هريرة، أن رسول الله قال:" قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله، إذا ماتَ فحرِّقوه، ثم اذروا نصفه في البرِّ ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات الرجلُ فعلوا ما أمرهم، فأمر الله البرَّ فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال: لمَ فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم، فغفر الله له ".
فرغم أن الرجل قد قال الكفر .. وقد أوصى أبناءه به إلا أنه لم يكفر بعينه ولم يطاله وعيد الكافرين؛ لوجود مانع الجهل بما يستحقه الله تعالى من الصفات، ولكونه فعل ذلك بدافع الخوف والخشية من الله تعالى .. فأقال الله تعالى ـ لأجل ذلك ـ عثرته، وعفا عنه.
قال ابن تيميه في الفتاوى 3/331: فهذا رجلٌ شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذرى، بل اعتقد أنه لا يُعاد، وهذا كفرٌ باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك ا- هـ.
وقال ابن حزم في الفصل 3/252: فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله  يقدر على جمع رماده وإحيائه، وقد غفر له لإقراره، وخوفه، وجهله ا- هـ.
وعن واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله إلى حنين ونحن حديثو عهد بكفر، وكانوا أسلموا يوم فتح مكة، قال: فمررنا بشجرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، وكان للكفار سدرة يعكفون حولها، ويعلقون بها أسلحتهم، يدعونها ذات أنواط، فلما قلنا ذلك للنبي  قال:" الله أكبر، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من كان قبلكم "[ ].
فرغم أن مقولتهم كفر، وهي شبيهة بمقولة بني إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما
لهم آلهة، إلا أنهم بأعيانهم لم يكفروا، وعذروا لحادثة عهدهم بالكفر، واكتفى النبي بتعليمهم وزجرهم من أن يعودوا ثانية لمثل هذه المقولة.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب:" ونحن حدثاء عهد بكفر "؛ أي قريبو عهد بكفر، ففيه دليل أن غيرهم لا يجهل هذا، وأن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يأمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادات الباطلة ا- هـ.
وقال الشيخ محمد حامد الفقي: ليس ما طلبوه من الشرك الأصغر، ولو كان منه لما جعله  نظير قول بني إسرائيل  اجعل لنا إلهاً  وأقسم على ذلك، بل هو من الشرك الأكبر كما أن ما طلبه بنو إسرائيل من الشرك الأكبر، وإنما لم يكفروا بطلبهم لأنهم حدثاء عهد بالإسلام، ولأنهم لم يفعلوا ما طلبوه ولم يقدموا عليه ..[ ].
ونحو ذلك حديث عدي بن حاتم  وفيه أنه قال: أتيت رسول الله  وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي:" يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك " فطرحته فلما انتهيت إليه وهو يقرأ  اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ  حتى فرغ منها، قلت: إنا لسنا نعبدهم، فقال :" أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويُحلون ما حرم الله فتستحلونه "، قلت: بلى، قال:" فتلك عبادتهم "[ ].
مما يُستفاد من الحديث الأمور التالية:
1- أن عدي بن حاتم  جاء النبي  مسلماً مقراً بالشهادتين؛ لأنه كان قبل ذلك مهدور الدم، وما عصم دمه إلا إسلامه.
2- أن عدياً كان قد تنصر، وكان حديث عهد بالكفر؛ أي أنه كان عاجزاً عن معرفة كل ما يدخل في التوحيد من أيامه الأولى.
3- بسبب ما تقدم نجد أن عدياً قد وقع بنوعين من الشرك الأكبر، كل واحد منهما يُخرج صاحبه من الملة لو اقترف بعد علم بالنص الشرعي الذي يفيد التحريم.
أولهما: ارتداؤه للصليب ـ بعد أن دخل في الإسلام ـ وهذا من الشرك الأكبر؛ لذا سماه النبي  بالوثن الذي يُعبد من دون الله  .. ومع ذلك فقد اكتفى النبي  بأن قال لعدي:" اطرح هذا الوثن من عنقك "، من دون أن يحكم عليه بعينه أنه كافر أو قد كفر وارتد، وعليه أن يدخل الإسلام من جديد بتلفظ الشهادتين ..!
ثانياً: إن عدياً كان يجهل أن طاعة الأحبار والرهبان في التحليل والتحريم من دون سلطان من الله يدخل في معنى العبادة التي لا يجوز أن يُصرف شيء منها لغير الله تعالى، وأنه من الشرك الأكبر .. إلى أن بين له النبي ، وأعلمه أن طاعة الأحبار والرهبان، والتحاكم إليهم من دون الله تعالى في التحليل والتحريم هو عبادة لهم وشرك بالله تعالى .. ومن دون أن يحكم عليه بالكفر والارتداد، أو يلزمه بضرورة تجديد إسلامه وإيمانه .. وذلك لأنه كان حديث عهد بكفر.
وكذلك الذي يتلفظ الكفر خطأ كزلّة وسبق لسان من غير قصد وإرادة منه[ ]، فرغم أن مقولته كفر، إلا أنه بعينه يعذر فلا يكفر؛ لتجاوز الشارع عن الخطأ الغير متعمد، كما في الحديث الذي أخرجه مسلم عن النبي  قال:" لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرضٍ فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرةً فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح ".
وكذلك فقد صح عن النبي أنه قال:" إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه "[ ].
ومن ذلك أيضاً قوله :" من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد "[ ].
وفي المقابل فقد صح أن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت يا رسول الله، إنا قومٌ حديثُ عهد بجاهلية، وقد جاءنا الله بالإسلام، ومنا رجالٌ يأتون الكهان، قال:" فلا تأتيهم "[ ]. فلم يحمل النبي عليه لحكم العام، الذي هو كفر من أتى كاهنا فصدقه بما يقول بل اكتفى بتعليمه ونهيه عن ذلك، وعذره لحداثة عهده بجاهلية وكفر.
ونحو ذلك سجود الصحابي للنبي  ظناً منه أن ذلك يجوز أن يُصرف للنبي  .. لكن النبي  نهاه عن ذلك، واكتفى بتعليمه بأن السجود عبادة لا يجوز أن يُصرف لغير الله تعالى .. ومن دون أن يحكم عليه بالكفر والارتداد عن الدين!
وكذلك قول الصحابي للرسول : ما شاء الله وشئت! فقال له رسول الله :" أجعلتني لله نداً بل ما شاء الله وحده ". فرغم أن المقولة كفر وشرك إلا أن الصحابي لعدم علمه أن هذه المقولةتندرج تحت الشرك .. كان معذوراً، ولم يكفر بعينه، ولم يُحمل عليه حكم الكفر والشرك.
وغيرها من الأدلة الكثيرة التي تدل على صحة القاعدة الآنفة الذكر؛ وهي أن الكفر العام، والتكفير العام لا يستلزم دائماً كفر أو تكفير المعين؛ لاحتمال ثبوت موانع التكفير ـ أو بعضها ـ في حقه والتي تمنع من تكفيره، أو لحوق الوعيد به .. والحمد لله الذي تتم بفضله الطيبات الصالحات.
ـ أقوال أهل العلم وإجماعهم على صحة هذه القاعدة:
قال ابن تيميه رحمه الله: حقيقة الأمر في ذلك أن القول قد يكون كفراً، فيطلق القول بتكفير صاحبه ويقال من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها ..
والأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفه الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ، فإن الله يغفر له خطأه كائناً من كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي  وجماهير أئمة الإسلام، وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بانكارها، ومسائل فروع لا يكفر بانكارها ..!
ولعن المطلق لا يستلزم لعن المعين الذي قام به ما يمنع لحوق اللعنة له، وكذلك التكفير المطلق والوعيد المطلق، ولهذا كان الوعيد المطلق في الكتاب والسنة مشروطاً بثبوت شروط وانتفاء موانع ..
وكنت أبين لهم أنما نقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضاً حق، لكن التفريق بين الإطلاق والتعيين، من فعل كذا فله كذا، وهي منزلة قول من قال من السلف من قال كذا فهو كذا، ثم الشخص المعين يلتغي حكم الوعيد فيه: بتوبة، أو حسناتٍ ماحية أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة[ ]ا- هـ.
ـ استدراك وتنبيه:
قولنا أن التكفير العام لا يستلزم دائماً تكفير الشخص المعين؛ هذا يعني أنه أحياناً يستلزم حمل الكفر العام على الشخص المعين، ويستلزم تكفيره بعينه؛ وذلك عندما تنتفي عنه موانع التكفير، وتتوفر فيه شروطه، فإذا انتفت عنه الموانع وتحققت فيه الشروط، فحينئذٍ يتعين تكفيره بعينه ولا بد .. إذ أحكام الله تعالى لا يجوز أن تبقى معلقة ـ لا واقع لها ـ ومن دون أن تأخذ طريقها إلى مستحقيها ممن يقعون فيما يوجبها من غير مانعٍ شرعيٍ معتبر.
وهذا يستلزم منا أن نبين ـ بشيء من التفصيل ـ موانع تكفير المعين، وشروطه .. فإلى ذلك.
ـ موانع تكفير المعين:
اعلم أن العجز الذي لا يمكن دفعه ـ مع بذل الجهد لدفعه ـ يُسقط التكليف ـ أياً كان نوعه ـ فيما قد تم العجز به إلى حين تحقق القدرة على دفع ذلك العجز.
وأيما سبب يحقق هذا العجز بوصفه المتقدم فهو يُعتبر في الشريعة مانعاً من موانع لحوق الوعيد بالمعين إلى حين إزالته بقيام الحجة الشرعية .. سواء كان هذا السبب متعلقاً بالشخص ذاته؛ كأن يكون أبكماً لا يقدر على سماع أو فهم الخطاب .. أو كان خارجاً متعلقاً بالبيئة التي يعيش فيها أو الزمن الذي يعيش فيه.
أما إذا توفرت لدى المخالف الاستطاعة والقدرة على دفع السبب الذي أدى به إلى المخالفة أو الوقوع في المحظور، ثم هو ـ ركوناً إلى الدنيا وانشغالاً بها وزينتها ـ لا يعمل على دفعه، ولا يبذل جهده المستطاع للتخلص منه، فإنه حينئذٍ لا يجوز أن يُعتبر مانعاً من موانع لحوق الوعيد، كما لا يعذر صاحبه لو وقع في المخالفة، ويكفر بعينه إن كانت المخالفة أو المحظور الذي وقع فيه من الكفر الأكبر.
والدليل على ذلك قوله تعالى:فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمالتغابن:16. وقوله تعالى:لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَاالبقرة:286. قال ابن كثير في التفسير: أي لا يُكلَّف أحدٌ فوق طاقته، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم ا- هـ.
وفي الحديث فقد صح عن النبي أنه قال:" وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم "متفق عليه.
وعن عبد الله بن أبي أوفى، قال: جاء رجل إلى النبي ، فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئاً، فعلمني ما يجزئني منه، قال:" قل سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله". قال: يا رسول الله هذا لله عز وجل فما لي؟ قال:"قل اللهم ارحمني وارزقني وعافني واهدني" فلما قام، قال هكذا بيده، فقال رسول الله:" أما هذا فقد ملأ يده من الخير"[ ].
فرغم أن قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة، والصلاة لا تصح إلا بها، إلا أن هذا الرجل عذر لعجزه عن أن يحفظ من القرآن شيئاً.
وكذلك الرجل الذي سأله النبي :" كيف تقول في الصلاة؟" قال:أتشهد وأقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال النبي:"حولها ندندن"[ ].
من هذه النصوص وغيرها استخرج أهل العلم القاعدة الفقهية التي تقول:"الميسور لا يسقط بالمعسور".
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: فالله تعالى يعلم أن هذا مستطيع يفعل ما استطاعه، فيثيبه، وهذا مستطيع لا يفعل ما استطاعه، فيعذبه، فإنما يعذبه لأنه لا يفعل مع القدرة، وقد علم الله ذلك منه، ومن لا يستطيع لا يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطيعه[ ].
وقال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام 2/5: إن من كلف بشيءٍ من الطاعات فقدر على بعضه وعجز عن بعضه، فإنه ياتي بما قدر عليه، ويسقط عنه ما عجز عنه ا- هـ.
وقال ابن تيمية في كتابه القيم رفع الملام، ص114: إن العذر لا يكون عذراً إلا مع العجز عن إزالته، وإلا فمتى أمكن الإنسان معرفة الحق، فقصر فيه، لم يكن معذوراً ا- هـ.
ومن موانع تكفير المعين التي تحدث عند صاحبها العجز في معرفة مراد الشارع فيما قد خالف فيه:
1- عدم بلوغه الخطاب الشرعي: فمن وقع في المخالفة أو الكفر بسبب عدم بلوغه الخطاب الشرعي، فإنه لا يطاله الوعيد ولا يكفر حتى تقوم عليه الحجة ببلوغه الخطاب الشرعي ـ قال الله قال رسول الله  ـ فيما قد خالف فيه، فإن قابله بالجحود
والنكران، أو الإعراض والاستهانة، فإنه حينئذٍ يكفر بعينه، ولا بد.
كالذي أهدى النبي  خمراً بعد تحريمها، فهذا لا شك أنه كان يعتقد حلها، لكن النبي عذره لعدم بلوغه الخطاب الشرعي الذي يفيد تحريم الخمر.
وكذلك الذين كانوا يصلون نحو بيت المقدس بعد تحويل القبلة إلى الكعبة، حيث كانوا يعتقدون وجوب الصلاة نحو بيت المقدس، لكنهم كانوا معذورين لعدم بلوغهم النص الذي يأمر بتحويل القبلة إلى الكعبة المشرفة.
كما في الحديث، لما أنزل الله تعالى:فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهالبقرة:144. كان المسلمون في قباء يصلون الفجر نحو بيت المقدس، فمر رجل من بني سليمة، فناداهم وهم ركوع:ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة ـ مرتين ـ فمالوا كما هم ركوع إلى الكعبة[ ].
وكذلك قصة الرجل الذي أسرف على نفسه بالمعاصي، وأمر بنيه بأن يحرقوه، ويذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، وشك في أن الله قادر على جمعه وإعادته، وهذا كفر بواح ـ كما تقدم ـ لكن الله عذره وغفر له لجهله وعدم بلوغه العلم الشرعي ـ نذارة الرسل ـ الذي يعرفه أن الله قادر على كل شيء، وعلى ما يستحقه الله تعالى من كمال الأسماء والصفات.
قال تعالى:رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلالنساء:165. وقال تعالى:وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاًالإسراء:15.
قال الشنقيطي في الأضواء 3/471: ظاهر هذه الآية الكريمة أن الله جل وعلا لا يُعذب أحداً من خلقه لا في الدنيا والآخرة حتى يبعث رسولاً ينذره ويحذره فيعصي ذلك الرسول، ويستمر على الكفر والمعصية بعد الإنذار والإعذار ا- هـ.
وقال ابن حزم في الأصول والفروع ص131: فنص الله تعالى على أن النذارة إنما تلزم من بلغته، وأنه تعالى لا يعذب أحداً إلا بعد إرسال الرسل.
فصح بهذا أن من لم تبلغه الدعوة إما لانقزاح مكانه، وإما لقصر مدته إثر مبعث النبي  فإنه لا عذاب عليه ولا يلزمه شيء، وهذا قول جمهور أصحابنا ا- هـ.
وكذلك الأربعة الذين يحتجون يوم القيامة بعدم بلوغهم نذارة الرسل، لعلة قاهرة لا يستطيعون دفعها، كما في الحديث:" أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة. فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً. وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام ولا أعقل شيئاً. وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك رسول. فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن لم يدخلها سحب إليها[ ].
فهؤلاء ـ على اختلاف أسباب جهلهم بالخطاب الشرعي ـ جميعهم يشتركون في صفة واحدة؛ وهي عدم القدرة على بلوغ أو فهم الخطاب الشرعي ..!
وكذلك فقد صح عن النبي أنه قال:" من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ". وبالمقابل روى ابن عمر: أنه سمع النبيُّ  عمرَ مرة وهو يقول: وأبي، وأبي. فقال:" إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم "[ ].
فدل الحديث أن قول الكفر لا يستلزم دائماً أن يكون قائله كافراً أو مشركاً، ودل كذلك أن عمر  كان معذوراً لأنه لم يكن قد سمع من قبل نهي النبي  عن الحلف بغير الله  ، لذلك نجد أن النبي ، قد عذره، واكتفى بتعليمه ونهيه.
ومثله الذي قال للنبي  ما شاء الله وشئت، فقال له النبي :" أجعلتني لله نداً، بل قل ما شاء الله وحده ".
ومثله أيضاً الذي سجد للنبي ، فنهاه، وقال له:" لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح أن يسجد بشر لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها"[ ]. فاكتفى  بتعليمه، ولم يحمل عليه كفر من سجد لغير الله تعالى.
ومثل هذا لا يقال لمن بلغه الخطاب الشرعي ثم يتعمد مخالفته، وبخاصة إن أدت به هذه المخالفة إلى الكفر. كما في الحديث، عن عبد الله بن عمرو، قال: كان رسول الله إذا أصاب غنيمة، أمر بلالاً فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسه ويقسمه. فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر، فقال: يا رسول الله هذا فيما كنا أصبنا من الغنيمة، فقال:" أسمعت بلالاً ينادي؟" ثلاثاً، قال:نعم!! قال:" فما منعك أن تجيء به؟!" فاعتذر! فقال:" كن أنت تجيء به يوم القيامة، فلن أقبله عنك "[ ].
فتأمل كيف أن النبي  لم يعذره، وذلك بسبب مخالفة الخطاب الشرعي بعد بلوغه إياه، علماً أن مخالفته هي دون الكفر، فكيف لو ارتقت إلى درجة الكفر، لا شك أنه أولى بأن لا يُعذر.
ونحو ذلك قوله  كما في صحيح مسلم:" والذي نفسُ محمدٍ بيده لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمة، يهوديٌّ، ولا نصرانيٌّ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلتُ إلا كان من أصحابِ النار". فعلق العذاب ودخول النار على من يسمع به  وبدعوته ثم هو لا يؤمن.
ـ تنبيه: من كان جهله بالخطاب الشرعي ناتجاً عن تقصير وإهمال منه يستطيع دفعه، لكن إيثاره للدنيا ومشاغلها ومتاعها، جعله لا يفعل ولا يبذل جهده المستطاع لدفع الجهل عنه فيما يجب عليه تعلمه، فمثل هذا لو وقع في الكفر بسبب جهله، لا يعذر، لقوله تعالى:الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍإبراهيم:3. وقوله تعالى:ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَالنحل:107.
ثم أن العذر ـ كما أسلفنا من قبل ـ يكون مع العجز وانتفاء القدرة، لا مع القدرة والاستطاعة، فتنبه.
2- التأويل أو الفهم الخطأ للمراد من النص: فمن وقع في المخالفة أو الكفر بسبب التأويل أو الفهم الخاطئ للمراد من النص، وكان النص يحتمل هذا الفهم من جهة مدلولاته اللغوية .. لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة الشرعية بإزالة ما أشكل عليه فهمه من النص الشرعي.
كالذي حصل لقدامة بن مظعون ومن معه؛ حيث أنهم استحلوا شرب الخمر ـ وهذا كفر ـ بناء على فهمهم الخاطئ للمراد من النص، إلا أنهم بأعيانهم لم يكفروا لشبهة التأويل التي كانت عندهم .. وقد تقدمت قصتهم.
وعن عدي بن حاتم، لما نزلت هذه الآية:حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَد، قال: أخذت عِقالاً أبيض، وعقالاً أسود، فوضعتهما تحت وسادتي، فنظرت فلم أتبين، فذكرت ذلك لرسول الله ، فضحك! فقال:" إن وسادَك لعريض طويل، إنما هو الليل والنهار "[ ].
فمما لا شك فيه أن الصحابي كان يستمر في طعامه إلى ما بعد ظهور الفجر الصادق، بناء على فهمه الخاطئ للآية الكريمة، والنبي لما علمه وبين له المراد من الآية لم يأمره بالقضاء، وعذره لشبهة التأويل التي كانت عنده.
وعن أسماء بنت عميس، قالت: قلت يا رسول الله، إن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت منذ كذا وكذا، فلم تصلِّ، فقال رسول الله :" سبحان الله! هذا من الشيطان، لتجلس في مِركنٍ، فإذا رأيت صفرةً فوق الماء فلتغتسل للظهر والعصر غسلاً واحداً، وتغتسل للمغرب والعشاء غسلاً واحداً، وتغتسل للفجر غسلاً، وتتوضأ في ما بين ذلك "[ ].

قلت: رغم أن ترك الصلاة من أكبر الكبائر، قد دلت النصوص على كفر تاركها إلا أن هذه المرأة لم يطالها شيء من ذلك، بل لم تؤمر بإعادة ما تركته من الصلوات؛ وذلك أنها كانت تعتقد أن من كانت في مثل حالتها تسقط عنها الصلاة، متأولة النصوص الشرعية التي تنهى المرأة عن الصلاة وهي حائض .. إلى أن بلغها النص الشرعي الذي أفادها بأن حالتها ليست من الحيض الذي يمنع من الصلاة!
وعن أسلم أبي عمران، قال: غزونا من المدينة، نريد القسطنطينية وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم مُلصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مَهْ، مَه، لا إله إلا الله، يُلقي بيديه إلى التهلكة!
فقال أبو أيوب: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار؛ لما نصر الله نبيه، وأظهر الإسلام، قلنا: هلُمَّ نقيم في أموالنا ونُصلحها، فأنزل الله تعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ  فالالقاء بأيدينا إلى التهلكة: أن نقيم في أموالنا ونصلحها، وندع الجهاد [ ].
فالناس تأولوا الآية وحملوها خطأ على من ينغمس ـ بمفرده ـ في صفوف جند المشركين .. وهذا معناه أنهم حرموا حالة مشروعة بناء على فهمهم وتأويلهم الخاطئين للنص .. بينما أبو أيوب الأنصاري  يُصحح لهم فهمهم الخاطئ للآية، وأنها لم تنزل في المعنى الذي أرادوه، وإنما نزلت فيمن يقيم في ماله، وينشغل به وبتنميته عن الجهاد في سبيل الله .. كما أنه لم يحمل عليهم وعيد من حرم حلالاً أو أمراً مباحاً!
وكذلك لما تأول بعض الناس قوله تعالى: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ المائدة:105. ووضعوها في غير موضعها، ورأوا فيها دليلاً على اعتزال الناس، وعدم الاشتغال بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر .. قال أبو بكر الصديق ، بعد أن حمد الله وأثنى عليه: يا أيها الناس! إنكم تقرأون هذه الآية، وتضعونها على غير موضعها  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ  وإنما سمعنا النبي  يقول:" إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشكَ أن يعمَّهم الله بعقاب "، وإني سمعت رسول الله  يقول:" ما من قومٍ يُعمل فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يُغيروا، ثم لا يُغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب "[ ].
ونحو ذلك ما أخرجه البخاري في الأدب المفردن عن طلق بن حُبيب، قال: كنت أشد الناس تكذيباً بالشفاعة، فسألت جابراً، فقال: يا طُليق سمعت النبي  يقول:" يخرجون من النار بعد دخول " ونحن نقرأ الذي تقرأ.
وفي رواية عند أحمد: فإن الذي قرأت أهلها هم المشركون، ولكن قوم أصابوا ذنوباً فعُذبوا بها ثم أُخرجوا ..[ ].
فطلق من كبار التابعين ومع ذلك كان يكذب بالشفاعة ـ رغم ثبوتها بالكتاب والسنة! ـ متأولاً بعض نصوص الكتاب التي نزلت وقيلت في المشركين .. فحملها متأولاً على عصاة أهل القبلة .. إلى أن صحح له خطأه جابر بن عبد الله  ..!
ـ تنبيه: ليس كل تأويل يعذر صاحبه ويمنع من تكفيره، فمن كان كفره بسبب تأويل لا تحتمله لغة النص ولا الدلائل والقرائن المحيطة به، كتأويلات الباطنية الغلاة وغيرهم لشعائر الدين، فمثل هذا النوع من التأويل ـ هو في حقيقته تحريف وتكذيب وجحود ـ لا يعذر صاحبه، ويوقعه في الزندقة والكفر البواح ولا بد، وتسمية تحريفهم تاويلاً لا ينفعهم في شيء ..!
فإن قيل: هل للتأويل المستساغ حدٌّ معلوم وثابت بحيث نحكم على كل من تجاوزه ببطلان تأويله، وعدم عذره بالتأويل ..؟
أقول: لا يوجد حد معلوم وثابت للتأويل المستساغ بحيث يكون كل من تجاوزه يكون قد وقع في الإثم والحرج ولا بد؛ فما يكون تاويلاً مستساغاً لشخص قد يكون غير مستساغ لشخص آخر، بحكم ما لدى كل منهما من العلم .. أو الشبهات التي تُحيط بكل منهما .. وبحسب المسألة ذاتها وما يكتنفها من غموض أو إشكالات .. فقد تكون معلومة لشخص ـ وهي بالنسبة له من المحكمات ـ فلا يُعذر بالتأويل .. وقد تكون مجهولة لآخر ـ وهي بالنسبة له من المتشابهات ـ فيعذر بالتأويل ..!
ولكن يمكن القول أن التأويل المعتبر له ـ في الغالب ـ قرائن تدل عليه: كأن يكون التأويل الخاطئ محتملاً من حيث الدلالات اللغوية للخطاب .. ومن حيث انسجامه مع كليات وأصول الشريعة .. أو أن يكون معتمداً في تأويله على نصوص مرجوحة أو منسوخة لا يعرف النصوص الراجحة أو الناسخة .. أو عامة لا يعرف مخصصها .. أو مطلقة لا يعرف مقيدها .. فالتأويل الخاطئ المحفوف بمثل هذه القرائن في الغالب يكون تأويلاً مستساغاً وصارفاً للكفر عن المرء لو وقع في الكفر بسببه .. ويقوي ذلك ويضعفه القرائن المحيطة بالمتأول ذاته؛ هل الأصل فيه تتبع المتشابهات وتقديمها على المحكامات .. وهل يُعرف عنه شيء من تأويلات الزنادقة الغلاة أم لا .. وهل يعرف عنه تحكيم العقل على النقل .. وهل يشتهر عنه أنه من أهل البدع والأهواء .. أم أن أصوله سنية سلفية .. ثم أنه كبا وزل في مسالة أو بعض المسائل .. وأيهما أكثر صوابه أم خطؤه .. وهل خطأه مقصود لذاته أم هو من قبيل الاجتهاد الخاطئ، هذه الأمور وغيرها كلها معتبرة عند تحديد المعذور بالتأويل من غيره ممن لا يعذر، والله تعالى أعلم.
3- حداثة عهده بالكفر: فمن وقع في المخالفة أو الكفر بسبب حداثة عهده بالكفر، يعذر إلى أن تقوم عليه الحجة الشرعية، وتبلغه نذارة الرسل فيما قد خالف فيه؛ لأنه لا يستطيع أن يتعلم جميع ما فرض عليه من عقائد وشرائع في الأيام الأولى من إسلامه، وقد تقدم أن العجز وانتفاء الاستطاعة يرفع التكليف، ومن كان هذا وصفه يتوقع منه أن يبدر منه ما يُعد من الكفر، ظناً منه أن ذلك لا يتعارض مع الإسلام.
كالذين قالوا للنبي يوم حنين: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، وكانوا حديثي عهد بكفر، وقد أسلموا يوم فتح مكة؛ أي أنهم لما قالوا مقولتهم تلك لم يكن قض مضى على إسلامهم ـ على الراجح من أقوال المؤرخين ـ أكثر من خمسة عشر يوماً فقط .. وقد تقدمت قصتهم.
ونحو ذلك حديث معاوية بن الحكم السلمي، عندما قال للنبي : إنا قومٌ حديث عهدٍ بجاهلية، وقد جاءنا الله بالإسلام، ومنا رجالٌ يأتون الكهان، قال :"فلا تأتهم".
وعنه قال: صليت مع رسول الله ، فعطس رجلٌ من القوم، فقلت: يرحمك الله! فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكلَ أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فعرفت أنهم يصمتوني. قال: فلما صلى رسول الله  ـ بأبي وأمي ما ضربني، ولا كهرني، ولا سبني ـ ثم قال:" إن هذه الصلاة لا يحل فيها شيء من كلام الناس هذا، إنما هو التسبيح والتكبير، وقراءة القرآن "[ ].
فتأمل كيف أن النبي عذره، ولم يأمره بقضاء الصلاة، وذلك لجهله وحداثة عهده بجاهليةٍ .. كما أفاد سؤاله عن رجال من قومه يأتون الكهان!
وكذلك قصة عدي بن حاتم لما جاء النبيَّ  مسلماً وفي عنقه صليب .. وكان حديث عهد بكفر، وقد تقدمت قصته.
قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى 20/60-61: إن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها، وكذلك التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد، لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطق ذلك وإذا لم يطقه لم يكن واجباً عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجباً لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه ابتداءً، بل يعفو عن الأمر و النهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان كما عفا النبي  عما عفا عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا بإمكان الشرط.
ومن هنا يتبين سقوط كثير من الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم، فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجباً في الأصل ا- هـ.
4- العيش في منطقة نائية، يتعذر وصول العلم إليها: فمن كان يعيش في منطقة نائية يتعذر وصول العلم إليها كالبادية، وأدغال إفريقيا، ونحوها من البلدان والمناطق التي يسود فيها الجهل بنذارة الرسل .. فلا العلم يصله، ولا هو يستطيع أن يصل إلى العلم .. ثم هو بسبب ذلك يقع في المخالفة أو الكفر .. فإنه يعذر بجهله إلى أن تقوم عليه الحجة الشرعية فيما قد خالف فيه، ويتمكن من طلب العلم الشرعي من مظانة.
ومن الأدلة التي يُستحسن الاستدلال بها على هذا المانع؛ مانع اعتبار الزمان والمكان وما يسود فيهما من علم أو جهل بالشريعة، وأثر ذلك على لحوق الوعيد بالمعين، قوله :" إنكم اليوم في زمانٍ كثيرٌ علماؤه، قليل خطباؤه، من ترك عُشر ما يَعرفُ فقد هوى، ويأتي من بعدُ زمانٌ كثيرٌ خطباؤه، قليلٌ علماؤه، من استمسك بعشر ما يَعرفُ فقد نجا "[ ].
فتأمل كيف أن النبي  فرق بين الزمان الذي يكثر فيه العلماء، وحكم على من يترك عشر ما يعرف في ذلك الزمان بالهلاك والعذاب .. وبين الزمان الذي يقل فيه العلماء، وأن المتمسك بعشر ما يعرف من أهل ذلك الزمان ـ بسبب قلة العلماء ـ بأنه قد نجا وفاز ..!
وكذلك قوله :" يَدْرِسُ الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يُدرى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله  في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير، والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله، فنحن نقولها ".
قال صلة بن زفر لحذيفة ـ راوي الحديث ـ ما تغني عنهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاة، ولا نسك، ولا صدقة ؟ فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثاً، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة، فقال: يا صلة تنجيهم من النار ثلاثاً[ ].
فالحديث فيه دليل على العذر بالجهل، وفيه دليل على أن من كان يعيش في زمان أو مكان درست فيه تعاليم الإسلام .. لا العلم يصله ولا هو يستطيع أن يصل العلم .. ثم هو بسبب ذلك لا يدري ما صلاة، ولا صيام .. فإنه يُعذر .. وشهادة التوحيد تنفعه إن شاء الله.
ولا يُستفاد من الحديث ـ ما فهمه وذهب إليه أهل التجهم والإرجاء ـ بأن تارك العمل بأركان الإسلام ـ وغيرها من الأعمال ـ مسلم، وهو من أهل الجنة .. بغض النظر عن السبب أو المجتمع الذي يعيش فيه .. وإن كان يعيش في مجتمعات قد استفاض فيها العلم، وسهل طلبه لمن نشده وأراده[ ].
لذا نقول: إذا كان المرء ـ الذي يعيش في المناطق النائية عن العلم ومظانه ـ يستطيع أن يرحل إلى الأماكن التي يتوفر فيها العلم الشرعي ـ ولا يوجد ما يعيقه عن ذلك ـ ثم إيثاراً للدعة والأوطان، والأموال لا يتحرك له ساكن، ولا يبذل جهده في دفع الجهل عنه، فهذا لو وقع في الكفر بسبب تقصيره هذا، لا يعذر بالجهل، لتوفر الاستطاعة لديه على دفعه .. لكنه لا يفعل!
فالمسلم خُلق لغاية ـ ترخص في سبيلها كل الغايات والمقاصد ـ لا يجوز له أن يغفل عنها، أو يتوانى في طلبها وتحقيقها على الوجه الذي يُرضي ربنا ، ألا وهي إفراد الله تعالى وحده بالعبادة، كما قال تعالى:وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ الذاريات:56. وقال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ التوبة:31. وقال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ البينة:5. فالله تعالى لم يخلقنا إلا لشيء واحد .. ولم يأمرنا إلا بشيء واحد .. ألا وهو عبادته وحده  بالمعنى الشامل للعبادة التي تستغرق جميع المساحة الزمانية والمكانية التي يعيشها الإنسان، والشاملة لجميع ما يحبه
الله تعالى من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة.
وغاية كهذه لا يجوز للعبد أن ينشغل عنها بشيء أو يصده عنها شيء .. أو يتعذر عنها بعذر يستطيع دفعه، قال تعالى: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ العنكبوت:56. فالله تعالى وسع على عباده الأرض ليعبدوه ولا يُشركوا به شيئاً، فإن ضاقت عليهم في بقعة من الأرض تحركوا وهاجروا إلى بقعة أخرى تتحقق فيها سلامة العبادة والدين .. فحيثما تتحقق لهم سلامة العبادة والدين على الوجه الأكمل والأفضل الذي يُرضي ربنا  تعينت الإقامة وحط الرحال في ذلك المكان .. والهجرة ما شُرعت من ديار الكفر والفسق والظلم إلا لتحقيق هذه الغاية العظمى.
قال ابن حزم رحمه الله في الأحكام 5/112: من بلغه ذكر النبي ، وما جاء به، ثم لا يجد في بلاده من يخبره عنه، ففرض عليه الخروج عنها إلى بلادٍ يستبرئ فيها الحقائق، وكل من كان منا في بادية لا يجد فيها من يعلمه شرائع دينه، ففرض على جميعهم من رجل أو امرأة أن يرحلوا إلى مكان يجدون فيه فقيهاً يعلمهم دينهم، أو أن يُرحلوا إلى أنفسهم فقيهاً يعلمهم أمور دينهم، وإن كان الإمام يعلم ذلك فليرحل إليهم فقيهاً يعلمهم ا- هـ.
5- الخطأ الغير مقصود: أيضاً من موانع تكفير المعين، الخطأ الغير مراد؛ كأن يكون قد صدر الخطأ عنه سهواً، أو زلة لسان من دون أن يقصده أو يريده، فمثل هذا يعذر لقوله تعالى:وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماًالأحزاب:5.
ولقول النبي:" رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ".
ومن الأدلة كذلك التي ترفع الحرج عن الخطأ الغير مقصود، قول الرجل عندما وجد راحلته، وعليها طعامه وشرابه، وكان قد أيس منها، فقال من شدة فرحه:" اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح " وقد تقدم.
ونحو ذلك الذي يخطئ ويتلعثم في تلاوة القرآن فيزيد وينقص، فهو معذور بخطئه، بينما لو تعمد الزيادة أو النقصان عن قصد وإرادة، يكفر بعينه ولا بد.
وكذلك الذي يدوس على شيءٍ يظنه من متاع البيت، ثم يتبين له أنه القرآن الكريم .. فهذا خطأ غير مقصود، لا حرج فيه إن شاء الله .. بينما لو داس عليه مع علمه بأن هذا المداس عليه هو كتاب الله يكفر بعينه من ساعته، ولا بد.
وقولنا خطأ غير مقصود؛ أي أنه لا يقصد الوقوع في الخطأ، وليس لا يقصد الكفر من هذا الخطأ؛ لأن من قصد الوقوع أو التلفظ بالخطأ، وكان ذلك الخطأ كفراً، فإنه يكفر سواء قصد الكفر أم لم يقصده .. فهناك فرق بين من يقصد ويتعمد الوقوع في الخطأ، وهو شرط لازم للحوق الوعيد، وبين من يقصد الكفر من وراء قصده لذاك الخطأ، وهذا ليس شرطاً للحوق الوعيد أو التكفير .. ولم يقل به إلا أهل التجهم والإرجاء .. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك.
6- الاجتهاد: وكذلك الخطأ الصادر عن اجتهاد؛ كأن يُخطئ العالم المجتهد، لعلة معتبرة[ ]، فيحل حراماً، أو يحرم حلالاً، أو يحكم بغير ما أنزل الله، ظاناً أنه بذلك قد أصاب الحق الذي يرضاه الله، فإنه يعذر لاجتهاده، وهو مأجور فإذا أخطأ فله أجر، وإذا أصاب فله أجران، كما في الحديث، فقد صح عن النبي  أنه قال:" إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر " متفق عليه.
وفي الصحيحين، عن أبي سعيد الخدري قال: جاء بلال إلى النبي بتمرٍ برني[ ]، فقال له النبي :" من أين هذا " قال:كان عندنا تمر رديء، فبعت منه صاعين بصاع، فقال:" أوِّه، عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتر به ".
وفي المقابل فقد صح عن النبي أنه قال:" يلعن الله آكل الربا وموكله، وشاهديه، وكاتبه، وقال: هم سواء "مسلم.
وقال :" درهمهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية "[ ]. إلا أن هذا الحكم العام لا يجوز حمله على الصحابي، لظنه واجتهاده أن صنيعه لا يدخل تحت مسمى الربا، لذلك نجد أن النبي قد عذره وأقال عثرته واكتفى بتعليمه وتصحيح خطئه.
وكذلك الذين بلغهم قول النبي :" إنما الربا في النسيئة " مسلم. فاستحلوا ـ بناءً على فهمهم لهذا الحديث ـ بيع الصاعين بالصاع يداً بيد، مثل ابن عباس وأصحابه، أبي الشعثاء، وعطاء، وطاووس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وغيرهم، من أعيان المكيين الذين هم صفوة الأمة علماً وعملاً[ ].
قال ابن تيمية رحمه الله: لا يحل لمسلم أن يعتقد أن أحداً منهم بعينه أو من قلده ـ بحيث يجوز تقليده ـ تبلغهم لعنة آكل الربا، لأنهم فعلوا ذلك متأولين تأويلاً سائغاً في الجملة.
وكذلك ما نقل عن طائفة من فضلاء المدنيين من إتيان المحاش، مع ما رواه أبو داود عن النبي  أنه قال:" مَن أتى امرأة في دبرها فهو كافر بما أُنزل على محمد "[ ].
وكذلك عندما قتل أسامة الرجل الذي قال:" لا إله إلا الله " ظناً منه أنه قالها تعوذاً من السيف، فإن النبي أنكر عليه صنيعه، إلا أنه لم يوجب عليه قوداً ولا دية، فعذره لاجتهاده وعدم بلوغه النص الذي يدل على تحريم إعمال الظن في مثل هذه المواضع.
بينما عندما سأل المقداد بن الأسود النبيَّ ، فقال: يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني، فضرب إحدى يدي بالسيف، فقطعها ثم لاذمني بشجرة، فقال:أسلمت لله، أفأقتله يا رسول الله لله بعد أن قالها؟ فقال رسول الله :" لا تقتله "، قال: فقلت يا رسول الله إنه قد قطع يدي، ثم قال ذلك بعد أن قطعها، أفأقتله ؟ قال:" لا تقتله، فإن قتله فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال"متفق عليه. أي إنه بمنزلتك قبل أن تقتله مسلم آمن بأمان الإسلام، وأنت بمنزلته حلال الدم ـ يُقاد منك لقتلك النفس التي حرم الله ـ كما كان قبل أن يقول كلمة الإسلام حلال الدم .. فلم يعذره النبي لبلوغه نص التحريم الذي لا ينفع معه اجتهاد ولا تأويل.
وكذلك ابن عمر، كان يقطع الخفين للمرأة المحرمة، ثم حدثته صفية بنت أبي عبيد أن عائشة حدثتها: أن رسول الله ، قد كان رخص للنساء في الخفين، فترك ذلك[ ].
وكان من وصايا النبي إذا أمر أميراً على جيش، أن قال له:" وإذا حاصرت أهل حصنٍ فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا " مسلم.
منطوق الحديث: أن حكمه قد لا يوافق حكم الله، فيكون من جهة حكم بغير ما أنزل الله، لكنه معذور ومأجور لاجتهاده.
ونحو ذلك اجتهاد الصحابة واختلافهم على مراد النبي  لما أمرهم بأن " لا يُصلينَّ أحدٌ العصر إلا في بني قريظة " فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نُصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نُصلي، لم يُرد منا ذلك، فذُكر ذلك للنبي  فلم يُعنف واحداً منهم. البخاري.
فلم يُعنف النبي  واحداً منهم؛ لأن النص والنصوص الأخرى ذات العلاقة بالصلاة تقبل مثل هذا الاجتهاد والاختلاف.
ونحو ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري قال: خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيداً طيباً، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد احدهما الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله  فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد:"
أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك "، وقال للذي توضأ وأعاد:" لك الأجر مرتين "[ ].
قال ابن تيمية رحمه الله في كتابه رفع الملام، ص56: فإن من نشأ ببادية، أو كان حديث عهد بإسلام، وفعل شيئاً من المحرمات غير عالم بتحريمها، لم يأثم، ولم يحد، وإن لم يستند في استحلاله إلى دليل شرعي.
فمن لم يبلغه الحديث المحرم، واستند في الإباحة إلى دليل شرعي، أولى أن يكون معذوراً، ولهذا كان هذا مأجوراً محموداً لأجل اجتهاده ا- هـ.
ـ تنبيه: ما تقدم لا يحمل على الجاهل الذي لا يملك أدوات الاجتهاد فيما يُفتي فيه، ولا المبتدع صاحب الهوى الذي يعرف الحق بأدلته القطيعة، ثم تراه ينحرف عنه، ويفتي بخلافه، لإرضاء سلاطين الجور والكفر، أو المأرب مادي دنيوي، فمن كان هذا وصفه لا يُعذر بمانع الاجتهاد، فقد بشر النبيُّ  أمثالَه بالنار فقال:" القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار؛ فأما الذي في الجنة، فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في حكمه، فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار "[ ].
وكون المجتهد المعذور المأجور له أجر إذا أخطأ، لا يعني أنه يجوز تقليده فيما أخطأ فيه، إذا عُلم خطؤه عند من يقلده، فتقليد العلماء في الحق والباطل، والصواب والخطأ هو من سنن أهل الكتاب الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، كما قال تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهالتوبة:31 . وذلك لما أطاعوهم في تحليل الحرام، وتحريم الحلال!
7- الإكراه: كذلك من أظهر الكفر تحت ظروف الإكراه ـ وقلبه مطمئنٌ بالإيمان ـ ليس عليه شيء، وهو ممن يشملهم العذر، لقوله تعالى:مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ النحل:106. وقوله تعالى:لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُآل عمران:28.[ ].
قال ابن جرير في التفسير 3/228:إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاة، إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ماهم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل[ ].
وقال ابن عباس:التقاة التكلم باللسان، وقلبه مطمئن بالإيمان ا- هـ.
وفي الحديث، فقد صح عن النبي أنه قال:"إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه"[ ].
وكذلك عندما أخذ المشركون عماراً ، فلم يتركوه حتى نال من رسول الله وذكر آلهتهم بخير. فلما أتى رسول الله قال:" ما وراءك؟" قال:شرٌ يا رسول الله، ما تركت حت
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حامل المسك1
المدير العام
المدير العام
حامل المسك1


كتاب قواعد في التكفير للشيخ ابو بصير الطرطوسي 190070434
عدد المساهمات : 226
نقاط : 421
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 03/04/2011
الموقع : بلاد الرافدين

كتاب قواعد في التكفير للشيخ ابو بصير الطرطوسي Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب قواعد في التكفير للشيخ ابو بصير الطرطوسي   كتاب قواعد في التكفير للشيخ ابو بصير الطرطوسي I_icon_minitimeالجمعة أبريل 08, 2011 3:52 am

وفي الحديث، فقد صح عن النبي أنه قال:"إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه"[ ].
وكذلك عندما أخذ المشركون عماراً ، فلم يتركوه حتى نال من رسول الله وذكر آلهتهم بخير. فلما أتى رسول الله قال:" ما وراءك؟" قال:شرٌ يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير. فقال رسول الله:" فكيف تجد قلبك؟ " قال: أجد قلبي مطمئناً بالإيمان. قال:" فإن عادوا فعد "[ ].
أما الذي يطمئن قلبه بما يُكره عليه من الكفر، لا يعذر بالإكراه، لقوله تعالى: وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. ولأن القلب وما وقر فيه لا سلطان للمخلوق عليه، فالإكراه سلطانه على الجوارح وليس على القلوب وما يستقر في القلوب.
8- من أظهر الكفر لدفع كفرٍ أكبر وأغلظ: وذلك عندما يقع في خيار بين أمرين كلاهما كفر لا بد من تقديم أحدهما على الآخر، فحينها يقضي الشرع بتقديم أقلهما كفراً وضرراً لدفع أشدهما وأغلظهما كفراً وضرراً[ ].

وصورة ذلك تتحقق عندما تُبتلى الأمة بطاغوت كفره مغلظ بعضه فوق بعض، تشتد فتنته وبلوته على البلاد والعباد، ولا مجال لاستئصاله وإراحة العباد من شره إلا بعد الانغماس في صفه وعسكره، والتظاهر بما يوهمه أنك من جنده وبطانته إلى أن تتمكن من عنقه وقتله ..
وهذه مسألة كنا نحسب أنها منتهية وواضحة لا تستحق البحث أو الجدال لوضوحها وبخاصة عند الجماعات الجهادية التي تحتاج إلى كل جزئية من جزئيات الفقه الإسلامي، لكي تستفيد منه وتستخدمه في عملية المواجهة الضخمة التي تخوضها ضد طواغيت الكفر والإلحاد في الأرض، الذين يحرسون الجاهلية المعاصرة بكل ما يملكون من قوة ووسائل ..!!
ولكن بشيء من التأمل والمتابعة وجدنا أن المسألة مثار جدلٍ واختلاف عند كثير من الإخوان، يأبى بعضهم التسليم بالمسألة بزعمٍ مفاده أن الكفر لا يجوز إظهاره إلا في حالة الإكراه المباشر المعروفة صورته والمبينة من قبل ..!!
لذا وجدنا أنفسنا مضطرين للبيان وبحث المسألة بشيء من التفصيل والتدقيق .. والله تعالى المستعان، نستلهم منه وحده تعالى السداد والتوفيق.
فأقول: لا حرج على المسلم إن دعت الضرورة إلى استئصال طاغوت وإمام كبير من أئمة الكفر والظلم أن ينغمس في عسكره وصفوف جنده، ويتظاهر على أنه منهم، على نية استئصال الطاغوت وإراحة الأمة من شره وكفره المغلظ، وذلك للأسباب والأدلة التالية:
أولاً: لدلالة النصوص الشرعية على جواز ذلك، منها ما أخرجه البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله  :" مَن لكعب بن الأشرف ؟ فإنه قد آذى الله ورسوله " فقام محمد ابن مسلمة فقال: يا رسول الله، أتحبُّ أن أقتله ؟ قال:" نعم "، قال: فأذنْ لي أن أقول شيئاً، قال:" قلْ "، فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقةً، وإنه قد عنَّانا، وإني قد أتيتُك أستسلفُك، قال: وأيضاً والله لتملُّنه ، قال: إنا قد اتبعناه فلا نحبُّ أن ندعَهُ، ننظر إلى أي شيءٍ يصير أمره، وقد أردنا أن تسلفنا وسقاً أو وسقين .. إلى آخر الحديث وفيه: فلما استمكن منه قال: دونَكم، فقتلوه . ثم أتَوا النبيَّ  فأخبروه .
قال ابن حجر في الفتح 7/392: وفي رواية الواقدي:" سألنا الصدقة، ونحن لا نجد ما نأكل .. قال كعب لأبي نائلة: أخبرني ما في نفسك، ما الذي تريدون في أمره؟ قال: خذلانه والتخلي عنه، قال: سررتني " .
قلت: لا شك أن هذا الكلام الذي دار بين أصحاب النبي  وبين عدو الله اليهودي كعب بن الأشرف فيه من الكفر الظاهر، مالا يمكن إظهاره أو التلفظ به في الظروف العادية، والذي أباح للصحابة إظهار ما أظهروه هو استئصال طاغوت اشتد أذاه لله ورسوله  ..!
ومظاهر الكفر بادية في هذا الحديث من جهات عدة:
منها: قول محمد بن مسلمة:" سألنا الصدقة ونحن لا نجد ما نأكل .." وهذا مفاده رمي النبي  بالظلم والجور، وأنه يسأل الناس دفع الصدقات وهم لا يجدون ما يأكلون .. وهذا لا شك أنه كفر.
ومنها: قوله:" وإنه قد عنَّانا "؛ أي أتعبنا بسؤاله لنا الصدقة ونحن لا نجد ما نصدقه .. هذا المفهوم من سياق الكلام، وهذا لا شك انه كفر لتضمنه التذمر وعدم الرضى بالنبي  وما جاءهم به من عند ربه ..
ومنها: أن هذا المفهوم من قوله " قد عنَّانا " المتقدم الذكر هو الذي حمل كعباً على أن يقول:" وأيضاً والله لتملنَّه " أي سيأتي اليوم الذي تملون فيه النبي ودعوته بسب هذا الظلم وهو سؤاله لكم الصدقة وأنتم لا تجدون ما تصدقونه ..
ومنها: قوله:" فلا نُحبُّ أن ندعه ننظر إلى أي شيءٍ يصير أمره "، أي أن وقوفنا معه قائم على اعتبار العاقبة، فإن كانت العاقبة له كنا معه وأصابنا الخير بسبب ذلك، وإن كانت العاقبة لغيره تركناه وتخلينا عنه .. فنحن ننظر إلى أي شيءٍ يصير أمره .. وهذا لا شك أنه كفر.
ومنها: قول أبي نائلة ـ وكان مع محمد بن مسلمة في المهمة ـ :" نريد خذلانه والتخلي عنه "، لا شك أنه من الكفر البواح الذي لا يحتمل تأويلاً ولا صرفاً .. ولو قيل هذا الكلام في الظروف الطبيعية لكفر صاحبه .
ومنها: قول عدو الله ورسوله كعب:" لتملنَّه ..وسررتني " هو من الطعن والاستهزاء بالرسول  الظاهر .. ومع ذلك لم ينكر عليه الصحابة، وبقوا معه وفي مجلسه إلى أن تمكنوا من تنفيذ مهمتهم فيه ..
والشاهد أن الجلوس في مجالس الكفر والاستهزاء بالدين من غير إنكار ولا إكراه ولا قيام هو كفر أكبر، ومع ذلك الصحابة فعلوه ليتمكنوا من استئصال الكفر الأكبر المتمثل في الطاغية كعب بن الأشرف لعنه الله.
ومنها: أن استئذان الصحابة ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ النبيَّ في أن يقولوا فيه كلاماً؛ أي الكلام الذي يفيد الذم والتجريح الذي لا يجوز أن يُقال في الحالات الطبيعية إلا إذا آثر صاحبه الكفر على الإيمان .. وإلا فإن الكلام المباح لا يحتاج إلى استئذان !
وهذا المعنى يوضحه ابن حجر في الفتح حيث يقول: قوله" فأذن لي أن أقول شيئاً، قال قل .." كأن استأذنه أن يفتعل شيئاً يحتال به، ومن ثم بوب عليه المصنف " الكذب في الحرب " وقد ظهر من سياق ابن سعد للقصة أنهم استأذنوا أن يشكوا منه ويُعيبوا رأيه ..!
وفي مرسل عكرمة:" وأذَنْ لنا أن نصيب منك فيطمئن لنا، قال: قولوا ما شئتم!" انتهى.
وفي رواية موسى وأبي إسحاق، التي يذكرها ابن كثير في البداية والنهاية بتمامها 4/8، ومما جاء فيها: قال فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثاً لا يأكل ولا يشرب إلا ما يعلق نفسه، فذُكر ذلك لرسول الله  فدعاه فقال له: لمَ تركت الطعام والشراب ؟ فقال يا رسول الله قلت لك قولاً لا أدري هل أفي لك به أم لا . قال: إنما عليك الجهد . قال: يا رسول الله، إنه لا بد لنا أن نقول، قال: فقولوا ما بدا لكم فأنتم في حلٍّ من ذلك ..! انتهى.
قال الشيباني في السير 1/189:" فأئذن لنا فلنقل، فإنه لا بد لنا منه "؛ أي نخدعه باستعمال المعاريض، وإظهار النيل منك . انتهى .
قلت: فالحديث ـ بمجموع طرقه، وكما فهمه العلماء ـ حجة قوية في المسألة، إن تُمكن من رد وجه من أوجه الاستدلال به، فإنه لا يمكن رد مجموع أوجه الاستدلال به الآنفة الذكر ..والله تعالى أعلم.
دليل آخر: وهي قصة مقتل الطاغية خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي، وكان قد جمع الجموع لغزو النبي  في المدينة، وتمام الحديث كما أخرجه أحمد وغيره، عن عبد الله بن أُنَيْس قال دعاني رسول الله  فقال:" إنه قد بلغني أن خالد بن سفيان الهذلي يجمع لي الناس ليغزوني فائته فاقتله ـ وفي رواية: قال رسول الله  مَن لسفيان الهذلي يهجوني ويشتمني ويؤذيني ـ قال: قلت يا رسول الله انعته لي حتى أعرفه قال إذا رأيته وجدت له قشعريرة قال: فخرجت متوشحاً سيفي حتى وقعت عليه وهو بعرنة مع ظعن يرتاد لهن منزلاً، وحين كان وقت العصر فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله  من القشعريرة، فأقبلت نحوه وخشيت أن يكون بيني وبينه محاولة فصليت وأنا أومئ برأسي الركوع والسجود، فلما انتهيت إليه قال من الرجل ؟ قلت: رجل سمع بك وبجمعك لهذا الرجل، فجاءك في ذلك . قال: أجل، أنا في ذلك قال فمشيت معه شيئاً حتى إذا أمكنني حملت عليه بالسيف حتى قتلته ثم خرجت وتركت ظعائنه مكبات عليه، فلما قدمت على رسول الله  فرآني، قال: أفلح الوجه . قلت: قتلته يا رسول الله . قال: صدقت، ثم قام معي رسول الله  فدخل بي بيته فأعطاني عصاً فقال: أمسك هذه عندك يا عبد الله بن أنيس .. آية بيني وبينك يوم القيامة، إن أقل الناس المتخصرون يومئذٍ . قال: فقرنها عبد الله بسيفه فلم تزل معه حتى إذا مات أمر بها فضُمت معه في كفنه، ثم دفنا جميعاً "[ ].
فتأمل قوله:" رجل سمع بك وبجمعك لهذا الرجل، فجاءك في ذلك "؛ أي جئتك لأنصرك وأكثر سوادك في قتالك للنبي  .. وهذا لا شك أنه لفظ كفري، ولو أنه قيل في الحالات الطبيعية ـ لغير ضرورة استئصال هذا الطاغوت ـ لكان كفراً أكبر ..
ثم تأمل لو تُرك هذا الطاغوت وهدفه، كم كان سيكلف الدعوة الإسلامية وهي في مهدها، وأوائل نشوئها ..؟!
ومن الأدلة كذلك: أمر النبي  لنعيم بن مسعود أن يخذل عن المسلمين يوم وقعة الأحزاب .. وكان مما قاله نعيم بن مسعود لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: قد عرفتم ودي لكم، وفراقي محمداً، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت عليَّ حقاً أن أبلغكموه نصحاً لكم فاكتموه عني ..[ ].
فإن قيل هذه المقولة:" قد عرفتم ودي لكم، وفراقي محمداً .." لا تفيد الكفر، أقول: إن مجرد الجلوس والإقامة في مجالس الكفر والاستهزاء والطعن، والحرب على الله ورسوله .. من غير إنكار ولا قيام هو كفر، لقوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً النساء:140. أي إن أبيتم إلا الجلوس معهم من غير إنكار فأنتم مثلهم في الكفر .. فكيف والصحابي  قد ضم إلى جلوسه في مجالس الكفر والحرب على الله ورسوله، مقولته الآنفة الذكر .. لاشك أن هذا من الكفر البواح لا شك فيه.
ولكن الذي برر كل ذلك هو أن نية الصحابي نعيم بن مسعود  كانت أن يخذل عن المسلمين، ويفرق بين الأحزاب التي تحالفت على حرب الرسول  والدعوة الإسلامية
.. وهذه مهمة جليلة فوائدها عامة، تهون أمامها مثل العبارة الآنفة الذكر عنه  .
قال الشيباني في السير 1/185: وإذا دخل المسلم دار الحرب بغير أمان، فأخذه المشركون فقال لهم: أنا رجل منكم، أو جئت أريد أن أقاتل معكم المسلمين، فلا بأس بأن يقتل من أحب منهم، ويأخذ من أموالهم ما شاء .. انتهى . ثم استدل بقصتي مقتل الطاغوتين: خالد بن سفيان الهذلي، وكعب بن الأشرف ..
قلت: قوله أنا رجل منكم، أو جئت أريد أن أقاتل معكم المسلمين .. هو كفر، وهو مستساغ ـ عند الشيباني ـ من أجل أن يقتل منهم من أحب، وإذا كان الأمر كذلك فمن باب أولى أن يكون ذلك مستساغاً وجائزاً من أجل استئصال طاغوت اشتد كفره وطغيانه وأذاه على المسلمين ..!
ثانياً: أن قواعد الشريعة الكلية جاءت بمبدأ دفع الضرر، وبارتكاب أخف الضررين ودفع أعلاهما ضرراً، وهذا يشمل جميع مسائل الدين؛ الأصول والفروع منها، ومن هذه المسائل التي يشملها مسألتنا هذه .
وصورة ذلك عندما يُخير المرء بين كفرين لا بد له من أحدهما، ولا بد له من دفع أحدهما بالآخر، فحينئذٍ الفقه والنقل والعقل كل ذلك يقول لك: أنظر أكثرهما وأغلظهما كفراً فادفعه واستأصل شأفته بالأقل كفراً كما هو في مسألتنا؛ فالطاغوت جاثم على صدر ومقدرات الأمة يمارس جميع صور الكفر والإجرام، والقتل .. وهو بذلك لا شك أنه يمثل الكفر الأكبر المغلظ والمركب، ثم تبين أنه لا يمكنك استئصاله إلا غيلة بارتكاب بعض صور الكفر المجردة الضيقة كما ورد ذلك في قصة اغتيال الطاغوتين كعب بن الأشرف، وسفيان الهذلي .. فتفعل إن شاء الله ولا حرج، هذا إن لم يتحول هذا الفعل في حقك إلى درجة الوجوب .
فإن أخذت الحمية بعض المتسرعين وقالوا: هذا مفاده إباحة بعض صور الكفر .. !
قلت: فإن عدمه يلزمك السكوت والإبقاء والمحافظة على ما هو أغلظ منه كفراً وخطراً على العباد والبلاد ..!!
فانظر أيهما أسلم وأرضى لدينك وآخرتك ..؟!!
فإن قالوا ـ كما ذُكر عن البعض ـ : أن الكفر لا يُباح إلا لضرورة ملزمة، لأن المحظورات لا تُباح إلا بالضرورات، وإزالة الطاغوت حاجة وليست ضرورة ..!!
أقول: الطاغوت الذي عطل العمل بشرع الله ، وحارب التوحيد وأهله، والذي لم يدع نوعاً من أنواع الكفر والفجور والطعن بالدين إلا أتى بأعلاه وأوفره حظاً، فأهلك بذلك العباد والبلاد، وسامهم سوء العذاب والذل، والفقر .. أقول الطاغوت الذي هذه بعض صفاته تكون إزالته وإراحة الأمة من كفره وشره من قبيل الحاجيات، مثله مثل تحصيل الغسالات والثلاجات ..؟!
إذا كانت إزالة هذا الطاغوت وأمثاله هو من الحاجيات، وليس من الضرورات، فما هو الذي يكون ـ عندكم أيها الفقهاء! ـ من الضرورات ..؟!!
إذا كانت إزالة الطواغيت الذين يستشرفون خصائص الإلهية ويُعبدون من دون الله لا ترقى عندكم إلى درجة الضرورة، فإنه لا يوجد عندكم شيء اسمه ضرورة ..!!
علماً أن الدين ـ من لدن نوح  إلى نبينا محمد  ـ يقوم على ركنين عظيمين: أولهما الكفر بالطاغوت وإزالته واستئصاله وبغضه، والركن الثاني تحقيق العبودية المطلقة لله  ، وهذا معنى لا إله إلا الله الذي لأجلها خلق الله الخلق كله .. وهي غاية عظمى لا تعلوها غاية، ترخص في سبيلها كل الغايات والمقاصد، فضلاً عن الوسائل والسبل .
أيكون أحد ركني الدين والتوحيد ـ عندكم يا فقهاء الإثارة! ـ من الحاجيات لا يرقى إلى درجة الضرورات ..؟!!
ثالثاً: إذا كان ـ كما يقول الصحابي ابن مسعود  ـ يجوز للمرء أن يقول الكـلام الذي يدرأ عنه سوطاً أو سوطين .. فكيف لا يجوز له أن يقول الكلام الذي يدرأ عنه وعن أمته الذبح والقتل، والذل، والقهر، والكفر المغلظ بكل ضروبه وأنواعه ..؟!!
وإذا كان دفع سوط أو سوطين يُعتبر من الضرورات التي تبيح المحظورات .. فكيف لا يكون دفع القتل والمجازر الجماعية بحق المسلمين وبحق أطفالهم ونسائهم التي يقوم
بها الطاغوت من الضرورات التي تُبيح المحظورات ..؟!!
رابعاً: هذا الطريق سلكه الأعلام من مجاهدي الأمة ابتداء من الصحابي محمد بن مسلمة، ونعيم بن مسعود ، وأبي نائلة، وعبد الله بن أُنيس .. مروراً بالبطل صلاح الدين الأيوبي الذي كان وزيراً في الدولة الفاطمية العبيدية الكافرة، إلى أن تمكن من استئصال الكفر المتمثل في شعوذة العبيديين، وتغيير الدولة كلها إلى دولة إسلامية سنية مجاهدة .. انتهاء بالبطل خالد اسلامبولي ورفاقه الذين أراحوا الأمة من خائن الأمة السادات ..!
والقول بخلاف ما قدمنا من لوازمه رمي هؤلاء الأبطال وغيرهم بالكفر والعياذ بالله .. وهذا لا يقدم عليه عاقل يعز عليه دينه!!
ـ تنبيهات وضوابط تتعلق بهذا المانع:
من خلال ما تقدم نستخلص النقاط التالية:
1- لا يجوز إظهار الكفر إلا لضرورة استئصال كفر أكبر وأغلظ .. والمتمثل في الطغاة المجرمين وكفرهم .. ولا نرى إظهار الكفر ـ بقول أو عمل ـ من أجل إزالة كفرٍ مماثل له أو ما هو دونه ..!!
2- لا يُلجأ إلى هذه الوسيلة إلا إذا انتفت جميع الوسائل التي تمكن من استئصال الطاغوت صاحب الكفر المركب والمغلظ .. أما إن توفرت وسائل وسبل أخرى لا يجوز اللجوء إلى هذه الوسيلة ..!
3- في حال عُمل بهذه الرخصة يجب التحري ما أمكن في عدم التلفظ أو الوقـوع في الكفر .. إلا ما دعت إليه الضرورة من غير زيادة أو توسع ..
4- في حال قُدر على استخدام المعاريض، وكانت تكفي لتنفيذ المهمة .. لا يجوز اللجوء إلى الترخص في إظهار الكفر أو التلفظ به، لقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ التغابن:16.
5- ما يجوز في الجهاد لا يجوز في غيره من المواطن، وما يجوز للمجاهد المقاتل لا يجوز لغيره القاعد .. وهذه مسألة بينة واضحة تضافرت عليها أدلة الكتاب والسنة، بحثها مستقلاً يحتاج إلى بحث وربما إلى مصنف مستقل ..!
9- الحسنات: وجود الحسنات، أو أن يكون للمرء سابقة إسلام وجهاد وبلاء، وغير ذلك من الأمور الحسنة، فهي وإن كانت لا تعد من موانع تكفير المعين، إلا أنها تتشفع لصاحبها عند ورود الشبهات، والكفر المحتمل.
فالحسنات العظيمة مدعاة لتوسيع دائرة التأويل وإقالة العثرات لصاحبها حين ينفع التأويل، كما حصل لحاطب بن أبي بلتعة، فإن بدراً وغيرها من الحسنات، قد تشفعت له ونفعته يوم أن قال عمر فيه: دعني يا رسول الله أقطع عنق هذا المنافق .. فإنه قد نافق، عندما أخطأ بإفشاء سر زحف النبي لفتح مكة .. وإطلاع كفار قريش على ذلك .. وكان متؤلاً في ذلك كما تقدم.
ونحو ذلك الخارجي الذي قال للنبي : اتقِ الله .. اعدل! فقال له النبي :" ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله .. إذا أنا لم أعدل فمن يعدل؟!!" فقال خالد بن الوليد : يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال :" لا، لعله أن يكون يصلي .." والحديث رواه مسلم وغيره، وشاهدنا منه أن تتأمل كيف أن الصلاة تشفعت لهذا الرجل، ومنعت من قتله .. علماً أنه قال مقولة بحق سيد الخلق حملت خالداً على أن يستأذن النبي  بأن يفصل عنقه عن جسده ..!
قال تعالى في حسنة الصلاة: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ هود:114.
أما عند مورد الكفر البواح ـ الذي لا يقبل صرفاً ولا تأويلاً ـ فإن الحسنات مهما عظمت، فإنها لا يمكن أن تقاوم، كما لا يمكن أن تتشفع لصاحبها، ولا تمنع ـ مستقلة ـ من تكفيره بعينه، كما حصل لقدامة بن مظعون، ومن معه عندما استحلوا الخمر وشربوها متأولين، فقد أجمع الصحابة على أنهم إذا لم يعودوا عن استحلالهم للخمر، وعن تأويلهم الفاسد الذي حملهم على الاستحلال .. فإنهم قد كفروا وبدلوا وغيروا، ويقتلون كفراً وردة، علماً أن قدامة كان من أهل بدر وأحد، وهو ممن شهد المشاهد مع رسول الله .. فتأمل كيف أن بدراً تشفعت لحاطب، ولم تتشفع لقدامة ومن معه لو أصروا على الاستحلال .. وهذه مسألة سنعود إليها ثانية بشيء من التفصيل إن شاء الله.

ـ لوازم تكفير المعين وشروطه.
بعد أن بينا موانع تكفير المعين، نشرع ـ إن شاء الله ـ في بيان لوازم وشروط تكفير المعين، وهي:
1- انتفاء موانع التكفير الآنفة الذكر: بحيث لا يكون كفره أو ما أظهره من كفر بسبب يعذر لأجله؛ كأن يكون جاهلاً، أو حديث عهد بالإسلام، أو متأولاً، أو مكرهاً وغير ذلك من الموانع التي تقدم الحديث عنها.
2- التبين والتثبُّت: فمن شروط تكفير المعين، التبين من حقيقة كفر ذاك المعين، حيث لا يجوز تكفيره بالظن أو الشبهات من دون بينة ظاهرة تستلزم ذلك، كما قال تعالى:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ الحجرات:6. وقال تعالى:وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاًالنجم:28.
فلو نُقل لنا عن غائب معين ـ ممن نجهل حاله ـ أنه يقول الكفر أو يفعله، أو يعتقده، لا يجوز لنا أن نكفره مباشرة بعينه لمجرد هذا النقل ـ لاحتمال كذب ناقل الخبر، أو تحامله عليه، أو فهمه الخاطئ لمراد ما سمعه أو رآه من ذاك المعين ـ حيث لا بد من التبين والتثبت من صحة ما نقل عنه أولاً، ولا نجزم بكفره بعينه حتى تتوفر لدينا جميع القرائن الدالة على كفره .. والتي تمكننا من تكفيره بعينه.
وكذلك قوله تعالى:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً النساء:94.
عن ابن عباس قال: مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي يرعى غنماً له، فسلم عليهم، فقالوا لا يسلم علينا إلا ليتعوذ منا فعمدوا إليه فقتلوه، وأتوا بغنمه النبيَّ
، فنزلت هذه الآيةيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا[ ].
وعنه قال: قال رسول الله للمقداد بعد أن قتل رجلاً شهد أن لا إله إلا الله: كان رجلاً مؤمناً يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة من قبل" البخاري.
أي كان يجب عليك أن تقبل ما أظهره من إيمان .. وتكف عن قتله .. فالشبهة التي حملتك على قتله قد مررتَ بها وعايشتها .. فهل تحب أن تُعامَل لأجلها .. كما عاملت هذا الرجل فقتلته لأجلها ..؟!
3- إقامة الحجة: لتكفير المعين لا بد ـ بعد التثبت والتبين ـ من قيام الحجة الشرعية عليه فيما قد خالف فيه، إذا كان ممن يعذرون بالجهل، أو كان ما ظهر منه من كفر بسبب عدم بلوغه الخطاب الشرعي .. ثم يُقابل هذه الحجة بالرد، أو الإعراض، أو الجحود .. لقوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاًالإسراء:15. وقال تعالى:رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماًالنساء:165. وهذا المعنى قد تقدمت الإشارة إليه.
والحجة تقوم عليه بأي وسيلة توصل إليه الدليل الشرعي ـ قال الله قال الرسول  ـ وبالقدر الذي يدفع عنه جهله وعذره فيما قد خالف فيه[ ].
هذه هي شروط ولوازم تكفير المعين فإذا تحققت وتوفرت بحق أي شخص معين .. وانتفت قبلها الموانع الآنفة الذكر .. تعين تكفيره بعينه ولا بد.
ـ شرط فاسد: هناك من يُضيف ـ إضافة لما تقدم ـ كشرط لتكفير المعين: شرط " الاستتابة "؛ حيث يشترطون استتابته من كفره أو ما أظهره من كفر ومخالفة قبل تكفيره .. وهذا شرط باطل، لم يقل به عالم معتبر، وهو بخلاف ما دلت عليه النصوص
الشرعية، وما جرى عليه عمل السلف.
قال تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ التوبة:5. فحكم الله تعالى عليهم بالشرك وسماهم مشركين قبل أن يتوبوا أو يُستتابوا ..!
ثم أن الاستتابة تكون من شيء، فإذا لم يُحكم عليه بحكم معين كالكفر أو الردة، أو الفسوق ونحو ذلك .. فمما يُستتاب، ولما يُستتاب ..!
ويُقال كذلك: أن الاستتابة تكون فرصة أخيرة يُمنحها المخالف قبل قيام الحد عليه ليراجع نفسه ويُعود إلى الحق والرشد .. وقد قدرها بعض أهل العلم بثلاثة أيام للمرتد.
كما لا يجوز أن يُخلط بين إقامة الحجة وبين الاستتابة؛ فإقامة الحجة ـ كما تقدم ـ تعني: إيصال المعلومة الشرعية التي تدفع العذر أو العجز عن المخالف فيما قد خالف فيه، بينما الاستتابة ـ كما تقدم ـ تعني أن يُمنح المخالف فرصةً أخيرة لمراجعة النفس والتوبة .. بعد إقامة الحجة عليه .. وقبل أن يُقام عليه الحد .. وليس قبل أن يُحكم عليه بالكفر أو الردة .. فتنبه لذلك!








* * *
ـ القاعدة الثانية:" إنجازُ الوعدِ، وإرجاءُ الوعيد "[ ].
الشرح: اقتضت حكمة الله تعالى ورحمته أن ينجز لعبده ما وعده من أجرٍ وثواب على ما قدم من حسنات وعمل صالح، بينما سيئاته وذنوبه ـ وإن كانت تستلزم العذاب ـ فهي تترك لمشيئة الله تعالى إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه[ ].
كما في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء النساء:48.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التوبة:111.
وقوله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ الاحقاف:16.
وقوله: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الزمر:74.
وقوله: قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيراً الفرقان:15. وغيرها كثير من الآيات الكريمة التي تدل على هذا المعنى.
وفي الحديث كما في"الصحيحين"، عن عبادة بن الصامت، أن رسول الله قال، وحوله عصابة من أصحابه:" بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه". فقطع  على نفسه أن ينجز ما وعد به عباده على ما قدموا من عمل صالح .. كما علق الوعيد على مشيئته  إن شاء عذب وإن شاء عفا.
وعن أنس، قال: قال رسول الله:" إن الله لا يظلم مؤمناً حسنةً، يُعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا[ ] حتى إذا قضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها " مسلم.
وقال:" من وعده الله على عمل ثواباً، فهو منجزُه له، ومن وعده على عملٍ عقاباً فهو فيه بالخيار "[ ]. فهذا نص قطعي الدلالة على صحة القاعدة الآنفة الذكر.
وكذلك قوله :" إن أصاب أحدٌ منكم حداً تعجلت له عقوبة فهو كفارة له، ومن أخر عنه فأمره إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء رحمه "[ ].
وكان ابن عمر يقول: كنا نوجب لأهل الكبائر النار حتى نزلت هذه الآية على النبي : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءالنساء:48. فنهانا رسول الله  أن نوجب لأحد من أهل الدين النار[ ].
فقوله :" من أهل الدين " أي من أهل القبلة، والحديث فيه دليل على أننا نوجب النار على من مات من غير أهل القبلة.
ويستثنى من ذلك، الوعيد الخاص بحقوق العباد وما يقع بينهم من مظالم واعتداءات، حيث أن الوعيد هنا على الظالم المعتدي لا محالة ولا بد من أن يسترد للمظلوم حقه من الظالم، يوم لا ينفع مال ولا بنون، هذا ما يقتضيه عدل الله تعالى، والذي دلت على النصوص الشرعية.
كما جاء في الحديث عن النبي  أنه قال:" الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفره الله، وظلم يغفره، وظلم لا يتركه، فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك، قال الله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ  ، وأما الظلم الذي يغفره فظلم العباد أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه الله فظلم العباد بعضهم بعضاً حتى يُدبر لبعضهم من بعض"[ ].
وعن أبي هريرة أن رسول الله  قال:" لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى للشاة الجلحاء من الشاة القرناء " مسلم.
وعنه أيضاً، عن النبي قال:" من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم؛ إن كان له عملٌ صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه " رواه البخاري.
وقال :" أتدرون من المفلس؟" قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال:" إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار" مسلم.
ـ تنبيه: اعلم أن نصوص الوعيد الورادة في الكتاب والسنة يجب القول بموجبها على وجه الاطلاق والعموم لا التعيين، فنقول هذا الذنب يقتضي هذا العذاب، من دون أن نحمله على الشخص المعين لاحتمال وجود موانع لحوق الوعيد بحقه وانتفاء شروطه،
وموانع لحوق الوعيد بالمعين عديدة[ ] منها:
1- الحسنات:فإن الحسنات يذهبن السيئات، ويُبطلن وعيدها، كما قال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ  هود:114.
عن عبد الله بن مسعود قال: جاء رجل إلى النبي ، فقال: يا رسول الله إني عالجت امرأة في أقصى المدينة[ ]، وإني أصبت منها ما دون أن أمسها، فأنا هذا فاقضي فيَّ ما شئت.
فقال عمر: لقد سترك الله لو سترت نفسك، قال: فلم يرد النبي شيئاً، فقام الرجل فانطلق فأتبعه النبي رجلاً دعاه، وتلا عليه هذه الآية: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ، فقال رجل من القوم: يا نبي الله هذا له خاصة؟قال:" بل للناس كافة " مسلم.
وعن أنس قال: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله أصبت حداً فأقمه علي، قال: وحضرت الصلاة، فصلى مع رسول الله ، فلما قضى الصلاة قال يا رسول الله إني أصبت حداً فأقم فيَّ كتاب الله،قال:"هل حضرت الصلاة معنا؟"، قال: نعم، قال:"قد غفر الله لك".
وفي رواية:" أرأيت حين خرجت من بيتك، أليس قد توضأت فأحسنت الوضوء ؟" قال: بلى يا رسول الله، قال:" ثم شهدت الصلاة معنا؟"، فقال:نعم يا رسول الله، فقال
له رسول الله :" فإن الله قد غفر لك حدك أو قال: ذنبك " مسلم.
وكذلك قوله :" إن الصلوات الخمس، يذهبن بالذنوب كما يذهب الماء الدرن "[ ].
وقال :" إن العبد إذا قام يصلي أتي بذنوبه كلها فوضعت على رأسه وعاتقيه، فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه "[ ].
وعن عبد الله بن مسعود  قال: قال رسول الله :" تحترقون تحترقون ـ أي بسبب ذنوبكم ومعاصيكم ـ فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم حتى تستيقظوا "[ ].
وقال :" إن لله ملكاً ينادي عند كل صلاة:يا بني آدم! قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها "[ ].
وقال :" أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟ يسبح الله مائة تسبيحة؛ فيكتب الله له بها ألف حسنة ويحط عنه بها ألف خطيئة "[ ].
وكذلك الصيام فإنه تمحمى به السيئات، كما في الحديث عن النبي  أنه قال:" من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ".
وكذلك الحج فإنه يجبُّ ما قبله من سيئات، كما في الحديث عن النبي  أنه قال:" من حجّ فلم يرفث، ولم يَفسُق؛ رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمُّه " متفق عليه.
وقال :" العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة " متفق عليه.
وكذلك الجهاد في سبيل الله فإنه لا شيء مثله تمحمى به الخطايا والذنوب، فقد صح عن النبي  أنه قال:" عليكم بالجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، فإنه باب من أبواب الجنة يذهب الله به الهم والغم "[ ]. ولا شك أن من أسباب الهم والغم، المعاصي والذنوب.
وقال :" من اغبرت قدماه في سبيل الله، فهو حرامٌ على النار "[ ]. فكيف بمن يغبر وجهه وجميع بدنه في سبيل الله ؟!
وقال :" مثل المجاهد في سبيل الله ـ والله أعلم بمن يجاهد في سبيله ـ كمثل الصائم القائم الخاشع الراكع الساجد "[ ].
وقال :" الغدوة والروحة في سبيل الله ، أفضل من الدنيا وما فيها"متفق عليه.
وقال :" ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة؟اغزوا في سبيل الله"[ ].
وعن أبي هريرة، قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله ، فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد؟ قال:" لا أجده؛ هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجداً فتقوم لا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟!" قال: من يستطيع ذلك! البخاري.
وفي صحيح مسلم: أن عبداً لحاطب جاء رسول الله  يشكو حاطباً، فقال:يا رسول الله! ليدخلن حاطب النار، فقال رسول :" كذبت، لا يدخلها، فإنه شهد بدراً والحديبية ". وغيرها كثير من الأحاديث والنصوص التي تدل على فضل الجهاد في سبيل الله ، وأنه ممحاة للذنوب والخطايا مهما عظمت عدا الإشراك بالله؛ فإن الشرك لا يُقاومه شيء إلا التوبة النصوح.
قال ابن تيميه في الفتاوى 28/421- 422: من كان كثير الذنوب فأعظم دوائه الجهاد؛ فإن الله  يغفر ذنوبه، كما أخبر الله في كتابه بقوله سبحانه وتعالى: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ. وكذلك من أراد أن يكفر الله عنه سيئاته في دعوى الجاهلية وحميتها فعليه
بالجهاد ا- هـ.
والشاهد من جميع ما تقدم أن الحسنات يذهبن السيئات، وأنها مانعة من موانع لحوق الوعيد بالمعين، إن شاء الله تعالى.
أما درجة السيئات التي تمحى بالحسنات، فمنهم من قال: تمحى بها السيئات التي هي دون الكبائر، أما الكبائر فلا تمحوها إلا التوبة النصوح ..!
والصواب الذي دلت عليه السنة، أن الأمر عائد إلى نوع الحسنات وعظمتها، ودرجة الإخلاص والتجرد فيها لله ؛ فرب درهم سبق مائة ألف درهم ..!
وعليه فنقول: من عظمت حسناته وكانت كالجبال يمحو الله بها سيئاته وإن كانت من الكبائر، ومن قلت حسناته فهي تمحو له من السيئات على قدرها. فليس من يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله، كمن يجاهد بماله، وليس من يصلي الصلوات الخمس في المسجد جماعة كمن يصلها في بيته، وليس من يعقل صلاته كلها كم لا يعقل من الصلاة إلا ربعها أو عشرها .. وهكذا فإن الحسنات تتفاوت فيما بينها صعوداً وهبوطاً كما تتفاوت السيئات، وبالتالي لا تصح المساواة بين الحسنات الكبيرة والحسنات الصغيرة من حيث أثرهما في دفع السيئات ومحوها.
فقد دلت السنة أن رجلاً من الصحابة كان مدمناً على شرب الخمر ـ أم الخبائث ـ وكان يقام عليه الحد، فأتي به يوماً فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي :" لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله". فتأمل كيف أن حسنة موالاته لله ولرسوله، وحبه لله ورسوله منعت من لحوق الوعيد العام به، وهو لعن الخمر وشاربها .. علماً أن شرب الخمر من الكبائر.
ومثل ذلك ما حصل لحاطب بن أبي بلتعة عندما تشفعت له بدر، أنعم وأكرم بها من حسنة، " لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " وقد
تقدم الحديث.
وكذلك قصة المرأة البغي من بني إسرائيل التي سقت الكلب، كما في الحديث:" بينما كلب يطيف بركيه ـ بئر ـ كاد يقتله العطش، إذا رأته بغيٌ من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها ـ خفها ـ فاستقت له به، فغفر لها " متفق عليه.
فتأمل كيف أن حسنة سقياها لكلب اشتد عطشه، حطت عنها سيئات البغاء والزنى، علماً أن الزنى من الكبائر .. والله تعالى أعلم.
2- البلاء: مما يمحو الله به الخطايا والسيئات، ما يصيب العبد من وصب وبلاء، فيصبر محتسباً الأجر عند الله تعالى.
كما قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ البقرة:157.
وقال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ  محمد:31 .
وفي الحديث، فقد صح عن النبي  أنه قال:" إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده، أو في ماله أن في ولده، ثم صبره على ذلك، حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى"[ ].
وعن جابر بن عبد الله مرفوعاً:" ليودن أهل العافية يوم القيامة أن جلودهم قرضت بالمقاريض، لما يرون من ثواب أهل البلاء "[ ].
وقال :" ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه، إلا كفر الله عنه من سيئاته"[ ].
وقال :" إن الله تعالى يقول: إذا ابتليت عبداً من عبادي مؤمناً، فحمدني وصبر على ما ابتليته به، فإنه يقوم من مضجعه ذلك كيوم ولدته أمه من الخطايا. ويقول الربُّ للحفظة: إني أنا قيدت عبدي هذا وابتليته، فأجروا له من الأجر ما كنتم تجرون له قبل ذلك وهو صحيح"[ ].
وقال :" ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه، وولده، وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة "[ ].
وقال :" إن عظم الجزاء من عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط "[ ].
وقال :" إن الصالحين يشدد عليهم، وإنه لا يصيب مؤمناً نكبة من شوكة فما فوق ذلك، إلا حطت بها عنه خطيئة، ورفع بها درجة "[ ].
وقال :" إن البلايا أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه "[ ].
وقال :" وصَبُ المؤمن كفارةٌ لخطاياه "[ ]. والوصب: الوجع والمرض.
وقال :" ما ابتلى الله عبداً ببلاءٍ وهو على طريقةٍ يكرهها، إلا جعل الله ذلك البلاءَ له كفارةً وطهوراً، ما لم يُنزل ما أصابه من البلاء بغير الله، أو يدعو غير الله في كشفه "[ ].
وقال :" أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب
دينه، فإن كان دينه صلباً اشتدّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة "[ ].
وغيرها كثير من الأحاديث النبوية التي تدل على أن البلايا تمحو الخطايا والسيئات، وأنها مانعٌ من موانع لحوق الوعيد بالمعين.
أما السيئات التي تُمحى بالبلاء، فهي على قدر شدة البلاء، وقدر الصبر والاحتساب؛ فمن اشتد عليه بلاؤه وصبر عليه، واحتسب أجره عند الله تعالى حط عنه عظيم سيئاته، ولربما لا يُبقي له سيئة، ومن قل بلاؤه وصبره حط عنه من السيئات بقدر بلائه وصبره، والله تعالى أعلم.


يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حامل المسك1
المدير العام
المدير العام
حامل المسك1


كتاب قواعد في التكفير للشيخ ابو بصير الطرطوسي 190070434
عدد المساهمات : 226
نقاط : 421
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 03/04/2011
الموقع : بلاد الرافدين

كتاب قواعد في التكفير للشيخ ابو بصير الطرطوسي Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب قواعد في التكفير للشيخ ابو بصير الطرطوسي   كتاب قواعد في التكفير للشيخ ابو بصير الطرطوسي I_icon_minitimeالجمعة أبريل 08, 2011 3:57 am

فقد صح عن النبي أنه قال:" من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن"، مفهوم الحديث أن من لا تسره الحسنة ولا تسيئه السيئة لا يكون مؤمناً.
لذا كان الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ أكثر الناس حساسية من الذنوب
والخطايا، فكان أحدهم إذا مارس المباحات يشعر بتغير قلبه .. وتكدر إيمانه عليه، وما ذلك إلا لقوة الإيمان واليقين عندهم.
كما في الحديث، عن حنظلة الأسيدي ـ وكان من كتاب رسول الله  ـ قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة قال: قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله ما تقول؟! قال: قلت: نكون عند رسول الله يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنها رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله  عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله ، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله : وما ذاك؟ قلت: نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنها رأي عين،فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً. فقال رسول الله :" والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشِكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة، ثلاث مرات " مسلم.
وعن ابن أبي مليكة قال: أدركت ثلاثين من أصاحب النبي  كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحدٌ يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل"البخاري.
قلت: وما ذلك إلا لقوة إيمانهم وصفاء قلوبهم، وشدة حساسيتهم من المنكر والزلل، رضي الله عنهم أجمعين.
وعن أنس  قال:" إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد رسول الله  من الموبقات؛ يعني المهلكات " البخاري. وذلك للفارق الضخم بين إيمان الصحابة وإيمان الأجيال التي تلت بعدهم ..!
وكذلك كان أحدهم يتمنى أن يسقط من الثريا وأن يكون حُمَمَة وأن لا يتكلم عما توسوس به نفسه من سوء، وعندما أخبروا النبي  عن ذلك، فقال:" ذاك صريح الإيمان "مسلم. أي هذا الحرج مما تجدونه من الوسوسة لهو دليل صريح على صدق إيمانكم، فدل أن من يتكلم بالكفر البواح .. من دون أن يُسيئه ذلك .. ومن دون أن يجد في صدره الحرج مما اقترفت يداه .. أنه كافر فاقد لأصل الإيمان.
ـ القرائن الدالة على الباطن:
الرضى مقره القلب وهو أمر باطني لا سبيل لنا إلى معرفته والحكم عليه إلا من خلال قرائن لفظية وعملية ظاهرة على الجوارح تدل عليه، فمن أتى بشيء منها كان دالاً على حقيقة باطنة وحقيقة ما وقر في قلبه، وهي:
ـ قرائن لفظية:
وهي أشد القرائن دلالة على حقيقة الباطن، كأن يعبر المرء عن نفسه ـ من غير إكراه ـ بكلام صريح يدل على رضاه بالكفر واستحلاله له، كالذي يحسن الشرائع الوضيعة التي تضاهي شرع الله تعالى، ويعتبرها الشرائع الأفضل التي بها يتحقق التقدم والإزدهار وغير ذلك من العبارات التي تدل على حقيقة ما وقر في القلب واطمأنت إليه النفس، وهذا لا خلاف بين أحد من علماء الأمة على كفره وأنه أتى بما يخرجه من دائرة الإسلام.
والقرائن اللفظية: منها ما يكون تعبيراً صريحاً عن الكفر البواح .. فهي لا تحتاج إلى تبينٍ أو تحرٍّ عن قصد صاحبها .. إذ لا وجه لها غير الكفر، ولا مناص من الإمساك عن تكفير صاحبها، كالشاتم لله ولرسوله، ونحو ذلك ..!
ومنها ما يكون محتملاً ومتشابهاً يحتمل الكفر من وجه، ويحتمل غيره من وجه آخر؛ فهو ليس إلى الكفر قولاً واحداً وليس إلى دونه قولاً واحداً .. ففي مثل هذه الحالة وما يُشابهها من حالات يتعين تحري قصد صاحبها؛ حيث لا يُجزم بكفر قائلها إلا بعد محاججته ومعرفة قصده من إطلاقه المريب والمشكل ذاك.
ـ قرائن عملية:
وهي أعمال الجوارح الظاهرة التي تدل على حقيقة الباطن وما وقر فيه، وهي في كثير من الأحيان تكفي للحكم على باطن المرء من دون أن يُستنطق بعبارات الاستحلال أو الرضى القلبي؛ أي من دون إضافة القرائن اللفظية.
من هذه القرائن العملية:
1ـ الجلوس في مجالس الكفر والاستهزاء بالدين:
كما تقدم فإن الجلوس في مجالس المستهزئين بالله وآياته ورسوله من غير إكراه ولا إنكار، هو قرينة دالة على الرضى بكفرهم وقبح صنيعهم وبالتالي فهو كافر مثلهم، كما قال تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً النساء:140.
قال القرطبي في التفسير 5/418: لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضى بالكفر كفر، فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء ا- هـ.
وقال الشوكاني في التفسير 1/527: قوله: إنكم إذاً مثلهم  أي إنكم إن فعلتم ذلك ولم تنتهوا فأنتم مثلهم في الكفر ا- هـ. وكذلك قال غيرهم من أهل التفسير.
فتأمل قول القرطبي رحمه الله:" من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم " حيث اعتبر مجرد الجلوس ـ من غير إكراه ولا إنكار ـ هو قرينة دالة على الرضى بفعلهم.
وقد تقدم كلام سليمان آل الشيخ حيث قال:" فهو كافر مثلهم، وإن لم يفعل فعلهم؛ لأن ذلك يتضمن الرضى بالكفر، والرضى بالكفر كفر ".
وكذلك مقولة خالد بن الوليد لمجاعة:" يا مجاعة تركت اليوم ما كنت عليه أمس وكان رضاك بأمر هذا الكذاب وسكوتك عنه وأنت أعز أهل اليمامة، وقد بلغك مسيري، إقراراً له ورضاء بما جاء به " علماً أن مجاعة لم يتفوه بكلمة واحدة تنم عن رضاه بأمر مسيلمة الكذاب، لكن لما كان بقاؤه في سلطانه من غير إكراه ولا إنكار عُد ذلك قرينة دالة على رضاه بما جاء به الكذاب.
2ـ الاستهزاء والطعن بالدين ولو كان على وجه اللعب.
كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ.لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ التوبة:66.
فدل أ ن كل من استهزأ بالله وآياته ورسوله ـ ولو على وجه الخوض واللعب لا الجد ـ فهو كافر في الظاهر والباطن، واستهزاؤه قرينة دالة على فساد باطنة، وإن لم يعترف بلسانه أنه يستحل ما بدا منه من استهزاء، وأنه فعل ما فعل على وجه الخوض واللعب، والترفيه عن النفس .. لا الجد والاعتقاد .. فلو كان باطنه فيه إيمان لمنعه من الإستهزاء بدين الله على أي وجه من الأوجه!
قال ابن تيميه في الفتاوى 7/220: فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم إنا تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل كنا نخوض ونلعب، وبين الاستهزاء بآيات الله كفر، ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدره بهذا الكلام، ولو كان الإيمان في قلبه منعه أن يتكلم بهذا الكلام ا- هـ.
فانظر كيف اعتبر شيخ الإسلام أن الاستهزاء الظاهر لا يصدر إلا ممن شرح صدره بهذا الاستهزاء، وأنه قرينة دالة على انتفاء مطلق الإيمان من القلب، ولو كان فيه إيمان لمنعه عن ذلك.
وقال في "الصارم"، ص31: وهذا نص في أن الاستهزاء بالله وبآياته وبرسله كفر، فالسب المقصود بطريق الأولى، وقد دلت هذه الآية على أن كل من تنقص رسول الله  جاداً أو هازلاً فقد كفر ا- هـ.
قال أبو بكر بن العربي في الجامع لأحكام القرآن 8/197: فإن الهزل بالكفر كفر، لا خلاف فيه بين الأمة ا- هـ. سواء استحل أو لم يستحل، أو اعتقد أو لم يعتقد ؛ فاشتراط الاستحلال أو الاعتقاد في مثل هذه المواضع كشرط للتكفير هو من مذهب أهل الإرجاء والتجهم الذين المرجئة الذين يخرجون العمل من مسمى الإيمان!
3ـ إظهار الكفر من غير إكراه، ولا تقيّة مُلزمة:
كما في قوله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌالنحل:106.
فدل أن كل من أظهر الكفر البواح من غير إكراه ولا تقية ملزمة فقد شرح بالكفر صدراً، سواء أقر بذلك أو لم يقر، فإن لسان الحال يكذب لسان المقال.
قال ابن تيميه رحمه الله في الفتاوى 7/220: فإنه جعل كل من تكلم بالكفر من أهل وعيد الكفار، إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، فإن قيل: فقد قال تعالى: وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً قيل: وهذا موافق لأولها فإنه من كفر من غير إكراه فقد شرح بالكفر صدراً، وإلا ناقض أول الآية آخرها، ولو كان المراد بمن كفر هو الشارح صدره وذلك يكون بلا إكراه لم يستثن المكره فقط، بل كان يجب أن يستثنى المكره وغير المكره إذا لم يشرح صدره، وإذا تكلم بكلمة الكفر طوعاً فقد شرح بها صدراً وهي كفرا- هـ.
فانظر قوله:" إذا تكلم بكلمة الكفر طوعاً فقد شرح بها صدراً " فاعتبر من يتكلم بالكفر طوعاً من غير إكراه قرينة دالة على كفر الاعتقاد وفساد الباطن وهو انشراح الصدر بالكفر.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في تفسيره للآية: فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئناً بالإيمان، وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه سواء فعله خوفاً أو مداراة، أو مشحة بوطنة، أو أهله أو عشيرته، أو ماله، أو فعله على وجه المزح، أو لغير ذلك من الأغراض إلا المكره، والآية تدل على هذا من جهتين:
الأولى: قوله تعالى: إلا من أكر ، فلم يستثن الله إلا المكره، والثانية قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَة ، فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد أو الجهل أو البغض للدين، أو محبة الكفر، وإنما سببه أن له في ذلك حظاً من حظوظ الدنيا، فآثره على الدين[ ].
ومما يستدل به كذلك على كفر من يتكلم بالكفر طوعاً من غير إكراه، قوله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ التوبة:74. وقوله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ التوبة:12.
قال ابن تيميه في الصارم، ص17: فثبت أن كل طاعن في الدين فهو إمام في الكفر ا- هـ.
وقال القرطبي في التفسير 8/82: استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب قتل كل من طعن في الدين؛ إذ هو كافر؛ والطعن أن ينسب إليه ما لا يلق به، أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدين.
روي أن رجلاً قال في مجلس علي : ما قُتل كعب بن الأشرف إلا غدراً، فأمر علي بضرب عنقه.
قال علماؤنا: هذا يقتل ولا يستتاب إن نسب الغدر للنبي ، لأن ذلـك
زندقة ا- هـ.
فتأمل كيف أن المرء يحكم على فساد باطنه واعتقاده، لمجرد كلمة ينطق بها لا يلقي لها بالاً.
صدق النبي  حيث قال:" إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه "[ ].
نسأل الله تعالى أن يحفظنا من الزلل، وأن يختم لنا بعمل يكتب لنا به رضاه إلى يوم نلقاه، إنه سميع قريب مجيب.
4ـ التحاكم إلى الطاغوت:
كذلك من القرائن الدالة على فساد الباطن، وانتفاء الإيمان من القلب العدول عن حكم الله  إلى التحاكم إلى الطاغوت، وشرائع الطاغوت، كما في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً النساء:60.
فدل أن من يتحاكم إلى الطاغوت[ ] طواعية، ويعدل عن التحاكم إلى شرع الله تعالى رغم يُسر ذلك له .. فإن إيمانه الذي يدعيه ويزعمه بلسانه هو عبارة عن ادعاءٍ كاذب وزعم لا أصل له في القلب، إذ لو كان صادقاً بأنه مؤمن لما تحاكم طوعاً إلى الطاغوت وشرائع الطاغوت معرضاً عن شرع الله تعالى.
قال الشنقيطي في"أضواء البيان"4/83: من أصرح الأدلة في هذا: أن الله جل وعلا في سورة النساء بين أن من يريدون أن يتحاكمون إلى غير ما شرعه الله يتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون، وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة في الكذب ما يحصل منه العجب؛ وذلك في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوت .
وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور: أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم ا ـ هـ. وللشيخ ـ رحمه الله ـ كلام نفيس في تفسيره لقوله تعالى: وإن أطعتموهم إنكم لمشركون فراجعه إن شئت.
وقال سيد قطب رحمه الله تعالى في الظلال 2/694: إن المقتضى الفطري البديهي للإيمان أن يتحاكم الإنسان إلى ما آمن به وإلى من آمن به.
فإذا زعم أنه آمن بالله وما أنزل، وبالرسول وما أُنزل إليه ثم دعي إلى هذا الذي آمن به ليتحاكم إلى أمره وشرعه ومنهجه كانت التلبية الكاملة هي البديهية الفطرية، فأما حين يصد ويأبى فهو يخالف البديهية الفطرية ويكشف عن النفاق، وينبئ عن كذب الزعم الذي زعمه من الإيمان ا- هـ.
وقال الشوكاني في الفتح 1/482: فيه تعجيب لرسول الله من حال هؤلاء الذين ادعوا لأنفسهم أنهم قد جمعوا بين الإيمان بما أنزل على رسول الله، وهو القرآن، وما أنزل على من قبله من الأنبياء، فجاؤوا بما ينقض عليهم هذه الدعوى ويبطلها من أصلها ويوضح أنهم ليسوا على شيء من ذلك أصلاً، وهو إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت وقد أُمروا فيما أنزل على رسول الله وعلى من قبله أن يكفروا به ا- هـ.
قلت: تأمل كيف أنهم بسبب عدولهم عن التحاكم إلى الله ورسوله ليتحاكموا إلى الطاغوت وشرائع الطاغوت .. حُكم على فساد اعتقادهم وكذب ادعائهم الإيمان، علماً أنهم لم يتلفظوا بالعبارات التي تنم عن اعتقادهم واستحلالهم التحاكم إلى الطاغوت، بل لما سُئلوا قالوا: ما أردنا إلا إحساناً وتوفيقا سورة النساء:62.
قال الشوكاني: أي ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إلا الإحسان لا الإساءة، والتوفيق بين الخصمين لا المخالفة لك[ ]. فأنكروا أن يكون فعلهم ناتجاً عن اعتقاد جواز التحاكم لغير النبي ، ولكنهم في هذا الإدعاء أيضا هم كاذبون  أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ من النفاق والكذب  فأعرض عنهم سورة النساء:63.
5ـ الإعراض عن التحاكم إلى شرع الله :
كما في قوله تعالى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ.وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَالنور:48.
فدل أن إظهار الإعراض عن التحاكم إلى الرسول [ ] قرينة دالة على فساد الباطن وانتفاء الإيمان من القلب، ومن كان هذا حاله لا ينفعه لو ادعى بلسانه ألف مرة أنه مؤمن وقد آمن بالله وبالرسول، بينما هو في واقع الحال يكذب ادعاءه هذا بإعراضه عن حكم الله وحكم رسوله.
ولو كان مؤمناً صادق الإيمان ـ كما يدعي ـ لقال سمعنا وأطعنا .. وانقاد لحكم الله ورسوله، كما قال تعالى عن المؤمنين: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ النور:51.
قال ابن تيميه في الصارم، ص38: فبين سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول وأعرض عن حكمه فهو من المنافقين، وليس بمؤمن، وأن المؤمن هو الذي يقول: سمعنا وأطعنا، فإذا كان النفاق يثبت ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره، مع أن هذا ترك محض، وقد يكون سببه قوة الشهوة، فكيف بالنقص والسب ونحوه ا- هـ.
وكذلك قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ آل عمران:32.
فدل أن الذي يتولى ويدبر عن الطاعة لله ورسوله، لا يكون مؤمناً وإنما هو من الكافرين المعاندين.
قال ابن كثير في التفسير 1/366: فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر والله لا يحب من اتصف بذلك ا- هـ.
وقال الإمام أحمد: نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول  في ثلاثة وثلاثين موضعاً، ثم جعل يتلو: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ  النور:63. وجعل يكررها ويقول: وما الفتنة؟ الشرك، لعله إذا رد بعض
قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ قلبه فيهلكه[ ].
6ـ طاعة المشركين فيما هو كفر:
كذلك من القرائن الظاهرة الدالة على فساد الباطن، وانتفاء الإيمان من القلب طاعة المشركين في تحليل الحرام أو تحريم الحلال، أو طاعتهم لذاتهم، أو طاعتهم في شيء مما هم عليه من الكفر.
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ  محمد:26.
فهؤلاء ارتدوا على أعقابهم كافرين ـ بعد أن آمنوا وتبين لهم سبيل الهدى ـ بسبب أنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر، فكان قولهم هذا قرينة ظاهرة تدل على فساد اعتقادهم وكفرهم في الباطن؛ لأن المرتد لا يصح أن يقال عنه مرتد وفي قلبه مثقال ذرة من إيمان.
قال ابن كثير في قوله: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ؛ أي فارقوا الإيمان ورجعوا إلى الكفر[ ].
قلت: هذا يعني أن الكفر والنفاق طرأ عليهم بسبب مقولتهم هذه بعد أن كانوا مؤمنين لأنهم لو كانوا منافقين قبل مقولتهم لا يصح أن يقال عنهم: فارقوا الإيمان ورجعوا إلى الكفر، فإن المنافق كافر لا إيمان له أصلاً .. فلا يُقال عنه ارتد بعد إيمانه!
ونحو ذلك قوله تعالى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ  الأنعام:121. أي إن أطعتموهم في استحلال أكل ما حرم الله إنكم لمشركون مثلهم بعد أن كنتم مؤمنين[ ]. فإن القرآن يصدق بعضه بعضاً.
7ـ حصول الحرج وانتفاء الرضى بحكم الله :
كذلك حصول الحرج من التحاكم إلى حكم الله ، كما في قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً النساء:65.
فدل أن عدم التحاكم إلى الشريعة، وحصول الحرج، وانتفاء التسليم لها قرينة ظاهرة تدل على انتفاء الإيمان من القلب وكذب مدعيه، إذ لو كان صادقاً بدعوى الإيمان لرضي بشريعة الإسلام حكماً ولما أعرض عنها إلى سواها من شرائع الطاغوت، إذ أن الإيمان حافز لصاحبه بأن يرضى بحكم الله ورسوله وأن لا يختار عليه حكماً آخر، كما قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ الأحزاب:36. أما الذين يظنون أن لهم الخيرة من أمرهم في دفع أو قبول حكم الله ورسوله، أولئك ليسوا بمؤمنين.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسماً مؤكداً بالنفي قبله عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع وأحكام الشرع وأحكام المعاد وسائر الصفات وغيرها، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج، وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الإنشراح وتنفسح له كل الإنفساح وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضى والتسليم وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض[ ].
قلت: أما أن يخضع شرع الله للتصويت ولاختيار ـ على طريقة الديمقراطية ـ فهذا ليس من صنيع من آمن بالله ورسوله.
قال ابن كثير في التفسير 1/553: يقسم بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول  في جميع الأمور، فيسلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة ا- هـ.
8ـ من لوازم صدق الإيمان رد المنازعات إلى الله والرسول :
كما قال تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر  النساء:59.
من دلالات هذه الآية:" أنه جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه، فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان، ضرورة انتفاء الملزم لانتفاء لازمة، ولا سيما التلازم بين هذين الأمرين فإنه من الطرفين، وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر "[ ]. فجعل انتفاء الرد الظاهر إلى الله والرسول دليلاً على انتفاء الإيمان الباطن.
ومنه نعلم أن كل من أبى أن يرد النزاع إلى الله والرسول .. وآثر إلا أن يرده إلى شرائع وقوانين البشر .. كشرائع الأمم المتحدة وغيرها .. فهو ليس بمؤمن .. مهما زعم بلسانه خلاف ذلك!
9ـ انتفاء المتابعة الظاهرة:
فمن انتفت عنه المتابعة الظاهرة لهدي الشريعة علمنا يقيناً بفساد باطنه .. وكفره باطناً وظاهراًً، كما في قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه آل عمران:31.
فعلامة حب العبد لربه  اتباع نبيه  في جميع ما جاء به من عند ربه، والحب يكون على قدر الاتباع والالتزام، فإذا قوي الحب في القلب قوي الاتباع الظاهر، وإذا قوي الاتباع الظاهر قوي الحب في القلب ولا بد، فكل منهما دليل على الآخر ولازم وملزوم له، وبالتالي فإن من ينتفى عنه مطلق الاتباع الظاهر لهدي الشريعة الإسلامية فإنه يكون قد أتى بالدليل الصريح الدال على انتفاء مطلق الحب من باطنه وقلبه، ولا ينتفي مطلق الحب لله إلا من قلب كل كافر لا يؤمن بالله العظيم .. ومن زعم بلسانه خلاف ذلك وأنه يحب الله من غير اتباع للنبي ، فصريح الآية يكذب زعمه وادعاءه.
قال ابن كثير في التفسير 1/366: هذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله ا- هـ.
قال حنبل: حدثنا الحميدي، قال: أخبرت أن ناساً يقولون: من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت، ويصلي مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً .. قلت: هذا الكفر الصراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين. قال الله تعالى:  وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين  البينة:5.
وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: من قال هذا فقد كفر بالله ورد على أمره وعلى الرسول ما جاء به عن الله[ ].
فتأمل قول الحمدي: هدا الكفر الصراح، وقول الإمام أحمد: من قال هذا فقد كفر بالله .. هذا حكم القائل، فكيف إذا ضم إلى قوله الفعل؟ فهو لا شك أنه أصرح كفراً وجرماً!
ومنه يعلم الخطر الذي عليه مشايخ الإرجاء، الذين يقولون: إن الإيمان يتحقق بمجرد الإقرار ومن دونه أن يتبعه انقياد وعمل!!
وفي هذا يقول ابن تيميه في الفتاوى 7/287: لو قُدر أن قوماً قالوا للنبي : نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك ونقر بألسنتنا بالشهادتين، إلا أنا لا نطيعك في شيء مما أمرت به ونهيت عنه؛ فلا نصلي ولا نصوم، ولا نحج، ولا نصدق الحديث، ولا نؤدي الأمانة، ولا نفي بالعهد، ولا نصل الرحم، ولا نفعل شيئاً من الخير الذي أمرت به، ونشرب الخمر وننكح ذوات المحارم بالزنا الظاهر، ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك، ونأخذ أموالهم بل نقتلك أيضاً، ونقاتلك مع أعدائك هل كان النبي يقول لهم: أنتم مؤمنون كاملو الإيمان، وأنتم من أهل شفاعتي يوم القيامة ويرجى لكم أن لا يدخل أحد منكم النار، بل كل مسلم يعلم بالإضرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك ا- هـ.
وعن أبي إسحاق الفزاري، عن الأوزعي قال: لا يستقيم الإيمان إلا بالقول، ولا يستقيم الإيمان والقول إلا بالعمل، ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة[ ].
10ـ عدم الحكم بما أنزل الله:
كما في قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ  المائدة:44. فدل أن من أعرض عن الحكم بما أنزل الله، وقدم الحكم بالطاغوت وبشرائع الطاغوت ـ وكل حكم غير حكم الله فهو طاغوت ـ وعمل به، وفرضه على الناس، وقاتل دونه، فهو كافر ظاهراً وباطناً، سواء نطق بعبارات الاستحلال للحكم بغير ما أنزل الله أو لم ينطق، فالظاهر الفاسد دليل على باطنه الفاسد.
ومن كان هذا وصفه لا يجوز أن يحمل عليه قول ابن عباس : كفر دون كفر، أو ليس بالكفر الذي تذهبون إليه!
فهذا القول ليس مكانه أن يُحمل على طواغيت عُرفوا بشدة عدائهم لحكم الله ، ولمن يُطالبهم بالحكم بما أنزل الله، وإنما يحمل على حكام مسلمين يحكمون بما أنزل الله في جميع شؤون الحياة ومرافق الحكم، وهم مع ذلك لم تظهر منهم قرائن الرد والإعراض عن حكم الله ، ولا الكره لما أنزل الله .. ثم هم في مسألة معينة أو بعض المسائل لتأويل أو شبهة أو شهوة عارضة، أو ضعف، أو هوى لقريب ونحو ذلك لا يحكمون فيها بما أنزل الله، كما حصل لبعض حكام بني أمية والعباسيين وغيرهم .. فهؤلاء هم الذين يُحمل عليهم مقولة أهل العلم: كفر دون كفر، وليس بالكفر الأكبر الذي تذهبون إليه.
وقد أشار النبي إلى ذلك، فقال:" أول من يغير سنتي رجل من بني أمية "[ ]. أي بغير سنته  في اختيار الخليفة من نظام شوري إلى نظام وراثي!
وقال :" أول ما يفقد من الدين الحكم وآخره الصلاة ".
ومع ذلك لم يقل أحد من علماء الأمة بكفر أحد من حكام بني أمية أو العباسيين لكونهم غيروا نظام الحكم إلى نظام وراثي.
بهذا التفصيل ينبغي أن يفهم كلام ابن عباس "كفر دون كفر"، وإلا نكون قد أسأنا الأدب مع حبر الأمة وحملنا قوله مالا يقصد ولا يريد، وضربنا نصوص الشريعة بعضها مع بعض[ ].
11ـ موالاة المشركين ومظاهرتهم على المسلمين:
أيضاً من القرائن العملية الظاهرة التي تدل على حقيقة الباطن الموالاة؛ فمن والى الكفار والمشركين من دون المؤمنين فقد أتى بما يدل على نفاقه وفساد باطنه، وإن ادعى بلسانه أنه غير ذلك.
كما قال تعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ المائدة:81 .
قال ابن تيميه في الفتاوى 7/17: فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب. ومثله قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُم  المائدة:51. فإنه أخبر في تلك الآية أن متوليهم لا يكون مؤمناً، وأخبر هنا أن متوليهم هو منهم، فالقرآن يصدق بعضه بعضاً ا- هـ.
فتأمل قوله: ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب"، والذي ينتفي اجتماعه في القلب هو الإيمان والكفر، كما في الحديث:" لا يجتمع الإيمان والكفر في قلب امرئ "[ ]. فوجود أحدهما في القلب يستلزم انتفاء الآخر ولا بد.
وكذلك قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاة آل عمران:28. وقوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ  المجادلة:22. وقوله تعالى: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً.الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً النساء:139 . وغيرها كثير من الآيات التي تدل على نفاق من يتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، وعلى فساد باطنه، وانتفاء الإيمان من قلبه.
12ـ ترك مجاهدة الكفار:
ومن القرائن العملية الظاهرة التي تدل على فساد الباطن وسوء الطوية والنية، ترك مجاهدة الكفار والمشركين، وتثبيط الأمة عن جهادهم، وكذلك تنفير الناس عن مناصرة الجهاد والمجاهدين .. والخوض في أعراض المجاهدين بالطعن والذم .. فهذه صفات لا يمكن أن تجتمع إلا في قلب منافق مرجف يضمر شراً للإسلام والمسلمين.
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌآل عمران:156.
قال ابن كثير في التفسير 1/428: ينهى تعالى عباده المؤمنين عن مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد الدال عليه قولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار والحروب لو كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم ا- هـ. فتأمل كيف اعتبر قولهم لإخوانهم دليلاً على كفرهم وفساد اعتقادهم.
وقال تعالى: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ. لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ التوبة:57.
"فأخبر سبحانه أنهم وإن حلفوا إنهم من المؤمنين فيما هم منهم، ولكن يفزعون من العدو"[ ].
وقال تعالى: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ.إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ التوبة:45 .
قال ابن تيمية في الفتاوى 28/438: فهذا إخبار من الله بأن المؤمن لا يستأذن الرسول في ترك الجهاد وإنما يستأذنه الذين لا يؤمنون، فكيف بالتارك من غير استئذان ؟! ا- هـ.
قلت: فكيف بمن يثبط الأمة عن الجهاد، ويطعن بالجهاد والمجاهدين ..؟!
كيف بمن يستثني من طرحه الجهاد .. ويعتبره طرح متخلف لا يصلح تبنيه في هذا العصر ..؟!
كيف بمن يؤثم المجاهدين .. لجهادهم في سبيل الله .. لا شك أن من كان كذلك ـ وما أكثرهم في زماننا ـ أنهم أولى بالنفاق وانتفاء الإيمان عنهم!
وكذلك قوله تعالى: الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَآل عمران:168.
وقال تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً الأحزاب:18 . إلى قوله تعالى: أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً الأحزاب:19.
قال ابن تيمية في الفتاوى 28/455: قال العلماء: كان من المنافقين من يرجع من الخندق فيدخل المدينة، فإذا جاءهم أحد قالوا له: ويحك! اجلس، فلا تخرج. ويكتبون بذلك إلى إخوانهم الذين بالعسكر: أن أئتونا بالمدينة، فإنا ننتظركم؛ يثبطونهم عن القتال. وكانوا لا يأتون العسكر إلا أن لا يجدوا بداً، فيأتون العسكر ليرى الناس وجوههم، فإذا أغفل عنهم عادوا إلى المدينة ا- هـ.
وقوله: أولئك لم يؤمنون  إشارة إلى الموصوفين بتلك الصفات، فهم لم يؤمنوا الإيمان الخالص، بل باطنهم الكفر والنفاق بخلاف ظاهرهم الذي يوحي بالإيمان[ ].
وكذلك قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً.إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ  النساء:142.
وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ العنكبوت:10.
وغيرها كثير من الآيات التي تدل على أن ترك الجهاد في سبيل الله من غير عذر شرعي معتبر، وتثبيط الناس عن الجهاد وعن نصرة المجاهدين بالإشاعات والأراجيف الباطلة هو من خلق المنافقين وقرينة دالة على النفاق وفساد الباطن.
وكذلك الذين ينصرون الطواغيت الظالمين ويُظاهرونهم بالفتاوى الباطلة على المسلمين المجاهدين؛ فيسلقون المجاهدين ـ لمجرد جهادهم الكفار ـ بألسنة حداد، ويظهرونهم للناس على أنهم أصحاب فتنة وشقاق، ومجرمون .. وهم بجهادهم آثمون آبقون في نار جهنم وبئس المصير، وغير ذلك من العبارات التي لا تخدم إلا الطواغيت، فهؤلاء ـ وإن كان لهم سابقة إسلام ـ لا يحسبون أن دينهم بقي سالماً لهم، فهم أولى بالكفر والنفاق من غيرهم، وفي قصة "بلعام" ـ الذي انسلخ من آيات الله بعد أن أوتيها بسبب دعائه للكافرين من بني قومه على المسلمين المؤمنين ـ عبرة لمن أراد أن يعتبر، كما قال تعالى فيه: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ الأعراف:175-176.
وفي هؤلاء يصدق كذلك قوله :" إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان"[ ].


يتبع

اخوكم
ابو عزام الانصاري
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
كتاب قواعد في التكفير للشيخ ابو بصير الطرطوسي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» كتاب قواعد في التكفير للشيخ ابو بصير الطرطوسي الموضوع الثاني
» كتاب قواعد في التكفير للشيخ ابو بصير الطرطوسي الموضوع الثاني
» كتاب قواعد في التكفير للشيخ ابو بصير الطرطوسي القاعدة السادسة الموضوع الثالث
» كتاب قواعد في التكفيرالقاعدة التاسعة للشيخ ابو بصير الطرطوسي
» كتاب قواعد في التكفيرالقاعدة الثامنة للشيخ ابو بصير الطرطوسي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
مــــــــــــــــــــــنــــــتدى ألتــــــــــــــــــــوحيـــــــــــد :: الاقسام الشرعية :: مكتبـــه المنتدى-
انتقل الى: