مــــــــــــــــــــــنــــــتدى ألتــــــــــــــــــــوحيـــــــــــد
حياكم الله وبياكم في منتدى التوحيد
يسعدنا تسجيلكم ومشاركتكم اسره المنتدى
مــــــــــــــــــــــنــــــتدى ألتــــــــــــــــــــوحيـــــــــــد
حياكم الله وبياكم في منتدى التوحيد
يسعدنا تسجيلكم ومشاركتكم اسره المنتدى
مــــــــــــــــــــــنــــــتدى ألتــــــــــــــــــــوحيـــــــــــد
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

مــــــــــــــــــــــنــــــتدى ألتــــــــــــــــــــوحيـــــــــــد

حياكم الله وبياكم في منتدى التوحيد
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته,,الى اخواننا الاعضاء والمشرفين والاداريين نبلغكم بانتقال المنتدى الى الرابط التالي http://altawhed.tk/ علما ان المنتدى هذا سيغلق بعد مده نسئلكم الدعاء وننتظر دعمكم للمنتدى الجديد وفقنا الله واياكم

 

 إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
حامل المسك1
المدير العام
المدير العام
حامل المسك1


إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي 190070434
عدد المساهمات : 226
نقاط : 421
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 03/04/2011
الموقع : بلاد الرافدين

إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي Empty
مُساهمةموضوع: إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي   إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي I_icon_minitimeالإثنين أبريل 11, 2011 6:05 am

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الى اخوتي مني السلام تحية

الى كل من حمل في صدره لا اله الا الله

الى كل من نصر لا اله الا الله

اقدم له هذا الكتاب والذو عهو بعنوان

إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر

للشيخ المجاهد الداعية

ابو محمد المقدسي



قال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون}
***
فيا لك من آيات حق لو اهتـدى بـهـن مريد الحق كن هواديـا
ولكن على تلك القلوب أكنـــة فليست وإن أصغت تجيب المناديا

المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له..
وبعد...
فهذه ورقات، كنت قد كتبت أصلها في محرم سنة 1408 من هجرة المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. حول الموضوع المشار إليه بين يدي الرسالة - وكنت قد قصرتها عليه وسميتها آنذاك (رد الهداة، على من زعم أن ليس في الأعمال والأقوال كفر ما لم يرتبط باعتقاد إلا الصلاة) رداً على بعض من كان يقول بذلك.. ولم أهتم بنشرها ولا بطباعتها آنذاك وإن كان بعض إخواننا في الباكستان قد طبعوها على الآلة الكاتبة وصوروها وتداولوها فيما بينهم وزاد بعضهم عليها زيادات..
ثم إني لما رأيت أمر المرجئة هذه الأيام قد استفحل في هذه البلاد واشرأبت فتنتهم وتطاولت وانتشرت بين الرعاع، رأيت نشرها لينتفع بها إخواننا طلبة الحق في قمع شبه أهل التجهم والإرجاء، فرجعت إلى أصلها( ).. فهذبته وزدت عليه ردوداً على شبهات أخرى متعلقة بالموضوع وليست ببعيدة عن أصله.. ولا مانع عندنا إن اخترعوا في المستقبل شبهات جديدة أخرى واشتهرت أن نتتبعها في جزء آخر يأتي، ونبطلها إن كان في العمر بقية بعون الله وتوفيقه..
إن عادت العقرب عدنا لها وكانت النعـل لهـا جاهزة
وسترى أننا في هذا العمل لا نتكلم في فرع من الفروع، وإنما هو أصل الدين وقاعدته ندفع عنها سهام قوم قد ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل.. نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإخلاص ويجعلنا من عباده وجنده الموحدين.. هذا والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
أبو محمد المقدسي
1412هـ

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وبعد...
فاعلم رحمنا الله تعالى وإياك، أنه قد تناهى إلينا أقوال عن كثير ممن يدعي العلم والدعوة إلى الله، مفادها أن ليس هناك قول أو عمل من الأعمال يكفر صاحبه به إلا أن يرتبط ذلك باعتقاد وإلا فلا، ويستثنون الصلاة.. وربما احتج بعضهم بحديث عبد الله بن شقيق العقيلي رضي الله عنه: (كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة) رواه الترمذي( ). ويحتجون بالقول المشهور (ولا نكفر مسلماً بذنب ما لم يستحله) وربما رفعه بعضهم وجعله حديثاً.
وحصل أن تحاورت مع بعضهم وضربنا بعض الأمثلة التي تخالف وتنقض ما قعدوه كالسب والاستهزاء والسجود للصنم ونحوه.. فقالوا: إن مثل هذه الأقوال والأفعال لا تصدر إلا عن اعتقاد.. فالساب أو المستهزىء أو الساجد للصنم لا بد وأنه يضمر من فساد الاعتقاد والاستخفاف بالدين وبشرائعه ما يدفعه إلى السب أو الاستهزاء وأمثالهما.. فهذا هو الكفر، لا الأعمال.. ولا يحكم على عمل من الأعمال بالكفر إلا بهذا القيد.
واعلم أن أصل المسألة إنما أثير حول قضية التحاكم إلى الطاغوت وأن فاعله لا يكفر إلا إذا فعله جحوداً لحكم الله أو استحلالاً - يقصدون طواغيت العصر المشرعين مع الله - فجعلوا الكفر - أو قيد الكفر - في هذه الأعمال الكفرية هو الجحود والاستحلال، لا نفس العمل الكفري من تحاكم للطاغوت أو تشريع مع الله أو استهزاء بدين الله أو سب لشرع الله أو سجود لغير الله ونحوه.. وقد كنت أظن أن هذا القول الرديء العاري عن الأدلة إنما هو وقف على بعض الأغرار حتى رأيت ممن ينتسبون للعلم والصدارة للدعوة ويشار إليهم بالبنان بين العوام والطغام، من يقول بذلك الفهم السقيم وينشرونه ويروجونه جدالاً عن الطغاة وأعداء الدين من الحكام المرتدين.. فبادرت بكتابة هذه الورقات لأجل قمع هذه الشبهة وإبطالها، سائلاً المولى عز وجل أن ينفع بها ويجعلها خالصة لوجهه إنه نعم المولى ونعم النصير.

فصل
في بيان من هم المرجئة
المرجئة ثلاثة أصناف:
- صنف قالوا بالإرجاء في الإيمان وبالقدر على مذاهب القدرية والمعتزلة.
- وصنف قالوا بالإرجاء في الإيمان وبالجبر في الأعمال على مذهب الجهمية.
- وصنف ثالث خارجون عن الجبرية والقدرية.. وهم فرق: اليونسية، الغسانية، الثوبانية، التومنية والمريسية.
وإنما سموا مرجئة لأنهم أخروا العمل عن الإيمان، فالإرجاء معناه التأخير، يقال: أرجيته، وأرجأته، إذا أخرته.
والمرجئة في باب الإيمان قسمان:
الأول: غلاة المرجئة (المرجئة المتكلمون).
والثاني: مرجئة الفقهاء( ).
* أما المرجئة المتكلمون: فقد قال جهم بن صفوان ومن تابعه: الإيمان؛ مجرد التصديق بالقلب وعلمه، ولم يجعلوا أعمال القلب من الإيمان، وظنوا أن الإنسان قد يكون مؤمناً كامل الإيمان بقلبه، وهو مع هذا يسب الله ورسوله، ويعادي أولياء الله ويوالي أعداء الله ويهدم المساجد ويهين المصاحف والمؤمنين غاية الإهانة، ويكرم الكفار غاية الإكرام، قالوا: وهذه كلها معاص لا تنافي الإيمان الذي في قلبه بل يفعل هذا وهو في الباطن عند الله مؤمن.
قالوا: وإنما ثبتت له في الدنيا أحكام الكفار، لأن هذه الأقوال إمارة على الكفر.
فإذا أورد عليهم الكتاب والسنة والإجماع على أن الواحد من هؤلاء كافر بنفس الأمر معذب في الآخرة. قالوا: فهذا دليل على انتفاء التصديق والعلم من قلبه، فالكفر عندهم شيء واحد، وهو الجهل، والإيمان شيء واحد وهو العلم، أو تكذيب القلب وتصديقه، فإنهم متنازعون هل تصديق القلب شيء غير العلم أو هو هو. وهذا القول مع أنه أفسد قول قيل في الإيمان، فقد ذهب إليه كثير من أهل الكلام المرجئة، وقد كفّّر السلف كوكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وأبي عبيد، وغيرهم من يقول بهذا القول، وقالوا: إبليس كافر بنص القرآن وإنما كفره باستكباره، وامتناعه عن السجود لآدم لا لكونه كذّب خبراً، وكذلك فرعون وقومه، قال الله تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً} [النمل: 14]. وقال موسى عليه السلام لفرعون: {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر} [الإسراء: 102]. فهذا موسى الصادق المصدوق يقول له ذلك، فدل على أن فرعون كان عالماً بأن الله أنزل الآيات وهو من أكبر خلق الله عناداً وبغياً لفساد إرادته وقصده، لا لعدم علمه، قال تعالى: {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين} [القصص: 4].
وكذلك اليهود الذين قال الله فيهم: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} [البقرة: 146].
وكذلك المشركون الذين قال الله فيهم: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} [الأنعام: 33].
* وأما مرجئة الفقهاء: وهم الذين قالوا الإيمان تصديق القلب وقول اللسان، والأعمال ليست منه، وكان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها، ولم يكن قولهم مثل قول جهم، فعرفوا أن الإنسان لا يكون مؤمناً إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه، وعرفوا أن إبليس وفرعون وغيرهم كفار مع تصديق قلوبهم، ولكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، ولم يقولوا بزيادة الإيمان ونقصانه بسبب العمل، لكن قالوا زيادة الإيمان كانت قبل اكتمال التشريع بمعنى أنه كان كلما أنزل الله آية وجب التصديق بها، فانضم هذا التصديق إلى التصديق الذي كان قبله لكن بعد كمال ما أنزل الله ما بقي الإيمان يتفاضل عندهم، بل إيمان الناس كلهم سواء، إيمان السابقين الأولين كأبي بكر وعمر وإيمان أفجر الناس كالحجاج وأبي مسلم الخراساني وغيرهما"( ).
* والإرجاء في عصرنا كثير سواء عند العوام أو عند المنتسبين إلى الدين..
- فمن إرجاء العوام قولهم المشهور: (الإيمان في القلب) وعدم اعتبارهم للأعمال بل إهمالها أو التهاون بها وتركها بحجة الاكتفاء بصلاح القلب وصفاء النية.
- أما إرجاء المنتسبين إلى الدين أو الدعوة الذين نناقشهم في هذا الكتاب فهو غالباً ليس في تعريف مسمى الإيمان.. فهم يعرفّونه كمسمى تعريفاً سليماً فيقولون: الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان.. أو يقولون هو قول وعمل وهو قول أهل السنة في الإيمان..
لكنهم عند تنزيل ذلك على الواقع وفي الناحية العملية خصوصاً مع نواقض الإيمان يظهر لك أن ركن العمل الذي أثبتوه في تعريف الإيمان مهمل عندهم بل يكاد يكون ساقطاً وملغياً..
نعم هم يقولون - أو أكثرهم - أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، كما قال أهل السنة.. لكن الذنوب جميعها عندهم ناقصة لكمال الإيمان فقط وليس فيها شيء ناقض لأصل الإيمان، اللهم إلا في حالة واحدة فقط أن يرتبط معها الجحد أو الاستحلال أو الاعتقاد، هكذا على إطلاقه مهما كان الذنب أو العمل، هذا مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بيّن فقال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة [وفي رواية الترمذي (باباًً)] فأفضلها [وعند الترمذي (أرفعها)] قول: لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) رواه مسلم وأصحاب السنن من حديث أبي هريرة.
فليس جميع شعب الإيمان وأبوابه متساوية، فشعبة (لا إله إلا الله) ليست كشعبة (الحياء) أو (إماطة الأذى عن الطريق).
بل منها ما في زواله نقص للإيمان فقط كالحياء..
ومنها ما في زواله نقض للإيمان كشعبة (لا إله إلا الله)..
والخوارج ومن وافقهم وتابعهم من غلاة المكفرة جعلوا زوال أي شعبة من شعب الإيمان ناقض ومزيل لأصل الإيمان..
فجاء مرجئة العصر - كرد فعل عليهم وعلى مذهبهم - فجعلوا زوال شعب الإيمان كلها ناقص للإيمان فقط، ولا شيء منها مزيل أو ناقض لأصله، اللهم إلا ما تعلق منها بجحدٍ أو اعتقاد.. وكلتا الطائفتين ضالتان.
أما أهل الحق وأصحاب الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، فهم وسط في أبواب الإيمان والكفر.. فشعب الإيمان عندهم منها ما يؤثر فقط في كمال الإيمان ولا يُزيله.. وهذا النوع ينقسم إلى قسمين؛ الأول: ما كان من كمال الإيمان المستحب، والثاني: ما كان من كمال الإيمان الواجب.
ومن شعب الإيمان ما يُُزيل أصل الإيمان وينقضه.. فالإيمان على ذلك عندهم على ثلاثة أقسام:
* ما كان من كمال الإيمان المستحب وهو ما رغب فيه الشارع ولم يتوعد على التفريط فيه.
* وما كان من كمال الإيمان الواجب وهو ما توعد الشارع على التفريط فيه وعيداً لا يصل إلى وعيد الكفر.
* وما كان من أصل الإيمان وهو يتركب من كل شعبة يزول الإيمان وينتقض بزوالها.
ولا يتحكمون بشيء من ذلك فيجعلونه من هذا النوع أو ذاك إلا بدليل شرعي ونص من الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا}.. [البقرة: 32].
وأقرب فرق الإرجاء إلى مرجئة عصرنا هؤلاء في أبواب الإيمان والكفر هم المرجئة المريسية: مرجئة بغداد، وهم أتباع بشر بن غياث المريسي الذي كان يقول في الإيمان: (إنه تصديق بالقلب واللسان جميعاً، وأن الكفر هو الجحد والإنكار، لذا زعم أن السجود للصنم ليس بكفر ولكنه دلالة على الكفر)( ).
وذلك لأن مرجئة عصرنا لا يرون أن هناك كفراً عملياً مخرجاً من الملّة إلا أن يرتبط باعتقاد أو جحد أو استحلال فذلك هو الكفر عندهم..
سواء كان ذلك من باب سب الله تعالى أو السجود للصنم أو التشريع مع الله أو الاستهزاء بدين الله.. فكل ذلك ليس كفراً بحد ذاته بل هو دليل على أن فاعله يعتقد الكفر، فالكفر هو معتقده أو جحوده أو استحلاله.. ففتحوا بذلك باب شر عظيم على أهل الإسلام ولج منه كل ملحد وزنديق وطاعن في دين الله تعالى بأمان واطمئنان، ورقعوا للطواغيت المرتدين وجادلوا عنهم بشبه ما خطرت يوماً على بال أولئك الطواغيت، وما سمعوا بها أصلاً، وما كانوا ليجدوا جنداً مخلصين يذبون عنهم ويدافعون عن باطلهم مثل مرجئة العصر هؤلاء.. لذلك قال بعض السلف عن الإرجاء: “هو دين يعجب الملوك!!؟ وقال بعضهم عن فتنة المرجئة إنها: (أخوف على هذه الأمة من فتنة الخوارج).
وقالوا: (الخوارج أعذر عندنا من المرجئة) وهذا ليس قولاً على عواهنه، بل هو حق وصدق.. فالخوارج كان من دوافع غلوهم وانحرافهم ابتداء الغضب لمحارم الله وحدوده – زعموا - أما المرجئة فقد أدى مذهبهم( ) إلى تعدي الحدود الشرعية والتحلل من القيود والضوابط الدينية، وفتح أبواب الردة تسهيلاً على الكفار وتيسيراً للزنادقة.
ولقد شهد عصرنا هذا ردوداً كثيرة جداً على الخوارج المعاصرين وعلى أهل الغلو في التكفير حتى امتلأت الأسواق بالكتب والرسائل حول ذلك، وقوي في أكثرها التجني، وضعف الإنصاف.
وفي المقابل فقلما نجد من كتب تفصيلاً طيباً عن الإرجاء، وخصوصاً إرجاء العصر وأهله وحذر من شبهاتهم كما يُحَذِّر من شبهات الخوارج.. ( ).
فلعل كتابنا هذا يسد شيئاً من النقص في هذا الباب، أو يسن سنة حسنة فيشجع أهل العلم على الكتابة فيه بياناً للحق وكشفاً لزيوف الباطل وشبه المبتدعة التي شوهت الحق المبين.. والله أسأل أن يفتح به آذاناً صُماً وأعيناً عمياً وقلوباً غُلفاً ويجعله خالصاً لوجهه الكريم والحمد لله أولاً وآخراً..

فصل
في بيان أن من الأعمال والأقوال ما هو كفر مجرد
إعلم أولاً أن هذه الشبهة ليست بالشبهة الجديدة، بل هي قديمة ورثها هؤلاء المقلدة الجهال عن أشياخهم من أهل الزيغ والضلال أمثال جهم بن صفوان وبشر بن غياث المريسي وأضرابهم.. سواء من طريق الوجادة، أم من وحي الشياطين..
فمما ينسب إلى بشر المريسي من الأقوال الشنيعة، قوله: أن السجود للشمس والقمر ليس بكفر ولكنه علامة عليه.. فهي إذن عقيدة جهم وأتباعه..
ولذا قال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في محلاه (13/498) في معرض كلامه عن سب الله تعالى: (وأما سب الله تعالى فما على ظهر الأرض مسلم يخالف أنه كفر مجرد، إلا أن الجهمية والأشعرية وهما طائفتان لا يعتد بهما يصرحون بأن سب الله تعالى وإعلان الكفر ليس كفراً، قال بعضهم: ولكنه دليل على أنه يعتقد الكفر، لا أنه كافر بيقين بسبه الله تعالى).
قلت: تأمل هذا ومطابقته لقول هؤلاء الدعاة الذين ذكرنا آنفاً.. {أتواصوا به بل هم قوم طاغون}.. [الذاريات: 53].
قال: (وأصلهم في هذا أصل سوء خارج عن إجماع أهل الإسلام، وهو أنهم يقولون: الإيمان هو التصديق بالقلب فقط وإن أعلن الكفر) أهـ( ).
وقال ص499: (ثم يقال لهم إذ ليس شتم الله تعالى عندكم كفراً، فمن أين لكم أنه دليل على الكفر؟
فإن قالوا: لأنه محكوم على قائله بحكم الكفر.
قيل لهم: محكوم عليه بنفس قوله لا بمغيب ضميره الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، فإنما حكم له بالكفر بقوله فقط، فقوله هو الكفر.. وقد أخبر تعالى عن قوم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم فكانوا بذلك كفاراً كاليهود الذين عرفوا صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم وهم مع هذا كفار بالله تعالى قطعاً بيقين إذ أعلنوا كلمة الكفر).
وقال رحمه الله تعالى في الموضع نفسه: (ولم يختلفوا في أن فيه - أي كتاب الله - التسمية بالكفر والقطع بحكم الكفر على من نطق بأقوال معروفة، كقوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} [المائدة: 17]، وقوله تعالى: {ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم} [التوبة: 74] فصح أن يكون الكفر كلاماً) اهـ.
وقال في الفصل( ): (وأما الأشعرية فقالوا: إنَّ شَتْمَ من أظهر الإسلام لله تعالى ولرسوله بأفحش ما يكون من الشتم، وإعلان التكذيب بهما باللسان بلا تقية ولا حكاية( )، والإقرار بأنه يدين بذلك، ليس شيء من ذلك كفراً، ثم خشوا مبادرة جميع أهل الإسلام لهم، فقالوا: لكنه دليل على أن في قلبه كفراً).
بل نقل في الموضع نفسه عن الأشعرية أنهم يقولون: (إن إبليس لم يكفر بمعصية الله تعالى في ترك السجود لآدم ولا بقوله أنا خير منه، وإنما كفر بجحد لله تعالى كان في قلبه).
ثم قال: (وهذا خلاف للقرآن، وتكهن لا يعرف صحته إلا من حدثه به إبليس عن نفسه. على أن الشيخ غير ثقة فيما يحدث به..) اهـ.
وقال ص76: (وقد تقصينا الرد على أهل هذه المقالة الملعونة في كتاب لنا اسمه كتاب "اليقين في النقض على الملحدين المحتجين عن إبليس اللعين وسائر الكافرين".
قلت: ولم أقع على هذا الكتاب.. ولكنه أورد في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل" في رده على الجهمية والمرجئة ما يكفي ويشفي الغليل.. انظر الجزء الثالث ص239 وما بعدها.. ( ).
ومن ذلك قوله: (وأما قولهم إنّ شتم الله تعالى ليس كفراً وكذلك شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه دليل على أن في قلبه كفراً). قال: "فهو دعوى، لأن الله تعالى قال: {يحلفون بالله ما قالوا، ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم} [التوبة: 74].
فنص - تعالى - على أن من الكلام ما هو كفر.
وقال تعالى: {إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم} [النساء: 140].
فنص تعالى: أن من الكلام في آيات الله - تعالى - ما هو كفر بعينه مسموع.
وقال تعالى: {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة} [التوبة: 65، 66].
فنص - تعالى - على أن الاستهزاء بالله - تعالى - أو بآياته أو برسول من رسله كفر مُخرج عن الإيمان ولم يقل - تعالى - في ذلك أني علمت أن في قلوبهم كفراً، بل جعلهم كفاراً بنفس الاستهزاء.
ومن ادعى غير هذا فقد قوّل الله تعالى ما لم يقل وكذب على الله تعالى. أهـ (3/244).
وقال في الفصل أيضاً (3/253) في رده على أهل الإرجاء: (لو أن إنساناً قال: إن محمداً - عليه الصلاة والسلام - كافر وكل من تبعه كافر وسكت، وهو يريد كافرون بالطاغوت كما قال تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها} [البقرة: 256]، لما اختلف أحد من أهل الإسلام في أن قائل هذا محكوم له بالكفر.
وكذلك لو قال إن إبليس وفرعون وأبا جهل مؤمنون، لما اختلف أحد من أهل الإسلام في أن قائل هذا محكوم له بالكفر، وهو يريد أنهم مؤمنون بدين الكفر.." اهـ.
قلت: فصح أننا كفرناه بمجرد قوله وكلامه الكفري ولا دخل لنا بمغيب اعتقاده.. وهكذا كل من أظهر قولاً أو عملاً كفرياً كفرناه بمحض ذلك القول أو العمل إذ مغيب اعتقاده لا يعلمه إلا الله عز وجل.. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إني لم أبعث لأشق عن قلوب الناس)( ) فالمدّعي خلاف هذا مدع علم الغيب، ومدّعي علم الغيب لا شك كاذب.
"وقد شهد الله تعالى بأن أهل الكتاب يعرفون الحق ويكتمونه، ويعرفون أن الله تعالى حق وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، ويظهرون بألسنتهم خلاف ذلك، وما سماهم الله عز وجل قط كفاراً إلا بما ظهر منهم بألسنتهم وأفعالهم"( ).
وقال تعالى: {فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين * وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً} [النمل: 13، 14].
قال ابن حزم: (وهذا أيضاً نص جلي لا يحتمل تأويلاً على أن الكفار جحدوا بألسنتهم الآيات التي أتى بها الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - واستيقنوا بقلوبهم أنها حق)( ).
وقال رحمه الله: (واحتج بعضهم في هذا المكان بقول الأخطل النصراني لعنه الله إذ يقول:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا( )
قال فجوابنا على هذا الاحتجاج أن نقول: ملعون، ملعون قائل هذا البيت، وملعون من جعل قول هذا النصراني حجة في دين الله عز وجل، وليس هذا من باب اللغة التي يحتج فيها بالعربي وإن كان كافراً، وإنما هي قضية عقلية، فالعقل والحس يكذبان هذا البيت. وقضية شرعية، فالله عز وجل أصدق من النصراني اللعين إذ يقول عز وجل: {يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم} [آل عمران: 167]، فقد أخبر عز وجل بأن من الناس من يقول بلسانه ما ليس في فؤاده بخلاف قول الأخطل لعنه الله.
فأما نحن فنصدق الله عز وجل ونكذب الأخطل، ولعن الله من يجعل الأخطل حجة في دينه. وحسبنا الله ونعم الوكيل. اهـ (3/261).
وقال (3/262): (وقد قال عز وجل: {إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى * الشيطان سوّل لهم وأملى لهم، ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم}( ) [محمد: 25-28].
قال: فجعلهم تعالى مرتدين كفاراً بعد علمهم الحق. وبعد أن تبين لهم الهدى، بقولهم للكفار ما قالوا فقط. وأخبرنا تعالى أنه يعرف إسرارهم، ولم يقل تعالى أنها جحد أو تصديق، بل قد صح أن في سرهم التصديق، لأن الهدى قد تبين لهم. ومن تبين له شيء فلا يمكن البتة أن يجحده بقلبه أصلاً).
وقال رحمه الله تعالى عن قوله تعالى: {يحلفون بالله ما قالوا، ولقد قالوا كلمة الكفر، وكفروا بعد إسلامهم} [التوبة: 74]: (فصح بنص القرآن. أن من قال كلمة الكفر، دون تقية، فقد كفر بعد إسلامه، فصح أن من اعتقد الإيمان وتلفظ بالكفر فهو عند الله تعالى كافر بنص القرآن) أهـ ص(339) من (كتاب الدرة فيما يجب اعتقاده).
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [الحجرات: 2].
فهذا نص جلي وخطاب للمؤمنين بأن إيمانهم يبطل جملة وأعمالهم تحبط برفع أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم دون جحد كان منهم أصلاً، ولو كان منهم جحد لشعروا به، والله تعالى أخبرنا بأن ذلك يكون وهم لا يشعرون.
فصح أن من أعمال الجسد ما يكون كفراً مبطلاً لإيمان فاعله جملة.
ومنه ما لا يكون كفراً لكن على ما حكم الله تعالى به في كل ذلك ولا مزيد) أهـ.
قلت: وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه.
وليس كما يقول الخوارج الضالون أن جميع الذنوب من أعمال الجسد كفر يناقض الإيمان.
ولا كما يقول مرجئة العصر الضالون أيضاً، من أن جميع الأعمال والذنوب لا يكفر فاعلها إلا باعتقاد. بل الحق أن من الأعمال المجردة ما ينقض ويهدم الإيمان كما بان لك وظهر..
ومنها ما ينافي كمال الإيمان فقط فينقصه ويخدشه ولا ينقضه إلا باستحلال أو جحود..
وهذا التفصيل ضيعه وأعرض عنه الخوارج بإفراطهم، والمرجئة بتفريطهم.. وكلاهما طائفتان ضالتان..
بل ينسب إلى إبراهيم النخعي قوله: (لفتنة المرجئة أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة)( ).
وقوله: (الخوارج أعذر عندي من المرجئة)( ).
ويقول الأوزاعي: كان يحيى وقتادة يقولان: (ليس من الأهواء شيء أخوف عندهم على هذه الأمة من الإرجاء)( ).
ولا شك أن الإرجاء كان ردة فعل على فتنة الخروج على ولاة الجور وما ترتب عليه من سجن وقتل وابتلاءات، إذ أول ما ظهر الإرجاء وانتشر بعد هزيمة عبد الرحمن بن الأشعث( ) ولكنها ردة فعل غير منضبطة بضوابط الشريعة. كحال مرجئة العصر في تخبطاتهم التي غالبها ردّة فعل على غلاة المكفرة في هذا الزمان.. بل وعلى أهل الحق المكفرين لمن كفره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالدليل.. تماماً كمداهناتهم وركونهم للطغاة الحاكمين، فهي في الغالب ردة فعل لتنكيل هؤلاء الطغاة بأهل التوحيد وسجنهم وتعذيبهم..
وطالب الحق لا تتحكم فيه ردود الفعل العكسية هذه، بل يضع نصب عينيه حديث المصطفى صلوات الله عليه في صفة الطائفة الظاهرة المنصورة: (لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم) فلا يتضرر أو ينحرف أو يتأثر بالمفرِطين ولا بالمفرِِّّطين.. بل لا يزال قائماً ثابتاً على المحجة البيضاء التي تركه عليها النبي صلى الله عليه وسلم حتى يلقى الله..
* وبعد أن سقنا لك أكثر كلام الإمام ابن حزم في هذه المسألة نعرّج على شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية نستفتيه في هذه المسألة، وليس مرادنا من وراء ذلك إلا قطع حلوق ضلال مرجئة العصر الذين يتشدقون ببعض كلامه رحمه الله تعالى.. إذ ليست الحجة كلام ابن حزم ولا كلام ابن تيمية ولا غيرهما بل الحجة كلام الله وكلام رسوله صلوات الله وسلامه عليه.. ومن لم يكتفِ بكلام الله وكلام رسوله فلا نتعب أنفسنا معه..
قال تعالى: {فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون} [الجاثية: 6].
ورحم الله ابن القيم إذ يقول:
من لم يكن يشفيـــــه ذان فلا شفاه الله في قلـــب ولا أبدان
من لم يكن يكفيـــــه ذان فلا كفاه الله شر حــوادث الأزمان
من لــم يكــن يغنيـه ذان رماه رب العرش بالإقلال والحرمان
إن الكلام مع الكبار وليس مع تلك الأراذل سفلـة الحيــــوان
قال رحمه الله تعالى في كتابه الصارم المسلول:
(إن سََبََّّ الله أو سب رسوله كفر ظاهراًً وباطناًً، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلاً له أو كان ذاهلاً عن اعتقاده. هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل..( إلى أن قال: (وكذلك قال أصحابنا وغيرهم: من سب الله كفر سواء كان مازحاً أو جاداً..) قال: (وهذا هو الصواب المقطوع به.. وقال القاضي أبو يعلى في المعتمد: من سبّ الله أو سب رسوله فإنه يكفر سواء استحل سبه أو لم يستحله، فإن قال لم أستحل ذلك لم يقبل منه..).
وقال أيضاً (515): (ويجب أن يعلم أن القول بأن كفر الساب في نفس الأمر إنما هو لاستحلاله السب، زلة منكرة وهفوة عظيمة..).
(وإنما وقع من وقع في هذه المهواة بما تلقوه من كلام طائفة من متأخري المتكلمين وهم الجهمية الإناث الذين ذهبوا مذهب الجهمية الأولى في أن الإيمان هو مجرد التصديق الذي في القلب..).
وقال ص(517): (إن الحكاية المذكورة عن الفقهاء إنه إن كان مستحلاً كفر وإلا فلا، ليس لها أصل وإنما نقلها القاضي - من كتاب بعض المتكلمين)( ).
وقال ص(516): (إن اعتقاد حلّ السب كفر سواء اقترن به وجود السب أو لم يقترن) ( ).
وقال أيضاً: (إنه إذا كان المكفِِّّر هو اعتقاد الحل، فليس في السب ما يدل على أن الساب مستحل، فيجب أن لا يكفر لا سيما إذا قال أنا أعتقد أن هذا حرام( ) وإنما أقول غيظاً وسفهاً وعبثاً أو لعباً كما قال المنافقون: {إنما كنا نخوض ونلعب} [التوبة: 65].
فإن قيل: لا يكونون كفاراً، فهو خلاف نص القرآن.
وإن قيل: يكونون كفاراً فهو تكفير بغير موجب إذا لم يجعل نفس السب مكفراً.
وقول القائل: أنا لا أصدقه في هذا، لا يستقيم؛ فإن التكفير لا يكون بأمر محتمل، فإذا كان قد قال: (أنا أعتقد أن ذلك ذنب ومعصية وأنا أفعله)، فكيف يكفر إن لم يكن ذلك كفرا ً؟
ولهذا قال سبحانه وتعالى: {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة: 66]، ولم يقل: (قد كذبتم في قولكم: إنما كنا نخوض ونلعب) فلم يكذبهم في هذا العذر كما كذبهم في سائر ما أظهروا من العذر الذي يوجب براءتهم من الكفر لو كانوا صادقين.
بل بين أنهم كفروا بعد إيمانهم، بهذا الخوض واللعب، وإذا تبيّن أن مذهب سلف الأمة ومن اتبعهم من الخلف أن هذه المقالة في نفسها كفر، استحلها صاحبها أو لم يستحلها، فالدليل على ذلك جميع ما قدمنا) اهـ. من الصارم المسلول (517).
* ويقول رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً..} [النحل: 106]، الآيات قال: (لو كان التكلم بالكفر لا يكون كفراً إلا إذا شرح به الصدر لم يستثن المكره. فلما استثنى المكره علم أن كل من تكلم بالكفر غير المكره فقد شرح به صدراً. فهو حكم وليس قيداً للحكم). اهـ.
وتأمل قول الأخير.. (فهو حكم وليس قيداً للحكم) فإنه مهم.. فالمعلن لكلمة الكفر لغير عذر شرعي كافر قد شرح بالكفر صدره، ولا يقال ننظر حتى نعرف ما في صدره أمعتقد هو أم مستحل أم لا؟ وكذا الساب لله ولرسوله ولدينه شارح بسبّه هذا صدره للكفر وإن لم يعلمنا هو بذلك، وكذا الساجد للصنم طائعاً قد شرح بالكفر صدره بفعله هذا ولا يقال ننظر أمستحل أم غير مستحل، لأن هذه الأعمال أعمال مكفرة بذاتها، وكذا المشرّع مع الله أو المتبع والمبتغي غير الله حكماً ومشرعاً ومعبوداً قد شرح بالكفر صدره بجعل نفسه طاغوتاً معبوداً في ذلك أو باتباعه للطاغوت والتزامه وتحاكمه لشرعه، ولا نقول ننظر أستحل التشريع مع الله واعتقده أم لم يعتقده.. وكذا المستهزئ بشيء من دين الله كافر باستهزائه نفسه، شارح بالكفر صدره وإن لم يخبرنا هو بذلك، فنكفره بمجرد الاستهزاء ولا نتوقف حتى نسأله عن اعتقاده واستحلاله، بل لو صرّح بأنه غير معتقد ولا مستحل لكفرناه وقلنا له كما قال تعالى: {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة: 66].
فهو حكم بالكفر كما ذكر شيخ الإسلام وليس قيداً للكفر كما جعله مرجئة العصر. ولو اعتبر مثل هذا الأمر الغيبي الخفي قيداً للكفر في الأعمال المكفرة لأصبح دين الله ألعوبة بيد كل زنديق.
فما من كافر ولا مشرك إلا ويزعم أنه يضمر الإحسان والتوفيق والإيمان والرشاد( ).
والشارع الحكيم إنما أناط الأحكام الشرعية - ومنها التكفير - في الدنيا بعلل وأسباب ظاهرة ومنضبطة، ولم ينطها بأسباب خفية أو غيبية أو باطنية فهذا كله يتبع أحكام الآخرة.
ثم كُفر التكذيب والجحود ما هو إلا نوع واحد من أنواع الكفر.. وليس هو النوع الوحيد كما هو معلوم..
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً في الفتاوى (7/560): (فهؤلاء القائلون بقول جهم والصالحي قد صرََّّحوا بأن سب الله ورسوله، والتكلم بالتثليث وكل كلمة من كلام الكفر ليس هو كفراً في الباطن ولكنه دليل في الظاهر على الكفر ويجوز مع هذا أن يكون هذا الساب الشاتم في الباطن عارفاً بالله موحداً له مؤمناً به، فإذا أقيمت عليهم الحجة بنص أو إجماع أن هذا كافر باطناً وظاهراً.
قالوا: هذا يقتضي أن ذلك مستلزم للتكذيب الباطن.. فيقال لهم فإنا نعلم أن من سب الله ورسوله طوعاً بغير كره، بل من تكلم بكلمات الكفر طائعاً غير مكره، ومن استهزأ بالله وآياته ورسوله فهو كافر باطناً وظاهراً، وأن من قال: أن مثل هذا قد يكون في الباطن مؤمناً بالله وإنما هو كافر بالظاهر. فإنه قال قولاً معلوم الفساد بالضرورة من الدين، وقد ذكر الله كلمات الكفار في القرآن وحكم بكفرهم واستحقاقهم الوعيد بها.. كقوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73]، {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} [المائدة: 16] وأمثال ذلك). اهـ مختصراً.
ويقول أيضاً عن ّاية سورة النحل نفسها: (ومعلوم أنه لم يرد بالكفر هنا اعتقاد القلب فقط، لأن ذلك لا يكره الرجل عليه، وهو قد استثنى من أكره، ولم يرد من قال واعتقد، لأنه استثنى المكره، وهو لا يكره على القصد والقول، وإنما يكره على القول فقط، فعلم أنه أراد من تكلم بكلمة الكفر فعليه غضب من الله وله عذاب أليم. وأنه كافر بذلك إلا من أكره وهو مطمئن بالإيمان.. ولكن من شرح بالكفر صدراً من المكرهين، فإنه كافر أيضاً.
فصار من تكلم بالكفر كافراً إلا من أكره، فقال بلسانه كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان.
وقال تعالى في حق المستهزئين: {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة: 66] فبين أنهم كفار بالقول مع أنهم لم يعتقدوا صحته وهذا باب واسع" اهـ من الصارم المسلول ص(524).
* وقد نص رحمه الله تعالى في الصارم المسلول أيضاً ص(222) أن إيذاء النبي والدعاء عليه في حياته بالموت لو صدر من مسلم كان به مرتداً.
وذكر ص(453) أن قتل النبي من أكبر أنواع الكفر وإن زعم القاتل أنه لم يقتله مستحلاً، وذكر عن إسحاق بن راهويه أن هذا إجماع من المسلمين.
ويقول أيضاً في الكتاب نفسه ص(178): (.. وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كُفرٌ كفر بذلك، وإن لم يقصد أن يكون كافراً إذ لا يقصد أحد الكفر إلا ما شاء الله) اهـ.
ويستثنى بالطبع من هذا الإطلاق - كما نقلنا لك من قبل من كلام ابن حزم - من أعلن الكفر أو نطق به تقية أو حكاية أو نحو ذلك مما استثناه الشارع، فإن نعق مرجئة العصر وقالوا: مهلاً ما هذا الاستثناء وما الذي جعل ناطق الكفر هنا يخرج عما قررتموه من قبل، من أن قائل الكفر وفاعله يكفر ولو لم يعتقد.
قلنا: هو مستثنى في هذه المواضع بنص كلام الله تعالى.. والله عز وجل هو الذي يسمي ويصف ما يشاء بما يشاء. فالذي أوقع مسمى الكفر على من وقع بأعمال أو نطق بأقوال مكفرة.. هو سبحانه نفسه الذي استثنى هذه المواضع.. وإليكم رد منجنيق الغرب ابن حزم على أشياخكم وأسلافكم من المرجئة الأوائل حول هذه الشبهة.
قال رحمه الله تعالى في الفصل (3/250): (لقد قلنا أن التسمية ليست لنا وإنما هي لله تعالى.
- فلما أمرنا تعالى بتلاوة القرآن، وقد حكى لنا فيه قول أهل الكفر، وأخبرنا تعالى أنه لا يرضى لعباده الكفر، خرج القارئ للقرآن بذلك عن الكفر إلى رضى الله عز وجل والإيمان بحكايته ما نص الله تعالى عليه.
- ولما أمر الله تعالى بأداء الشهادة بالحق فقال تعالى: {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} [الزخرف: 86]، خرج الشاهد المخبر عن الكافر بكفره، عن أن يكون بذلك كافراً إلى رضى الله عز وجل والإيمان.
- ولما قال تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً} [النحل: 106] خرج من ثبت إكراهه عن أن يكون بإظهار الكفر كافراً إلى رخصة الله تعالى والثبات على الإيمان.
وبقي من أظهر الكفر لا قارئاً ولا شاهداً ولا حاكياً ولا مكرهاً على وجوب الكفر له بإجماع الأمة على الحكم له بحكم الكفر وبحكم رسول الله  بذلك وبنص القرآن على من قال كلمة الكفر إنه كافر.
وليس قول الله عز وجل: {ولكن من شرح بالكفر صدراً} [النحل: 106] على ما ظنوه من اعتقاد الكفر فقط، بل كلُّ من نطق بالكلام الذي يحكم لقائله عند أهل الإسلام بحكم الكفر لا قارئاً ولا شاهداً ولا حاكياً ولا مكرهاً فقد شرح بالكفر صدراً بمعنى أنه شرح صدره لقبول الكفر المحرم على أهل الإسلام وعلى أهل الكفر أن يقولوه، وسواء اعتقدوه أو لم يعتقدوه..) اهـ.
ولا بأس أن أورد هنا للمستزيد أقوالاً منثورة أخرى لأئمة آخرين غير ابن حزم وابن تيمية حول هذا الموضوع.
* يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في (كتاب الصلاة) ص53: (وشعب الإيمان قسمان: قولية وفعلية، وكذلك شعب الكفر نوعان: قولية وفعلية.
ومن شعب الإيمان القولية شعبة يوجب زوالها زوال الإيمان فكذلك من شعبه الفعلية ما يوجب – زوالها – زوال الإيمان.
وكذلك شعب الكفر القولية والفعلية، فكما يكفر بالإتيان بكلمة الكفر اختيارا وهي شعبة من شعب الكفر، فكذلك يكفر بفعل شعبة من شعبه كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف) اهـ.
ومنه تعرف أن (الكفر العملي) ليس كله أصغر عند أهل العلم، بل منه ما هو كفر مخرج عن الملة، خلافاً لما يروجه مرجئة زماننا.
* ويقول ابن الوزير في كتابه (إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق) ص395: (وقد بالغ الشيخ أبو هاشم وأصحابه وغيرهم فقالوا هذه الآية - يقصد {ولكن من شرح بالكفر صدراً} [النحل: 106] - تدل على أن من لم يعتقد الكفر ونطق بصريح الكفر وبسب الرسل أجمعين وبالبراءة منهم وبتكذيبهم من غير إكراه وهو يعلم أن ذلك كفر أنه لا يكفر، وهو ظاهر اختيار الزمخشري في كشافه فإنه فسر شرح الصدر بطيب النفس بالكفر وباعتقاده معاً.. وهذا كله ممنوع لأمرين:
- أحدهما: معارضة قولهم بقوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73] فقضى بكفر من قال ذلك بغير شرط فخرج المكره بالنص والإجماع وبقي غيره، فلو قال مكلف مختاراً غير مكره بمقالة النصارى التي نص القرآن على أنها كفر ولم يعتقد صحة ما قال ولم يكفره مع أنه لعلمه بقبح قوله يجب أن يكون أعظم إثماً من بعض الوجوه لقوله تعالى: {وهم يعلمون} [الزخرف: 86] فعكسوا وجعلوا الجاهل بذنبه كافراً والعالم الجاحد بلسانه مع علمه مسلماً! !
- الأمر الثاني: أن حجتهم دائرة بين دلالتين ظنيتين قد اختلف فيهما في الفروع الظنية إحداهما: قياس العامد على المكره والقطع على أن الإكراه وصف ملغى مثل كون القائل بالثلاثة( ) نصرانياً، وهذا نازل جداً، ومثله لا يقبل في الفروع الظنية.
وثانيهما: عموم المفهوم {ولكن من شرح بالكفر صدراً} [النحل: 106] فإنه لا حجة لهم في منطوقها قطعاً وفاقاً، وفي المفهوم خلاف مشهور هل هو حجة - ظنية، مع الاتفاق على أنه ليس بحجة قطعية، ثم في إثبات عموم له خلاف، وحجتهم هنا من عمومه أيضاً وهو أضعف منه) اهـ.
* ويقول ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى في المغني (8/151): (تعلّم السحر وتعليمه حرام، لا نعلم فيه خلافاً بين أهل العلم).
قال أصحابنا: (ويكفر الساحر بتعلمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو إباحته) اهـ.
* وفي الحاوي للفتاوي: (من كفر باللسان طائعاً وقلبه مطمئن بالإيمان فهو كافر، وليس مؤمناً عند الله) وهو موافق لكلام شيخ الإسلام في آية الإكراه في سورة النحل.
* ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كشف الشبهات ص(22) بعد أن أنكر على الذين يقولون أن الكفر لا يكون إلا بتكذيب أو إنكار أو جحود: (فما معنى الباب الذي ذكره العلماء في كل مذهب؟ (باب حكم المرتد) وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه، ثم ذكروا أنواعاً كثيرة، كل نوع منها يكفِّر، ويحل دم الرجل وماله، حتى إنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها، مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه، أو كلمة يذكرها على وجه المزاح واللعب.
ويقال أيضاً: الذين قال الله فيهم: {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم} [التوبة: 74] أما سمعت الله كفَّّرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجاهدون معه ويصلّون معه ويزكون ويحجون ويوحدون؟
وكذلك الذين قال الله فيهم: {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة: 65، 66] فهؤلاء الذين صرّح الله أنهم كفروا بعد إيمانهم، وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح) اهـ.
وقال أيضاً في كتاب الشبهات ص(29): (عليك بفهم آيتين من كتاب الله. أولهما: ما تقدم من قوله: {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة: 66] فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب، تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر، أو يعمل به خوفاً من نقص مال، أو جاه، أو مداراة لأحد أعظم ممن تكلم بكلمة يمزح بها.
والآية الثانية: قوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل: 106] فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئناً بالإيمان. وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه، سواء فعله خوفاً أو مداراة، أو مشحة بوطنه، أو أهله، أو عشيرته، أو ماله أو فعله على وجه المزح، أو لغير ذلك من الأغراض، إلا المكره. والآية تدل على هذا من جهتين:
الأولى: قوله: {إلا من أكره} [النحل: 106] فلم يستثن إلا المكره. ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على العمل أو الكلام، وأما عقيدة القلب فلا يكره أحد عليها.
والثانية: قوله تعالى: {ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة} [النحل: 107] فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد أو الجهل، أو البغض للدين، أو محبة الكفر، وإنما سببه أن له في ذلك حظاً من حظوظ الدنيا، فآثره على الدين) اهـ.
* ويقول حفيده الشيخ سليمان بن عبد الله في كتابه (التوضيح عن توحيد الخلاّّق في جواب أهل العراق) ص(42): (المرتد شرعاً: الذي يكفر بعد إسلامه نطقاً أو اعتقاداً أو فعلاً) ويقول ص(101):
(وكما يكون الكفر بالاعتقاد يكون أيضاً بالقول، كسب الله أو رسوله أو دينه أو الاستهزاء به، قال تعالى: {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة: 65، 66].
وبالفعل أيضاً كإلقاء المصحف في القاذورات والسجود لغير الله ونحوهما وهذان وإن وجدت فيهما العقيدة فالقول والفعل مغلبان عليهما لظهورهما) اهـ.
ويقول أيضاً في كتابه (الدلائل): (وقد أجمع العلماء على أن من تكلم بالكفر هازلاً أنه يكفر) اهـ.
* ويقول الشيخ حمد بن علي بن عتيق رحمه الله تعالى رداً على من زعم أنه لا يكون كافراً من تكلم بالكفر إلا إذا اعتقده وشرح له صدره وطابت به نفسه: (قاتلك الله يا بهيم، إن كنت تزعم أنه لا يكفر إلا من شرح بالكفر صدراً فهل يقدر أحد أن يكره أحداً على تغيير العقيدة وأن يشرح صدره بالكفر - يشير إلى آية الإكراه في سورة النحل - وسوف نبين إن شاء الله أن الآية تدل على كفر من قال الكفر وفعله وإن كان يبغضه في الباطن ما لم يكن مكرهاً، وأما إذا انشرح صدره بالكفر وطابت نفسه به فذاك كافر مطلقاً مكرهاً أو غير مكره)( ).
وقال أيضاً في إبطال ذلك القول نفسه: (وهذا معارضة لصريح المعقول وصحيح المنقول وسلوك سبيل غير سبيل المؤمنين، فإن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة قد اتفقت على أن من قال الكفر أو فعله كفر، ولا يشترط في ذلك إنشراح الصدر بالكفر ولا يستثنى من ذلك إلا المكره، وأما من شرح بالكفر صدراً أي فتحه ووسعه وطابت نفسه به ورضي فهذا كافر عدو لله ولرسوله وإن لم يتلفظ بذلك بلسانه ولا فعله بجوارحه..) اهـ ص(59).
* وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الدرر السنية جزء مختصرات الردود ص(214): (وأيضاً فقد ذكر الفقهاء في حكم المرتد أن الرجل قد يكفر بقول أو عمل يعمله وإن كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويصلي ويصوم ويتصدق فيكون مرتداً تحبط أعماله ما قال أو فعل، خصوصاً إن مات على ذلك فيكون حبوط أعماله إجماعاً) اهـ.
* وقال القنائي في (حقيقة الإيمان) ص(90): (ثم هؤلاء قد قالوا - من غير دليل معتبر - أن المسلم مهما أتى من عمل من الأعمال لا يكفر بذلك طالما أن اعتقاده صحيح فيه، وطردوا ذلك المعنى في جميع الأعمال فلم يفرقوا بين أعمال الكفر وأعمال المعاصي، وجعلوا فساد الاعتقاد شرطاً في كفر من عمل أي عمل من أعمال الجوارح أياً كان هذا العمل، والحق أن هذه المسألة لها تفصيل فإنه يجب أن نفرق بين الأعمال التي يكفر فاعلها، وبين أعمال المعصية عامة، فإن الإتيان بعمل من أعمال الكفر الصراح المخرج من الملة - في حالة ثبوت عدم وجود أي عوارض - يعني بالضرورة فساد الاعتقاد القلبي ولا شك، حتى دون أن يصرح بذلك، أو حتى دون أن يقصد إليه، وهذا مقتضى ما ظهر من اعتبار الشريعة للتلازم بين الظاهر والباطن..) اهـ.
وتذكر أن الفرق بين هذا وقول المرجئة، أنه هنا حكم، أما المرجئة فيجعلونه قيداً وشرطاً للكفر.
وأنه ذكر هنا فساد الاعتقاد، والعلماء يدخلون في ذلك عمل القلب إضافة إلى التصديق، أما المرجئة فيقصرونه على فساد التصديق الذي هو الجحد أو التكذيب.
وهذا باب واسع جداً لو ذهبنا نتتبعه لطال بنا المقام ولضاقت به مثل هذه الأوراق.. وهو أمر معروف مشهور في كتب أهل العلم ولا أظنه يخفى على المبتدئين، ولكنه التعصب والهوى الذي يعمي ويصم..
* فالأحناف على سبيل المثال - رغم أنهم يخالفون الجمهور في العمل، وفي دخوله في مسمى الإيمان - ومع هذا فإنهم يُكَفِّرون في أشياء كثيرة يقولها المرء بلسانه أو يفعلها بجوارحه، كأن يشد زنار النصارى على وسطه أو يهدي بيضة إلى المجوس يوم نيروزهم، أو يستعمل كلام الله بدل كلامه كمن يقول في ازدحام الناس: {فجمعناهم جمعاً} [الكهف: 99] أو يتخاصم في مال فيقال له: (لا حول ولا قوة إلا بالله) فيقول: وما أصنع بلا حول، (لا حول) لا تؤكل خبز، أو يقول: قصعة ثريد خير من طلب العلم. أو قال: لبيك، جواباً على من قال: يا كافر أو يا نصراني، أو قال لولده: يا ولد المجوسي أو يا ولد اليهودي. أو قال: النصارى خير من المسلمين، أو قال: سلطان زماننا عادل، فيسمي الجور المحرم عدلاً، أو قال: لو دخل فلان الجنة ما دخلتها.. وأمثاله كثير في كتبهم، فهم أكثر الناس خوضاً في هذا الباب.. وقد جمع كثيراً من مقالاتهم هذه محمد بن إسماعيل الرشيد الحنفي في كتابه (البدر الرشيد في الألفاظ المكفرات) فراجعه إن شئت.
* ومثل ذلك كثير أيضاً عند الشافعية.. يقول تقي الدين أبو بكر بن محمد الحسيني الشافعي في كتابه (كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار) ( ) في تعريف الردة: (هي الرجوع عن الإسلام إلى الكفر وقطع الإسلام، ويحصل تارة بالقول وتارة بالفعل وتارة بالاعتقاد، وكل واحد من هذه الأنواع الثلاثة فيه مسائل لا تكاد تحصر..) ثم عدد من الأقوال والأفعال المكفرة الشيء الكثير على نحو ما سقناه لك من كلام الأحناف.. ومن ذلك قوله (431/2): (ولو فعل فعلاً أجمع المسلمون على أنه لا يصدر إلا من كافر، وإن كان مصرحاً بالإسلام مع فعله، كالسجود للصليب أو المشي إلى الكنائس مع أهلها بزيهم من الزنانير وغيرها فإنه يكفر) اهـ.
وابن حجر الهيتمي الشافعي قد صنف في المكفرات مصنفاً خاصاً سماه (الإعلام بقواطع الإسلام) ذكر فيه من هذا الباب الشيء الكثير من مذهب الشافعي وعدد مقالات الحنفية والمالكية والحنابلة.
* والمالكية كذلك فقد ذكر القاضي عياض في آخر كتاب (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) جملة من الألفاظ المكفرة وصرح بنقل الإجماع عليها..
* وكذلك الحال بالنسبة للحنابلة فقد عددوا في أبواب حكم المرتد أقوالاً وأفعالاً من صدرت عنه حكم بكفره.. وراجع في ذلك الإقناع وشرحه في الكلام على نواقض الإسلام وحكم المرتد فقد ذكروا مما ينتقض به الإسلام أكثر من أربعمائة ناق
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حامل المسك1
المدير العام
المدير العام
حامل المسك1


إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي 190070434
عدد المساهمات : 226
نقاط : 421
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 03/04/2011
الموقع : بلاد الرافدين

إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي Empty
مُساهمةموضوع: رد: إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي   إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي I_icon_minitimeالإثنين أبريل 11, 2011 6:07 am

شبهة
احتجاجهم للطواغيت المشرعين بمقولة
(كفر دون كفر)
إذا فهمت ما تقدم كله وعلمت أن الكفر قد يكون قولاً أو عملاً يخرج صاحبه من ملة الإسلام..
فاعلم أن القوم - أعني مرجئة العصر - إنما موّّهوا في هذا الباطل كله، وخلطوا ولبسوا.. ليرقعوا لطغاة العصر من الحكام المشرعين مع الله ما لم يأذن به الله.. وليهونوا من جريمتهم النكراء هذه فيجعلونها من باب الذنوب والأعمال التي لا تناقض الإيمان ولا تهدمه، فيحكمون لهم بالإسلام وكلم ما يترتب على ذلك من موالاة وولاية وتولٍ، وما يتفرع عن ذلك من تحريم لأموالهم ودمائهم وأعراضهم ونصرة وتأييد ومظاهرة.. وبالتالي تسمية من كفرهم ودعى لمنازعتهم ومنابذتهم والبراءة منهم ومن جندهم وأنصارهم وأشياعهم.. بالخوارج، ويستشهدون لهم بما ينسب لابن عباس في رده على الخوارج: (إنه ليس الكفر الذي تذهبون إليه، إنه ليس كفراًً ينقل عن الملة: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44] كفر دون كفر). ولا مانع ما دمنا في صدد إبطال شبهاتهم أن أسوق ها هنا خلاصة القول في هذا الأثر من الناحية الحديثية ثم أتبع ذلك بخلاصة القول فيه من الناحية الفقهية بياناً للحق وكشفاً للتلبيس.
بيان حال هذه اللفظة عن ابن عباس من جهة الإسناد
"هذا الأثر يُروى من طريق سفيان بن عيينة عن هشام بن حجير عن طاووس عن ابن عباس أنه قال: (إنه ليس الكفر الذي تذهبون إليه، إنه ليس كفراً ينقل عن الملة: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44] كفر دون كفر) - رواه الحاكم وغيره من طريق هشام بن حجير المكي.
* وهشام بن حجير ضعفه الأئمة الثقاة ولم يتابعه على هذه الرواية أحد.
قال أحمد بن حنبل في (هشام): (ليس بالقوي)، وقال: (مكي ضعيف الحديث) وهذا طعن من جهة الرواية.
وضعفه يحيى بن سعيد القطان وضرب على حديثه، وضعفه علي بن المديني وذكره العقيلي في الضعفاء، وكذا ابن عدي.
* وهشام صالح في دينه، لذا قال ابن شبرمة: (ليس بمكة مثله).
وقال ابن معين: (صالح)( ).. فهذا في الدين أو العبادة، بدليل أن ابن معين نفسه قد قال فيه: (ضعيف جداً).
وقال الحافظ ابن حجر: (صدوق له أوهام).
قلت: فلعل هذا من أوهامه. لأن مثل هذا القول مرويّ ثابت عن ابن طاووس فلعله وَهَمَََ فنسبه إلى ابن عباس.
وقال علي بن المديني: (زعم سفيان قال كان هشام ابن حجير كتب كتبه على غير ما يكتب الناس أي اقتداراً عليه، فاضطربت عليه) ا.هـ من معرفة الرجال (203/2).
* وهشام من أهل مكة وسفيان كان عالماً عارفاً بأهل مكة، (روى العقيلي بإسناده عن ابن عيينة أنه قال: (لم نأخذ منه إلا ما لم نجده عند غيره) اهـ.
فصح أن هذا الأثر مما تفرد به هشام لأنه من رواية ابن عيينة عنه.
وقال أبو حاتم: (يُكتب حديثه) وهذه أيضاً من صيغ التمريض والتضعيف، لأن هذا يعني أن حديثه لا يُقبل استقلالاً وإنما يؤخذ به في المتابعات فقط.
* ولذلك لم يرو له البخاري ومسلم إلا متابعة أو مقروناً مع غيره وكانت أحاديثه من الأحاديث المنتقدة على الصحيحين.
أما البخاري فلم يرو له إلا حديثاً واحداً هو حديث (سليمان بن داود عليهما السلام): (لأطوفن الليلة على تسعين امرأة... الحديث). أورده في كفارة الأيمان من طريق هشام وتابعه في كتاب النكاح برواية عبد الله بن طاووس. ومن المعلوم أن الحافظ ابن حجر من عادته في مقدمة فتح الباري أن يذب عمن تكلم فيهم بغير حق ويدافع بكل ما أوتي من علم، أما من ظهر له ضعفهم وأن البخاري لم يعتمد عليهم وحدهم وإنما أوردهم في المتابعات أو مقرونين.. فمثل هؤلاء لا يكلف نفسه عناء الرد عنهم بل يذكر المتابعات الواردة لهم في الصحيح وكفى.. وكذلك فعل مع هشام بن حجير (راجع المقدمة).
أما مسلم فكذلك ليس له عنده إلا حديثان ولم يرو له إلا مقروناً.. وراجع في هذا ما قاله الشيخ الهروي في كتابه: (خلاصة القول المفهم على تراجم رجال الإمام مسلم).
والخلاصة أنه عرف مما سبق أنه لا حجة لمن حاول تقوية هشام بالاحتجاج برواية البخاري ومسلم له.. لأنهما لم يرويا له استقلالاً ولكن متابعة.. وهذا من الأدلة على تضعيفه إذا انفرد.
* ومن أجل هذا كله لم يوثق هشام بن حجير إلا المتساهلون كابن حبان فإنه مشهور بالتساهل في التوثيق. ومثله العجلي، قال المعلم اليماني: (توثيق العجلي وجدته بالاستقراء كتوثيق ابن حبان تماماً أو أوسع). الأنوار الكاشفة ص: (68).
وقال الألباني: (فالعجلي معروف بالتساهل في التوثيق كابن حبان تماماً فتوثيقه مردود إذا خالف أقوال الأئمة الموثوق بنقدهم وجرحهم). انظر السلسلة الصحيحة ص(633/7).
وكذا توثيق ابن سعد فإن أغلب مادته من الواقدي المتروك كما ذكر ابن حجر في مقدمة الفتح عند ترجمة عبد الرحمن بن شريح.
فإذا كان هذا حال من وثقوه فإن رواياته لا تقوم بها حجة بتوثيقهم هذا.
فكيف وقد عارضهم وقال بتضعيفه الأئمة الجبال الرواسي كأحمد وابن معين ويحيى بن سعيد القطان وعلي بن المديني وغيرهم.
فخلاصة القول: أن هشام بن حجير ضعيف لا تقوم به حجة استقلالاً وحده. نعم هو يصلح في المتابعات كما عرفت، والمحتجون به لم يوردوا له على رواية ابن عباس هذه متابع، فيترجح ضعفها وعدم صحّة الجزم بنسبتها إلى ابن عباس.
بل قد روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس بإسناد صحيح في تفسير هذه الآية غير ذلك فقال: ثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال سئل ابن عباس عن قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44]. قال: هي به كفر. قال ابن طاووس: (وليس كمن كفر بالله وملائكته ورسله)( ) اهـ( ).
بيان مناط تلك المقولة وأمثالها
هذا من جهة الرواية، أما من جهة الدراية، فنقول: أن قول ابن عباس هذا إن صح - إذ قد صح قريب من معناه عن غيره - فهو رد على الخوارج الذين أرادوا تكفير الحكمين، وعلي ومعاوية ومن معهما من المسلمين لأجل الخصومة والحكومة التي جرت بينهم في شأن الخلافة والصلح وما جرى بين الحكمين عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري.. إذ تلك الحادثة كانت أول مخرجهم - كما هو معلوم - فقالوا: (حكّمتم الرجال): {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44] ( ) ولا شك أنهم مخطئون في ذلك ضالون.. إذ ذلك الذي وقع بين الصحابة ولو جار بعضهم فيه على بعض ليس بالكفر الذي ينقل عن الملة بحال، وقد بعث علي رضي الله عنه عبد الله بن عباس إلى الخوارج يناظرهم في ذلك، فخرج إليهم فأقبلوا يكلمونه، فقال: نقمتم من الحكمين وقد قال الله عز وجل: {فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها} [النساء: 35] الآية. فكيف بأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قالوا له: ما جعل الله حكمه إلى الناس وأمرهم بالنظر فيه فهو إليهم وما حكم فأمضى فليس للعباد أن ينظروا في هذا.
فقال ابن عباس: فإن الله تعالى يقول: {يحكم به ذوا عدل منكم} [المائدة: 95].
قالوا: تجعل الحكم في الصيد والحرث، وبين المرأة وزوجها كالحكم في دماء المسلمين؟ وقالوا له: أعدل عندك عمرو بن العاص وهو بالأمس يقاتلنا؟ فإن كان عدلاً، فلسنا بعدول، وقد حكّمتم في أمر الله الرجال).
والشاهد.. أنه بعد هذه المناظرة رجع منهم إلى الحق خلق.. وأصر آخرون على ضلالهم وانشقوا عن جيش علي بعد حادثة الحكمين هذه، وهم أصل الخوارج.
فعمد مرجئة العصر إلى تلك المقولة المنسوبة لابن عباس وما شابهها من أقوال أخرى لبعض التابعين.. كطاووس وابنه وأبي مجلز والتي كانت كلها في شأن الخوارج.. وطاروا بها كل مطير، لينزلوها زوراً وبهتاناً في محل غير محلها وواقع غير واقعها ومقام غير مقامها. بدليل أن هذه اللفظة التي يحتج بها هؤلاء، فيها قول ابن عباس مخاطباً أناساً بعينهم، عن واقعة بعينها: (إنه ليس الكفر الذي تذهبون إليه)، فلفظة (الذي تذهبون) خطاب للخوارج ومن تبعهم في زمانه، في واقعة معلومة معروفة.. فقوله إذاً ليس في تفسير الآية، وإنما في المناط الخطأ الذي علّقها الخوارج خطأ فيه، بدليل أن الآية أصلاً تتكلم عن الكفار المبدّلين لشرع الله يهوداً كانوا أو غيرهم وسيأتي تفصيل هذا.. فهل يُعقل أن يقول ابن عباس أو غيره من أهل الإسلام في تبديل اليهود أو غيرهم لحكم أو حد من حدود الله - كالدية أو حد الزنا - انه كفر دون كفر؟؟ فمقولته هذه إذن - على تقدير صحتها - هي في المناط الباطل الذي أراد الخوارج إنزالها فيه وليست في بيان الآية وتفسيرها نفسها.. فتنبه، ولا تنخدع بتلبيسات الضالين..
يقول العلامة السلفي أحمد محمد شاكر في تعليقاته على (عمدة التفسير) عن هذه الآثار: (وهذه الآثار - عن ابن عباس وغيره - مما يلعب به المضللون في عصرنا هذا، من المنتسبين للعلم، ومن غيرهم من الجرءاء على الدين: يجعلونها عذراً أو إباحة للقوانين الوثنية الموضوعة، التي ضربت على بلاد الإسلام) اهـ (4/156).
وينقل رحمه الله تعالى في الموضع نفسه تعليق أخيه محمود شاكر على آثار مشابهة، يناقش فيها أبو مجلز وهو أحد التابعين بعض الخوارج في زمانه، أوردها الطبري في تفسيره (10/348)، قال: (اللهم إني أبرأ إليك من الضلالة، وبعد، فإن أهل الريب والفتن ممن تصدروا للكلام في زماننا هذا، قد تلمّس المعذرة لأهل السلطان في ترك الحكم بما أنزل الله، وفي القضاء في الدماء والأعراض والأموال بغير شريعة الله التي أنزلها في كتابه، وفي اتخاذهم قانون أهل الكفر شريعة في بلاد الإسلام. فلما وقف على هذين الخبرين، اتخذهما رأياً يرى به صواب القضاء في الأموال والأعراض والدماء بغير ما أنزل الله، وأن مخالفة شريعة الله في القضاء العام لا تكفر الراضي بها، والعامل عليها..).
وساق مناسبة تلك الآثار وأنها كانت مناظرة مع الخوارج الذين أرادوا تكفير ولاة زمانهم بالمعاصي التي لا تصل إلى الكفر.. ثم قال: (وإذن فلم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعة زماننا، من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام، بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فهذا الفعل إعراض عن حكم الله، ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه. اهـ.
فإذا عرف المنصف الذي وُفق لطلب الحق، هذا كله، وفهم مناط تلك الأقوال المنسوبة لابن عباس وغيره من السلف( ). والواقع الذي قيلت فيه وصفة القوم الذين قيلت لهم وصفة مقالاتهم.
ثم نظر بعين البصيرة فيما نحن فيه اليوم من تشريع مع الله ما لم يأذن به الله، واستبدال الذي هو أدنى من زبالات القوانين الوضعية وأهواء البشر، بأحكام الله وتشريعاته وحدوده المطهرة.
عرف فداحة ذلك التلبيس العظيم والتضليل المبين الذي يقوم به مرجئة العصر بإنزال تلك النصوص على واقع مغاير كل المغايرة لواقعها الذي قيلت فيه، ترقيعاً لجريمة العصر هذه ومجرميها..
فهل كان علي ومعاوية ومن معهم من الصحابة يوم أن واجههم الخوارج بحججهم تلك، يدّعون لأنفسهم حق التشريع مع الله؟ أو اخترعوا قوانين ودساتير كفرية تنص على أن [السلطة التشريعية يتولاها الأمير ومجلس الأمة وفقاً للدستور] ( ) - كما هو الحال في الدول التي تسمى إسلامية اليوم!!؟؟
حاشاهم، وألف حاشاهم، بل وحاشى مرجئة زمانهم من هذا الكفر البواح.
وبالتالي هل شرّع الصحابة قوانين وضعية وفقاً لحكم الشعب ورغبته أو تبعاً لهوى الأغلبية واستبدلوها بحدود الله تعالى المرفوعة المطهرة..؟؟
حاشا الصحابة.. بل وحاشى السفهاء والمجانين والرعاع والعوام في ذلك الزمان عن مثل هذا الكفر البواح.. أنّى يتصور فيهم مثل هذا، وهم الذين خضّبوا الغبراء بدمائهم الزكية من أجل رفعة شريعة دين الله وعزتها.. وإنما نقول، لو أن أحداً فعل يومئذ مثل ذلك، لما استشهد عليه الخوارج بتلك النصوص غير الصريحة في باب التشريع كقوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44]، ولما تركوا نصوصاً أخرى صريحة وقطعية الدلالة( ) على كفر المشرعين وكونهم طواغيت وأرباباً تعبد من دون الله، كقوله تعالى: {إن أطعتموهم إنكم لمشركون} [الأنعام: 121]، وقوله تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [الشورى: 21]، وقوله تعالى: {ولا يُشرك في حكمه أحداً} [الكهف: 26]، ونحوها مما لم يكن ليخفى على من كان يحقر الصحابة قراءتهم للقرآن إلى قراءته، أو قوله تعالى: {وألا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله} [آل عمران: 64]، وقوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله..} [التوبة: 31] ونحوها.. ولكنهم لم يذكروا شيئاً من ذلك، لأنه لم يكن شيئاً منه ليتنزل على واقعتهم تلك.. وما كان مثل هذا ليخفى على ابن عباس أصلاً لو أن واقعتهم كانت حولة - كيف وهو حبر القرآن - وراوي سبب نزول قوله تعالى: {وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} [الأنعام: 121].
فقد روى الحاكم بإسناد صحيح عنه رضي الله عنه أنه قال: [إن ناساً من المشركين كانوا يجادلون المسلمين في مسألة الذبح وتحريم الميتة فيقولون: (تأكلون مما قتلتم ولا تأكلون مما قتل الله؟) فقال تعالى: {وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} [الأنعام: 121]. فدل على أن المشرع أو متبع تشريع غير الله ولو في مسألة واحدة أنه مشرك كافر بالله، بخلاف الحاكم أو القاضي الجائر الذي لم يتخذ شرعاً ولا ديناً غير دين الله( ) ولا جعل لنفسه أو لغيره حق التشريع مع الله. فيحكم بغير ما أنزل الله بمعنى الظلم والجور والهوى لا بمعنى التشريع والاستبدال فهذا لا يعدو كونه حاكماً ظالماً جائراً ولا يكفر ولو حكم بمثل هذه الصورة مئات المرات ما لم يستحله..].
فلو كانت قضيتهم مثل طامتنا لما كان رضي الله عنه ليتردد - لا هو ولا غيره من الصحابة طرفة عين، في تكفير من فعله، إذ أنهم يعرفون جيداً أن التشريع ولو في قضية أو مسألة واحدة فيما لا يجوز إلا لله شرك بالله أكبر وكفر فوق كفر وظلم فوق ظلم وفسق فوق فسق، بل إن مجرد صرف حق التشريع أو ادعائه لأحد من الخلق (الأمير أو الرئيس أو الملك أو الشعب أو مجلسه) شرك وكفر أكبر سواء شرّع أم لم يشرّع، وسواء تابع صارف ذلك تشريعهم أم لم يتابعه.. فظهر أن واقعتهم كانت غير واقعتنا وفتنتهم كانت غير فتنتنا.. فافهم التفريق بين الواقعتين والقضيتين، وإياك والخلط والتلبيس المفضي إلى مرضاة الطواغيت وإبليس..
حجية قول الصحابي
ثم هب يا أخا التوحيد أن ابن عباس، وهو بشر غير معصوم يصيب ويخطئ، أراد بذلك القول المنسوب إليه واقعتنا هذه - وهو محال كما عرفت إذ لم يكن لها مثيلٌ ساعتئذ - فهل نصادم بقول ابن عباس قول الله وقول الرسول وفي مسألة من مسائل التوحيد الذي بعثت بها الرسل كافة وهي الكفر بالطاغوت، شطر كلمة التوحيد؟؟
لا شك أن الإجابة على هذا يفهمها صغار الطلبة فضلاً عمن ينتسب إلى العلم والدعوة والدعاة، إذ لا حجة بشيء في ديننا إلا بقول الله وبقول الرسول صلى الله عليه وسلم.
أوليس ابن عباس نفسه هو القائل رداً على من احتج عليه في شأن متعة الحج بفعل أبي بكر وعمر، وهما هما - رضي الله عنهما -: (توشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون قال أبو بكر وقال عمر).
ونقول تكراراً حاشا ابن عباس أن يخلط أو يخبط أو يخالف في أصل من أصول الدين كهذا، وهو ترجمان القرآن.. ولكن المقصود التذكير بأن قول الصحابي ليس بدين ولا هو بحجة في دين الله عند النزاع( )، فكيف إذا افترض أنه معارض لقول الله تعالى أو قول رسوله صلى الله عليه وسلم..
وإنما اضطرنا إلى التذكير بهذه البدهيات ما نسمعه مراراً وتكراراً من مرجئة زماننا المجادلين عن الطواغيت، من التقديم بين يدي الله ومعارضة كلامه الواضح البيّن في شرك اتخاذ الخلق أرباباً بالتشريع والتحليل والتحريم، بتلك المقولة المنسوبة لابن عباس (كفر دون كفر)..

يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حامل المسك1
المدير العام
المدير العام
حامل المسك1


إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي 190070434
عدد المساهمات : 226
نقاط : 421
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 03/04/2011
الموقع : بلاد الرافدين

إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي Empty
مُساهمةموضوع: رد: إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي   إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي I_icon_minitimeالإثنين أبريل 11, 2011 6:09 am

بيان أن الحكم بمعنى التشريع كفر مجرد
بخلاف الحكم بمعنى الجور في القضاء ففيه التفصيل
وأن كفر الطواغيت اليوم وعبيدهم من الأول
واستئصالاً لشبهات مرجئة العصر وأذناب الجهم وبشر المريسي، بقي أن ننبه الأخ الموحد إلى معنى الحكم بغير ما أنزل الله الذي حكم الله تعالى على أهله بالشرك والكفر المخرج من الملة دون أن يُذكر معه الاستحلال والاعتقاد أو نحوه كقيد لذلك.. وأنه هو عينه التشريع العام والملزم الذي جعله طواغيت العصر حقا لهم ولآتباعهم من الشعب بنيابة برلماناتهم الكفرية، وهو عمل من أعمال الكفر المحض الذي يكفر صاحبه دون أن يقال فيه استحل أو لم يستحل، واعتقد أم لم يعتقد، بخلاف الجور في القضاء والحكم مع التزام الإسلام وشرائعه وعدم تبديل شيء منها.. فهذا فيه التفصيل المشهور المعلوم بين معتقد مستحل أو عاص متبع للهوى أو الشهوة ونحوها.. وهذا التفصيل الأخير يلبس فيه مرجئة العصر وأشياخهم على الأمة وعلى الناس، بتنزيله على النوع الكفري الأول الحاصل من طواغيت العصر فيصورون لهم جريمتهم النكراء هذه على أنها معصية لا يكفر صاحبها إلا بالاستحلال أو الجحود..
فلا بد أن تعرف معنى التشريع الذي هو متعلق بالشرك والتوحيد وتفهم الفرق بينه وبين الحكم المتعلق بالفروع ليزول عنك تلبيس مرجئة العصر والإشكال الذي قد يقع لك في كلام بعض السلف عندما يجمعون بين (الحكم بغير ما أنزل الله) وبعض الذنوب غير المكفرة التي سماها الرسول صلى الله عليه وسلم كفراً ويدرجون ذلك كله في الكفر الأصغر الذي لا يكفر صاحبه إلا بالاستحلال - فإنهم يريدون بالحكم ها هنا معناه غير المخرج من الملة لا المعنى التشريعي التبديلي الحاصل من طواغيت العصر.. ومن جنس هذا قول ابن القيم ص(61) وغيرها من كتاب الصلاة: (وإذا حكم بغير ما أنزل الله أو فعل ما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كفراً وهو ملتزم للإسلام وشرائعه فقد قام به كفر وإسلام) اهـ. فتأمل قوله: (وهو ملتزم للإسلام وشرائعه) تعرف أنهم لا يقصدون في مثل هذه المقالات الحكم بغير ما أنزل الله بصورته التشريعية الكفرية في زماننا..)( ).
وقد أشار إلى مثل هذا التفصيل والتفريق الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه (التوضيح عن توحيد الخلاّق في جواب أهل العراق) ص(141) فقسّم الحكم بغير ما أنزل الله إلى نوعين..
نوع شركي يضاد التوحيد. ونوع في الفروع.
وبيّن أن النوع الأول كفر حقيقي لا إيمان فيه..
وأما الثاني( ) فذكر التفصيل المعروف فيه على قسمين:
- فإن لم يقر اللسان وينقد القلب( ) فهو أيضاً كفر حقيقي لا إيمان معه.
- "وأما إن اعترف بقلبه وأقر بلسانه بحكم الله ولكنه عمل بضده ظاهراً في الفروع خاصة، فليس بكفر ينقل عن الملة" وذكر في هذا آثاراً منها قول طاووس: (ليس الحكم في الفروع بغير ما أنزل الله مع الإقرار بحكمه والمحبة له ينقل عن الملة) وبين هذا النوع في موضع آخر من كتابه ص(143) بقوله: (وعدم الحكم بما أنزل الله في الفروع التي ليست من أصل الدين مع الاعتراف بحكم الله في قلبه وقوله ومحبته واختياره وانقياده إليه فيهما) اهـ.
فتأمل تفريقهم بين الحكم المتعلق بالشرك والتوحيد (التشريع).
والحكم في الفروع بمعنى "الجور في القضاء من غير تشريع ولا استبدال ولا استحلال".
وكما يخلط بينهما مرجئة العصر جهلاً أو تلبيساً وتدليساً فينزلون النوع الأخير على طواغيت الزمان المشرعين، فكذلك الخوارج خلطوا وأرادوا جعل الأخير كالأول وإن لم يصاحبه استحلال أو جحود.. ولذلك قال الشيخ سليمان في الموضع الأول: (وقد جنح الخوارج إلى العموم لظاهر الآية وقالوا أنها نص في أن كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله فوجب أن يكون كافراً. وقد انعقد إجماع أهل السنة والجماعة على خلافهم. ونحن لم نكفر إلا من لم يحكم بما أنزل الله من التوحيد بل حكم بضده وفعل الشرك ووالى أهله وظاهرهم على الموحدين) اهـ.
أقول: وكذلك نحن فإن الذين كفرناهم بالحكم بغير ما أنزل الله لم نكفرهم لحكمهم بالفروع بمعنى الجور بالقضاء ونحوه من غير استحلال كما هي طريقة الخوارج، وإنما كفرناهم لأن حكمهم بغير ما أنزل الله من النوع التشريعي الشركي المناقض لأصل التوحيد، ولأنهم اتبعوا حكماً ومشرعاً غير الله عز وجل، وابتغوا ديناً وشريعة غير دينه وشريعته.. وأيضاً لتوليهم أهل الشرك وطواغيته على اختلاف ألوانهم، ومظاهرتهم على الموحدين..
فافهم هذا ولا تكن ممن تنطلي عليهم تلبيسات مرجئة العصر وتخبطاتهم، وفرّق بين ما يُكفّر به الرسل وأتباعهم، وبين ما يُكفّر به الخوارج وأشياعهم.
ثم اعلم أن التشريع والاستبدال كفرم مجرد لا يقال فيه؛ هل استحل أو اعتقد أو جحد؟ فهذه التقييدات إنما هي في النوع الآخر الذي خلّط فيه الخوارج.
فأهل الكتاب الذين أنزل الله تعالى فيهم: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} [التوبة: 31]، كفروا بالتشريع وطاعة المشرعين في ذلك ومتابعتهم لهم على تشريعاتهم، ولا يقال كفروا لاعتقادهم أنه حرم على الحقيقة أو أبيح على الحقيقة أو أنهم استحلوا التشريع (الاستحلال القلبي) أو أنهم اعتقدوا أن لهم حقاً في الألوهية أو الربوبية.
يقول الشيخ عبد المجيد الشاذلي في (حد الإسلام وحقيقة الإيمان) ص(431): (إن معنى أحلّوه أو حرّموه ليس معناه (الاعتقاد) بمعنى العلم بصحة الشيء والإخبار عنه، بل العمل بمقتضى تحريمهم وتحليلهم من الحكم والتحاكم إليه..).
واليهود عندما بدلوا حد الزنا واصطلحوا واجتمعوا على حكم غيره، لم يعتقدوا إباحة الزنا أو استحلاله، بل كانوا يعتقدون حرمته بتحريم الله له، ولا هم زعموا أو قالوا أن الحكم الذي وضعوه هو من عند الله، ولا قالوا أنه أفضل من حكم الله أو أعدل، ولا صرّحوا باستحلالهم للتشريع أو أنهم يعتقدون أن لهم حق التشريع.. أو شيئاً نحوه.. بل كفروا بمجرد تواطئهم واجتماعهم واصطلاحهم على حكم وتشريع غير حكم الله وتشريعه، وكانوا أرباباً لمن أطاعهم وتابعهم وتواطأ معهم على ذلك التشريع.
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في كتاب التوحيد: (من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله) اهـ.
فالمتبع لتشريع المشرعين المناقض لشرع الله، مشرك اتخذ غير الله رباً، والمشرع نفسه طاغوت كافر أشرك نفسه مع الله في ألوهية الحكم والتشريع.. قال تعالى: {ولا يشرك في حكمه أحداً} [الكهف: 26]، وفي قراءة ابن عامر وهو من السبعة: {ولا تشرك في حكمه أحداً} [الكهف: 26] بصيغة النهي. فالتشريع إما أن يكون إشراك أو اشتراك مع الله في الحكم وكلاهما كفر مجرد..
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته (التسعينية): (والإيجاب والتحريم ليس إلا لله ولرسوله فمن عاقب على فعل أو ترك، بغير أمر الله ورسوله، وشرع ذلك ديناً، فقد جعل لله نداً ولرسوله نظيراً، بمنزلة المشركين الذين جعلوا لله أنداداً أو بمنزلة المرتدين الذين آمنوا بمسيلمة الكذاب، وهو ممن قيل فيه: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [الشورى: 21] اهـ( ).
ويقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله في (أضواء البيان) جـ7 ص(169): (ولما كان التشريع وجميع الأحكام، شرعية كانت أم كونية قدرية، من خصائص الربوبية.. كان كل من اتبع تشريعاً غير تشريع الله قد اتخذ ذلك المشرع رباً، وأشركه مع الله) اهـ.
ويقول ص(173): (وعلى كل حال فلا شك أن كل من أطاع غير الله في تشريع مخالف لما شرعه الله، فقد أشرك به مع الله).
* ويقول في موضع آخر: (ويفهم من هذه الآيات كقوله: {ولا يشرك في حكمه أحداً} [الكهف: 26] أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله. وهذا المفهوم جاء مبيناً في آيات أخرى، كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة، بدعوى أنها ذبيحة الله: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} [الأنعام: 121] فصرح أنهم مشركون بطاعتهم..) اهـ.
* وفي قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً} [النساء: 60] يقول ص(83 جـ4): (وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا، يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم) اهـ.
* ويقول عبد المجيد الشاذلي في كتابه (حد الإسلام وحقيقة الإيمان) ( ): (ولا فرق في التشريع بين الإباحة وغيرها، فالمشرع الوضعي لا يأمر بالشرب أو باستحلال الشرب، بل ذلك راجع إلى دين كل فرد في المجتمع وهو يفصل بين الدين والدولة وهو مشرع الدولة، والدين في نظره علاقة بين العبد وربه، وبالتالي فطاعته في ذلك لا شأن لها بالفعل ولا بالاستحلال وإنما في أن يحترم( ) هذا التحليل وأن يقر بحقه في ممارسته..
وكذلك لا شأن للاعتقاد بمعنى المعرفة بالأمر، فاليهود عندما اصطلحوا على الجلد والتحميم بدلاً من الرجم كانوا متأثمين بذلك يبحثون له عن مخرج فقهي، ولذلك قالوا: (انطلقوا إلى هذا النبي فإنه قد بعث بالتخفيف فإن أفتاكم بالجلد والتحميم كان حجة لكم عند الله: {وإن لم تؤتوه فاحذروا} [المائدة: 41].
* ويقول عبد الله بن محمد بن أحمد القنائي في كتابه (حقيقة الإيمان) ص(95) حول سبب نزول قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44] (فإن من المعلوم في سبب نزول الآية أن اليهود إنما غيروا الحكم الذي في التوراة دون حذفه منها، ودون اعتقاد أن هناك حكماً جديداً مستأنفاً نزل من عند الله، وإنما هم غيروه مع إثبات الحكم الأصلي، وكان ذلك لمجرد اشتداد الأمر عليهم، وعدم قدرتهم على تنفيذه لفسقهم، يقول الطبري في تفسير قوله تعالى:
{وكيف يحكموك وعندهم التوراة} [المائدة: 43]: (وعندهم التوراة التي أنزلتها على موسى، والتي يقرون بها، وأنها حق، وأنها كتابي الذي أنزلته على نبيي، وأن ما فيه من حكم فمن حكمي، يعلمون ذلك لا يتناكرونه، ولا يتدافعونه. ويعلمون أن حكمي فيها على الزاني المحصن الرجم، وهم مع علمهم بذلك يتولون. يقول: (يتركون الحكم به بعد العلم بحكمي فيه جراءة عليّ وعصياناً لي) والحق أن هذا القول في المسألة لا يحتمل المكابرة، فليس في منطوق العبارات ولا في مفهومها أي إشارة إلى ما يزعمون أنه "الحق الإلهي" الذي بمقتضاه يغير بعض النصارى واليهود الأحكام لما يعتقدون في أحبارهم أن الوحي لا يزال ينزل عليهم ليغيروا ما عندهم بإرادة الله. هذا شيء وما ورد عن كفر من غيّر الشرائع مع إقرارها شيء آخر) اهـ.
* وقريب منه النوع الذي ذكره شيخ الإسلام في الصارم المسلول ص(521) وهو يتكلم عن أنواع الاستحلال: (وتارة يعلم أن الله حرمها ويعلم أن الرسول إنما حرم ما حرمه الله، ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم، ويعاند المحرم( )، فهذا أشد كفراً ممن قبله) اهـ.
* وكذا قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كشف الشبهات ص(28): (لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به، فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما. وهذا يغلط فيه كثير من الناس يقولون هذا حق، ونحن نفهم هذا، ونشهد أنه الحق، ولكن لا نقدر أن نفعله، ولا يجوز - أي لا يقبل ولا يمشي - عند أهل بلدنا إلا من وافقهم وغير ذلك من الأعذار، ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار. كما قال تعالى: {اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً} [التوبة: 9] وغير ذلك من الآيات) اهـ.
ومثل هذا أو أشد؛ ما يزعمه بعض طغاة هذا الزمان من أنهم يقرون بشرع الله وبدينه وبأنه الأفضل والأكمل والأحسن والواجب تحكيمه وغير ذلك، ثم يجعلون لأنفسهم حق التشريع كما تقدم من دساتيرهم ويبدّلون حدود الله وأحكامه بقوانينهم وتشريعاتهم النتنة.. فهم يزعمون أنهم يؤمنون بالله وبالرسول وبما أنزل إليه وما أنزل من قبله ثم ينصبون أنفسهم أرباباً مشرعين وطواغيب يُعبّدون الناس لهم ويلزمونهم اتباع تشريعاتهم المناقضة لشرع الله وطاعتها ويمنعون تحكيم شرع الله ففعلهم هذا بحدّ ذاته فعلٌ وعملٌ كفريّ. مخرج من ملة الإسلام، ولا نبحث فيه عن الاعتقاد والاستحلال..
يقول الإمام ابن حزم في (الفصل) (3/245) في قوله تعالى: {إنما النسيء زيادة في الكفر يُضَلُّ به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زُين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين} [التوبة: 37]: (وبحكم اللغة التي نزل بها القرآن أن الزيادة في الشيء لا تكون إلا منه لا من غيره.
فصح أن النسيء كفر، وهو عمل من الأعمال وهو تحليل ما حرم الله تعالى.
فمن أحل ما حرم الله تعالى وهو عالم بأن الله تعالى حرمه فهو كافر بذلك الفعل نفسه..) اهـ فتأمل قوله: (وهو عمل من الأعمال) وقوله: (أحل ما حرم الله وهو عالم بأن الله حرمه) أنّى تتسرب إليه شبهة الاعتقاد..
وفي هذا فائدة في أن الاستحلال كما أنه يكون بالاعتقاد دون العمل تارة وبالاعتقاد مع العمل تارة أخرى فإنه يكون أيضاً كذلك عملاً مجرداً( )..
فالاعتقاد إذن في شأن الاستحلال أو التحليل ليس قيداً في الكفر وإنما هو زيادة فيه.. ولا شك أن شرب الخمر أو الوقوع في الزنا أو أكل الربا، كل هذا لا يستوي مع التشريع لذلك بسن القوانين والمراسيم والأنظمة المبدلة لحدود الله أو المهوّنة المسهّلة للخمر والزنا أو المرخصة المبيحة للردة والربا مع حراسة ذلك وحمايته والاجتماع والتواطؤ عليه واصطلاحه كنظام للحكم.. فالأول هو الذي يقال فيه عند الكلام في التكفير استحل أو لم يستحل لأنها ذنوب غير مكفرة..
أما الثاني فهو كفر تشريع وتحليل وتحريم ولا يلتفت فيه إلى الاعتقاد ولو أقسم فاعله ألف ألف مرة على أنه غير مستحل قلنا له: {لا تعتذروا قد كفرتم} [التوبة: 66]، وقد كذبكم الله وسمى إيمانكم الذي تدعون زعماً..
إذ فرق كبير كبير بين من يرابي متأثماً يبتغي لذة عاجلة وبين من يرخص الربا للناس ويشرّع له ويحمي مؤسساته ويتواطأ ويصطلح عليه.. وفرق كبير أيضاً بين من يشرب الخمر مذنباً وبين من يرخص للناس شربها ويرخص لمحلات الخمر بيعها ويحميها ويُبدّل حد الله في الخمر بتشريعاته الساقطة.
وفرق كبير أيضاً بين من يقع في الزنا متأثماً استجابة لغواية، وبين من يبدل حد الزنا ويرخص للبغاء بتشريعات تجعل الزنا جريمة فقط في حق الزوج وبيده، فإن رضي الزوج فلا جريمة ولا عقوبة بل هو مباح عندهم.. ( ).
فالتشريع وتحريم الحلال أو تحليل الحرام كما فهمت، عمل كفري مجرد وليس كسائر الذنوب التي يشترط فيها اعتقاد الاستحلال.. وقد ينضاف إليه الاعتقاد فيكون كفراً مركباً وزيادة في الكفر.. وليس هو قيداً أو شرطاً للكفر ها هنا، فإن المشركين الذين أحلوا الأشهر الحرم بتبديلها بأوقات أخرى، كانوا يعرفون ويعتقدون في قرارة أنفسهم أن الأشهر المحرمة من عند الله هي تلك الأولى بعينها لا التي استحدثوها وشرعوها واستبدلوها هم، وهكذا كان معتقد اليهود يوم أن (بدلوا) حد الزنا أو (اجتمعوا) أو (اصطلحوا) أو (تواطؤوا) ( ) على حكم آخر من عند أنفسهم، ولم يستحلوا الزنا ولا صرحوا باستحلالهم القلبي للتشريع والتبديل.. فالكفر أو مناطه ها هنا هو عمل التبديل أو التشريع أو الاتفاق أو الاجتماع أو الاصطلاح أو التواطؤ على حكم غير شرع الله تعالى.. فسواء قالوا نحن نقر في قلوبنا أو نجحد أن الأشهر التي حرمها الله هي الحق أو أن حد الزنا الذي أنزله الله هو الحق، أم لم يقولوا.. فالاعتقاد لا قيمة لذكره ها هنا إلا على سبيل الزيادة في الكفر.. لأن فعلهم ذلك بحد ذاته كفر وإشراك مع الله في حكمه، ومن أشرك نفسه مع الله بالتشريع فقد نازع الله في خصوصية من خصوصياته وأمسى طاغوتاً مشرعاً مع الله، وأتباعه وأنصاره وأشياعه على ذلك هم له عابدون..

يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حامل المسك1
المدير العام
المدير العام
حامل المسك1


إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي 190070434
عدد المساهمات : 226
نقاط : 421
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 03/04/2011
الموقع : بلاد الرافدين

إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي Empty
مُساهمةموضوع: رد: إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي   إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي I_icon_minitimeالإثنين أبريل 11, 2011 6:11 am

شبهة أو فرية
أن عمر (لم يحكم بما أنزل الله) بتعطيله
لحد السرقة عن بعض المضطرين في عام الرمادة
هذا وقد رأيت لبعض من ختم الله على سمعه وبصره وجعله أضل من الأنعام بإعراضه وانشغاله عن تعلم أصل دينه وتوحيده بالحياة الدنيا وزخرفها، فرية وكلاماً أتنزه عن الإطالة فيه، مفاده أن "الفاروق رضي الله عنه لم يحكم بما أنزل الله يوم عطل العمل بحد السرقة في عام الرمادة".
فأقول كما قال بعض أهل العلم: إن وقوف المؤمن العارف بدين الله على هذه الضلالات والجهالات المركبة، فيه تنبيه له على نعمة الله عليه، وحث على شكر نعمة التوحيد والإسلام والفهم في دين الله، قال تعالى: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} [البقرة: 269]، قال بعض السلف: من أعطي القرآن ورأى أن أحداً فوقه فما عرف نعمة الله عليه.
ثم أقول بإيجاز: قد فصلنا لك فيما تقدم أن الحكم بغير ما انزل الله يطلق على معنيين: أحدهما تشريعي استبدالي كفري، والآخر من الجور في الحكم والقضاء للهوى أو الشهوة دونما استحلال.
وبيان أن فعل عمر الفاروق لا يمت إلى كلا النوعين بصلة، والخوض في ذلك وتفصيله هو في الحقيقة مضيعة للوقت، بل هو استخفاف بالقارئ واستصغار لعقله بمخاطبته بما هو من قبيل تبيين البيّن وتوضيح الواضح فهذا لا يكون إلا مع السفهاء..
أما فعله رضي الله عنه في عام الرمادة فهو اجتهاد محض مصيب فيه يؤجر عليه أجرين إن شاء الله.. وهو قطعاً وبلا شك من الحكم بما أنزل الله وليس بخارج عنه بحال، إذ هو إعمال لمقاصد الشريعة التي بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بها وأنزل الكتاب ووضعت حدود الشريعة من أجل تحقيقها وهي حفظ مصالح الناس الأساسية الشرعية وتحصيل أعظمها ودرء المفاسد عنها..
وهذه المصالح الشرعية مضبوطة معلومة باستقراء نصوص الشريعة وليست هي تبع للأهواء والاستحسانات كما يتوهمه كثير من الرويبضة السفهاء..
فمنها ما هو ضروري ومنها ما هو حاجي وآخر تحسيني تكميلي.. اما الضروريات فهي ست: "الدين والنفس والعقل والنسب والعرض والمال" وهي أهم المصالح على الإطلاق، وأعلاها وأجلها هو الدين (التوحيد) فإذا ما تعارضت هذه الضروريات أو أحدها مع مصلحة حاجية أو تكميلية قدمت الضرورية بلا خلاف..
أما إذا تعارضت مصلحتان ضروريتان فإن التقديم يكون للأهم والأعظم منهما، من باب تحصيل أعظم المصلحتين المتعارضتين بتفويت أدناهما.. أو درء أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما..
وهذا باب عظيم من أبواب الفقه، وهو من أعظم مقاصد شريعة الله وحكمها وقواعدها، ومن وفق إلى فهمه ومعرفته فقد هدي إلى معرفة كثير من أسرار الشريعة وحكمها..
وفهم هذا الباب وتطبيقه في الواقع، هو دون شك من أصول الشريعة ومن الحكم بما أنزل الله.. ولم يكن اجتهاد عمر رضوان الله تعالى عليه في عام الرمادة إلا من هذا.. فقد قدم مصلحة النفوس وحفظها على مصلحة المال وحفظها عندما تعارضتا، فقد كان الناس في مخمصة عظيمة والضرورات تبيح المحظورات.. فكان أكل المال المسروق كأكل الميتة في تلك الظروف.. يباح، بل يجب على قول طائفة من أهل العلم إذا تحقق الهلاك، وتاركه في مثل ذلك عاص لله قاتل لنفسه كما يقول ابن حزم، واحتج بقوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفـسكم} [النساء: 29]، قال: (وهو عموم لكل ما اقتضاه لفظه) اهـ( ).
فدفع رضي الله عنه قدر ما استطاع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما.. وحافظ على أعظم المصلحتين (أرواح الناس ونفوسهم) بتفويت أدناهما (أموالهم) لتعارضهما في تلك الظروف الخاصة.. وهذا من فقهه رضي الله عنه في دين الله وهو تحكيم لمقاصد الشريعة ومحافظة على مصالحها وضرورياتها التي ما وضعت الحدود كلها أصلاً إلا لحفظها وتحصيلها ودرء المفاسد عنها. ولذا قال ابن القيم فيه: (وهذا مقتضى قواعد الشرع)( ).
فهو إذن حكم بما أنزل الله.. وليس كما يلبس أعداء الله.. وهذا واضح بيّن.. وشتان شتان بينه وبين الحكم بغير ما أنزل الله بأقل أنواعه شراً.. فكيف بأطمها..؟؟
والله ما استويا ولن يتلاقيا حتى تشيب مفارق الغربان
ولا يَنسب الفاروق إلى غير هذا أو يتهمه بالحكم بغير ما أنزل الله إلا كافر زنديق.. أو رافضي خبيث غاظه عدلُ الفاروق ودينه.

شبهة
أن النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه قد حرّموا أشياء على أنفسهم
وقبل أن نغادر هذا الموضع إلى شبهة أخرى من شبهاتهم.. ننبهك أخا التوحيد إلى معنيين للتحريم غير المعنى التشريعي الذي يقابل التحليل؛ أحدهما عرفي والآخر لغوي.
قد يتلاعب بهما مرجئة العصر ويحاولون خلطهما عليك بالتشريع والتبديل الذي يمارسه ويدين به طواغيتهم( ).
فالعرفي: هو لفظة (التحريم) التي يستعملها الناس ويريدون بها اليمين، فلا يقال فيمن ظاهر امرأته وقال: (أنت عليَّ حرام كظهر أمي) مثلاً أنه مشرّع أو بدّل حكم الله.. بل ذلك عند الفقهاء يمين يحلفه الرجل ويقطعه على نفسه بهجران زوجته وعدم مسها، لغضب أو عقوبة أو نحوه، وقد ذمه الله تعالى وجعل فيه أغلظ الكفارات، تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً.. فدل هذا على أن المراد بالتحريم ها هنا (اليمين)، إذ التشريع لا كفارة يمين له يا أولي العقول( ).
ثم هناك فرق يتميز فيه هذا النوع من التحريم عن التحريم التشريعي الذي يقابل بالتحليل والإباحة ويفعله المشركون مع الله، وهو ما ذكره الشاطبي في الاعتصام من أن المحرِّم باليمين "لا يلزم بهذا التحريم إلا نفسه ولا يُعدى هذا التحريم إلى غيره" كما هو الشأن في التحريم الكفري الذي يجتمع عليه المشركون ويتواطؤون ويصطلحون ويلزمون به من هو تحت سلطانهم. ثم اليمين التحريمية تتعلق بالمنع فقط وليس لها علاقة بالتحليل ولا بالإباحة خلافاً للتشريع الذي يتطرق للتحليل والإباحة كما يتطرق للتحريم.. وهذا أمر بيّنٌ واضح..
فمن هذا النوع - أعني التحريم باليمين قول النبي صلى الله عليه وسلم المروي في صحيح البخاري أنه قال لبعض نسائه: (كنت أشرب عسلاً عند زينب فلن أعود له وقد حلفت) فقوله صلى الله عليه وسلم: (فلن أعود له) هو معنى ما تعارف عليه الناس من (التحريم) في معنى اليمين في قولهم: (هذا علي حرام) أو قولهم: (حرام علي كذا وكذا إن لم أفعل كذا) فليس مثل هذا ولا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولن أعود له) تشريع ولا تبديل ولا تقنين ولا تواطؤ أو إصطلاح أو اجتماع كما يورد أعداء الله في إلزاماتهم.. إذ في هذه القولة نزل قول الله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك.. } [التحريم: 1]، إلى قوله: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم: 2]، وإذا كان تحليل مثل هذا هو الكفارة، علم أن تحريمه كان يميناً لا تشريعاً ولا تبديلاً..
فلا نلتفت بعد هذا إلى تلبيسات مرجئة العصر وإلزاماتهم الكفرية الفاسدة عندما تجادلهم في كفر طواغيتهم المشرعين، فيحتجون بأمثال هذه الآيات ويقولون: (الرسول حرّم فهل هو كافر؟؟).. {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا} [الكهف: 5] فقد علمت مما تقدم أن هذا ليس تشريعاً، وما كان للنبي صلوات الله وسلامه عليه أن يشرع إذ هو ليس بمشرع ولا يحل له ذلك.. إن هو إلا وحي يوحى.. وما هو إلا نذير ومبلغ عن المشرع الواحد الأحد..
والمعنى الآخر: هو (التحريم) الذي يأتي ويراد به معناه اللغوي المحض، لا الاصطلاحي الشرعي التشريعي.. وهو الامتناع المجرد ومنه قول امرىء القيس:
جالت لتصرعني فقلت لها اقصري إني امرؤ صرعي عليك حرام
أي "ممتنع". وقول الآخر:
حرام على عيني أن تطعما الكرى وأن ترفئا حتى ألاقيك يا هند
أي: "ممنوع على عيناي".. هذا إن لم يرد اليمين، فيلتحق بالمعنى العرفي الأول.
وقل قال تعالى: {وحرمنا عليه المراضع من قبل} [القصص: 12]، فليس المراد في هذا، التحريم التشريعي وإنما المنع فقط. قال القرطبي: (أي منعناه من الارتضاع) وقال: (وهذا تحريم منع لا تحريم شرع) اهـ.
ومثله قوله تعالى: {فإنها محرمة عليهم أربعين سنة} [المائدة: 26]، قال القرطبي: (معنى محرمة: أي أنهم ممنوعون من دخولها) وقال في هذا الموضع أيضاً: (فهو تحريم منع لا تحريم شرع) اهـ.
فتنبه إلى هذا المعنى واعلم أنه غير المعنى التشريعي الذي جعله الطغاة اليوم من خصائصهم وحقوقهم وسلطاتهم هم وأتباعهم وبرلماناتهم، ويتواطؤون عليه ويصطلحون، ويتفقون.. فإن جاءك بعض أوليائهم من مرجئة العصر المجادلين عنهم بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} [المائدة: 87].. الآية. وقالوا: هؤلاء قد شرعوا، ومع هذا خاطبهم الله بنداء الإيمان..!
فقل لهم: المراد بهذا يا أعداء أنفسكم التحريم بمعناه اللغوي المحض، لا التشريعي الذي يمارسه طواغيتكم والذي هو صنو التحليل وأخوه..
فالمراد منع النفس عن بعض الطيبات التي أحلها الله لعباده، نذراً أو تقشفاً وترهباً.. بدليل أنها نزلت بسبب جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أرادوا الامتناع من تناول بعض الطيبات زهداً في الدنيا وتقشفاً.. فلا هم شرعوا ولا بدلوا ولا قننوا. أو تحمل على المعنى السابق، أعني (اليمين) كما ذكر المفسرون في هذه الآية، وهو مروي عن ابن عباس، أن الذين أرادوا الامتناع عن بعض الطيبات، كانوا قد حلفوا على ذلك فلما نزلت هذه الآية.. قالوا: ما نصنع بأيماننا؟ فأنزل الله قوله تعالى بعد ذلك مباشرة: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم..} [المائدة: 89] الآية، وبها استدل الشافعي رحمه الله على قوله بأن الحلف أو اليمين لا يتعلق بهما تحريم الحلال وأن تحريم الحلال لغو، فلا كفارة على من قال مثل ذلك عنده وعند مالك رحمهما الله تعالى، وسواء كان الصواب هذا المعنى أو ذاك.. فكلاهما ليس من التشريع في شيء كما عرفت..
وقد تكون من باب النذر، كالذي حرم على نفسه الجلوس والكلام مؤقتاً بأن نذر الصوم قائماً في الشمس ساكتاً، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره بإتمام صومه.. ومنه قوله تعالى عن نبي الله يعقوب: {كل الطعام كان حلاًّ لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة} [آل عمران: 93] فقد جاء في تفسيرها أنه مرض فنذر على نفسه نذراً إن شفاه الله أن يمتنع عن أكل أطيب الطعام عنده فحرم على نفسه لحوم الإبل، وذلك قبل أن تنزل التوراة. فلم يكن منهياً عن مثل ذلك، وقد كانوا إذا حرموا على أنفسهم شيئاً بالنذر أو باليمين لم يجز لهم أن يفعلوه ثم نسخ الله ذلك فنزلت كفارة اليمين. فهو أيضاً من جنس اليمين أو النذر وليس من التشريع في شيء، ولذلك نقل الشاطبي في الاعتصام عن القاضي إسماعيل قوله: (وهذه الأشياء وما أشبهها من الشرائع يكون فيها الناسخ والمنسوخ، فكان الناسخ قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} [المائدة: 87]، فلما وقع النهي لم يجز للإنسان أن يقول: الطعام علي حرام وما أشبه ذلك، فإن قال إنسان شيئاً من ذلك كان قوله باطلاً، وإن حلف على ذلك بالله كان له أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه) اهـ. فلا يلبس عليك مرجئة العصر فيقولون: (هذا نبي الله قد شرع من تلقاء نفسه ودونما أمر من الله، فهل هو كافر؟؟ ، فما هذا بتحريم تشريع، ولو كان كذلك لما كان الناسخ له هذه الآية التي هي في شأن اليمين أو النذر أو الامتناع المجرد زهداً وتقشفاً.. ثم أنت قد علمت مما تقدم أن إفراد الله في التشريع وعدم إشراك أحد معه في ذلك، هو من أصول التوحيد التي اتفقت عليها كافة الشرائع، وقد كان الإخلال بهذا الأصل من جملة المكفرات التي كفر بها اليهود والنصارى كما عرفت.. وأصل كهذا لا يدخل بحال في أبواب المنسوخ كما هو معلوم في الأصول.. فصح أن مثل هذا لم يكن تشريعاً من نبي الله يعقوب بيقين..
ومثل ذلك ما رواه البخاري ومسلم في النفر الذين سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عبادته.. فقام بعضهم: (أصوم الدهر ولا أفطر) وقال آخر: (وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبداً).. إلى آخر ما قالوه.. ورغم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنكر عليهم ذلك، وقال: (من رغب عن سنتي فليس مني).. إلا أن هذا كله لا علاقة له بالتشريع أو التبديل كما علمت.. فلا هم شرعوا ولا زعم أحد منهم أن له السلطة التشريعية كما هو حال طغاة العصر.. فلا تغتر بشبه ساقطة كهذه.. فإن هذا كله في واد وواقع طواغيت الزمان في واد آخر..
سارت مشرّقة وسرت مغرّبا شتان بين مشرّق ومغرّب
فإن الأمر اليوم كما يقول الشيخ عبد المجيد الشاذلي في كتابه (حد الإسلام وحقيقة الإيمان) ص(376) عن واقعنا، بعد أن سرد نصوصاً من القوانين الوضعية، وحقائق حول الدساتير ونصوصها.
قال: (والآن.. هذا الواقع قد تجاوز حد التشريع المطلق إلى الإقرار الصريح بحق التشريع لغير الله.
بحيث أن نصوص الشريعة لا تكتسب صفة القانون - عندهم - لو أرادوا العمل بها إلا بصدورها عمن يملك حق التشريع - عندهم - تعبيراً عن إرادته، وهذا فقط هو الذي يعطيها صفة القانون فشأنها في ذلك كشأن غيرها من العرف أو القانون الفرنسي أو آراء فقهاء القانون أو ما استقرت عليه المحاكم.
أما صدورها عن الله سبحانه وتعالى فلا يعطيها صفة القانون لأنه - عندهم - ليس مصدر السلطات وليس من حقه التشريع) اهـ.
ويقول ص(367): (وهذا الواقع قد تجاوز مرتبة المعصية أو البدعة بل قد تجاوز التشريع المطلق إلى ما وراء ذلك، كيف تختلط قضية المعاصي بقضية التشريع مع ما بينهما من البون الشاسع؟).
(وإذا كانت البدعة متميزة عن المعصية بفوارق واضحة جداً، وما ذلك إلا لوضعها على مضاهاة التشريع. أفلا يتضح الفرق بين المعصية والتشريع المطلق؟) اهـ.
ويمكننا أن نقول في خلاصة هذا الموضع أن لفظة التحريم، لفظة مشتركة مثل بقية الألفاظ التي تحمل أكثر من معنى، فبعض معانيها لغوي أو عرفي وبعضها شرعي.. كلفظة الإيمان فإنها في اللغة التصديق ولكن الله تعالى نقلها إلى مسمى ومعنى شرعي غير المعنى اللغوي فزادها قول اللسان وعمل القلب والجوارح، وكذلك الكفر فكما أن للكفر معناه اللغوي وأصله تغطية الشيء، فيدخل فيه كفران العشير وكفران النعمة وغير ذلك من الأعمال التي يطلق عليها الله تعالى لفظة الكفر، ولا يراد بها الكفر الناقل عن الملة ومنها - كما عرفت - ما هو ناقل عن الملة.
وكذلك الشأن في لفظة التحريم هذه.. فإنها تطلق على معان - وإن كانت مذمومة قد نهى الله تعالى عنها - ولكنها لا تصل إلى الشرك والكفر، كالامتناع عن بعض الطيبات التي أحلها الله تعالى سواء بالأَيْمان أو زهداً وتقشفاً ورهبانية( ) وكذلك تطلق على التشريع الذي إن صرف إلى غير الله سبحانه كان شركاً وكفراً أكبر مخرجا عن ملة الإسلام.
فالله عز وجل يسمي ما يشاء بما شاء، ونحن ليس لنا من الأمر شيء إلا أن نقول سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.. يقول ابن حزم رحمه الله تعالى في الفصل (3/229): (إننا لا نسمي في الشريعة اسماً إلا بأن يأمرنا الله تعالى أن نسميه، أو يبيح لنا الله بالنص أن نسميه، لأننا لا ندري مراد الله عز وجل منا إلا بوحي وارد من عنده، ومع هذا فإن الله عز وجل يقول منكراً لمن سمى في الشريعة شيئاً بغير إذنه عز وجل: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنى} [النجم: 23-24].
فصح أنه لا تسمية مباحة لملك ولا لنبي دون الله تعالى، ومن خالف هذا فقد افترى على الله عز وجل الكذب، وخالف القرآن..) اهـ.

يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حامل المسك1
المدير العام
المدير العام
حامل المسك1


إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي 190070434
عدد المساهمات : 226
نقاط : 421
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 03/04/2011
الموقع : بلاد الرافدين

إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي Empty
مُساهمةموضوع: رد: إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي   إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي I_icon_minitimeالإثنين أبريل 11, 2011 6:13 am

شبهة
بل (كذبة) أن الحجّاج كان مشرعاً ولم يكفره السلف
ومصيبة القوم أنهم أعرضوا عن التعرف على واقعهم الذي يعيشون فيه وأعرضوا عن دراسته - بل يعدّون ذلك من مضيعة الوقت - فعموا وصموا وضلوا وأضلوا بتنزيلهم أحكاماً في غير مناطها ومقالات لا تمت إلى الواقع والمقام بصلة.. حتى لترانا نضطر إلى الخوض في مثل هذه المسلّمات والإطالة فيما لا يستحق الإطالة وما ذلك إلا لما نجده ونسمعه من سفاهة عقول القوم وإيراداتهم..
حتى إنه بلغني قبل أيام من تبييض هذه الورقات عن أحدهم - وهو ممن يتصدر المجالس للجدال عن الطواغيت والترقيع لكفرياتهم، ويجمع حوله فيها لفيفاً من الشباب الأغرار ليلبس عليهم دينهم وتوحيدهم ويخذلهم عن الكفر بطواغيت الزمان والبراءة منهم - أنه قال رداً على من احتج على تكفيرهم بتشريعاتهم الكفرية: "أن الحجاج بن يوسف بعث برسالة إلى أحد قادته "أن اقتل فلاناً – المسلم - "فهذا تشريع!!! ومع هذا لم يكفره أحد من السلف..!!" ( ).
والحق يقال أنني لأستحيي من تسويد الأوراق في الرد على مثل هذه الترهات، ولكن من عرف واقعنا هذا، وما بلغ الناس فيه من الجهل في أصول التوحيد ومقدار غربة الدين عذرنا فيه..
ولا أقول إلا كما قال ابن حزم في (الفصل) وهو يناقش مقالات بعض أسلاف هؤلاء.."فهذه أقوال لو قالها صبيان يسيل مخاطهم ليئس من فلاحهم، وتالله لقد لعب الشيطان بهم كما شاء.. فإنا لله وإنا إليه راجعون..".
ثم أقول لذلك الأعمى ومن قلّده: أما قولك عن الحجّاج: (لم يكفره أحد من السلف) فمردود عليك.. وإن كان هذا ينطلي على أغرار الشباب الذين تجمعهم لتلبس عليهم دينهم، فإنه لا يخفي على من عرف أقوال السلف في ذلك.. وإليك مثالاً واحداً فقط يكفي لخرق إطلاقك هذا الذي ادعيته..
وهو ما رواه أبو بكر ابن أبي شيبة في (كتاب الإيمان) ص(32) بإسناد صحيح عن الشعبي أنه قال: (أشهد أنه مؤمن بالطاغوت كافر بالله - يعني الحجاج).
وقريب منه قول طاووس في الموضع نفسه بإسناد صحيح أيضاً: (عجباً لإخواننا من أهل العراق يسمون الحجاج مؤمناً).
وقد ذكره الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب (2/211) وقال: (وكفّره جماعة منهم سعيد بن جبير والنخعي ومجاهد وعاصم بن أبي النجود والشعبي وغيرهم).
وليس مرادنا استقصاء ذلك أو تبنّيه( )، وإنما إبطال شبهاتك وخرق إطلاقاتك..
ثم أقول: أما تلك الرسالة التي نسبتها للحجاج وبنيت عليها شبهاتك الهشة، فما هي إلا أمر كتابي لا يختلف عن الأمر القولي اللفظي الخطابي بالقتل، وكلاهما سيان، والقول فيه ليس بمعضلة.. فإن كان ذلك في حق من يستحقه لرده أو لقصاص، فإن فاعله والآمر به كتابة أو تلفظاً مأجور - إن وفق لشروط قبول العمل الصالح - وإن كان ممن لا يستحق القتل فهو في حق فاعله والآمر به كتابة أو تلفظاً، جريمة وكبيرة من كبائر الذنوب وظلم لا يكفر فاعله إلا بالإستحلال، ولا يقول بكفر فاعل مثل ذلك إلا الخوارج الضلال، بخلاف الذين يسنون للخلق تشريعات في النفوس والدماء والأموال والأعراض والأنساب، ما أنزل الله بها من سلطان يستبدلون بها حدود الله وتشريعاته المرفوعة المطهرة، ويلزمون الخلق إتباعها والخضوع لها، فهؤلاء كما عرفت. كفرة مشركون اعتقدوا أم لم يعتقدوا واستحلوا أم لم يستحلوا..
وقد بينا وفصلنا لك ولغيرك فيما تقدم معنى التشريع الكفري فراجعه وتأمله إن رمت الهدى، وذكرنا لك نصوص الطواغيت في دساتيرهم والتي جعلت السلطة التشريعية حقاً مطلقاً من حقوقهم، وليست حقاً لله وحده، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وإن شئت أن تتعرف على أمثلة كثيرة من تشريعاتهم التي يستحلّون بها دم المسلم المعصوم وماله وعرضه بما لم ينزل الله به سلطاناً فارجع إلى قوانينهم( ) لترى البون الواسع والفرق الشاسع بينهم وبين ذلك الحجاج الغشوم المظلوم.. أي والله فإن مقايستهم عليه لظلم عظيم..
كيف والسلف قد اختلفوا في كفره.. وما كان لهم أن يختلفوا أبداً في كفر هؤلاء المشركين المشرعين.. ولماذا نذهب بالمثال بعيداً.. بل أرجعك إلى بعض أعضاء جماعتك التي تدعي السلفية والسلف منها براء.. أعني أولئك الذين خانوا الله ورسوله وشاركوا في (مجلس الأمة) التشريعي الشركي يوم أن شرعوا - مع غيرهم من أعضاء البرلمان الوثني - "قوانين الخيانة العظمى"( )، وقدموها للحكومة، للتصويت عليها وإقرارها.. وهاك مقتطفات مما نشر منها في الصحف تلك الأيام.. قبل أن يُحل ذلك المجلس الكفري وتستطيع الرجوع إليه كاملاً في مضابط المجلس واقتراحاته لسنة 1984: "قدم النواب.. فذكر أسماء منها "جاسم العون" من رؤوس أدعياء السلفية في الكويت وقد صار وزيراً فيما بعد، و"حمود الرومي.." محسوب على الإخوان؛ اقتراحاً بمشروع قانون في شأن محاكمة الوزراء فيما يلي نصه:
(نص المشروع): بعد الاطلاع على الدستور وبخاصة المواد 58 و65 و79 و91 و101 و109 و126 و131 و132 منه.
وعلى القانون رقم 16 لسنة 1960 بإصدار قانون الجزاء والقوانين المعدلة له.
وعلى القانون رقم 17 لسنة 1960 بإصدار قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية والقوانين المعدلة له.
وعلى القانون رقم 30 لسنة 1964 بإنشاء ديوان المحاسبة المعدل بالمرسوم بقانون رقم 4 لسنة 1977م.
وعلى المرسوم الأميري رقم 319 لسنة 1959 لقانون تنظيم القضاء والقوانين المعدلة له( ).
وافق مجلس الأمة على القانون الآتي نصه وقد صدّقنا عليه وأصدرناه.
(مادة رقم 1) يعمل بأحكام هذا القانون في شأن محاكمة الوزراء ويلغى كل نص يخالف أحكامه..!!
(الباب الأول) في مسؤولية الوزراء:
1- الخيانة العظمى ويدخل فيها عدم الولاء للوطن أو للأمير وكل جريمة تمس استقلال البلاد أو وحدتها أو سلامة أراضيها أو أمنها الداخلي أو الخارجي أو نظام الحكم الأميري للكويت وتوارث الإمارة وكل تعاون مع الأعداء!!
2- المخالفة العمدية لأحكام الدستور الأساسية:
وذكروا في العقوبات:
(مادة 3) يعاقب على الخيانة العظمى بالإعدام أو بالحبس المؤبد أو بالحبس المؤقت الذي تزيد مدته على ثلاث سنوات وبالغرامة التي يجاوز مقدارها خمسة آلاف دينار" اهـ.
أذكر هذا للعبرة وللتاريخ.. وليتعرف طلاب الحق على مخازي هذه الطرق والسبل الشركية التي ينتهجها ويسلكها هؤلاء الدعاة على أبواب جهنم، بحجة مصلحة الدعوة فما يلبثون أن ينقلبوا هم أنفسهم إلى طواغيت وأرباب مشرعين يدعون إلى سبيل طاغوتهم الأكبر ومصلحته، ولا يستحيون مع ذلك من الاستمرار في التمسح بالدعوة إلى الله ومصلحتها زوراً وبهتاناً..
أقول:
إلا من تاب واجتنب عبادة الطاغوت وبرىء منه ثم اهتدى.



يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حامل المسك1
المدير العام
المدير العام
حامل المسك1


إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي 190070434
عدد المساهمات : 226
نقاط : 421
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 03/04/2011
الموقع : بلاد الرافدين

إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي Empty
مُساهمةموضوع: رد: إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي   إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي I_icon_minitimeالإثنين أبريل 11, 2011 6:14 am

شبهة
(ولا نكفر مسلماً بذنب ما لم يستحله)
وهكذا، فإذا كنت قد فهمت ما تقدم كله، فلا بد أنه قد ظهر لك أن قولهم: (ولا نكفر مسلماً بذنب ما لم يستحله) ليس على إطلاقه، بل لا بد أن يُقيّد هذا بقيد، فنقول: (لا نكفر مسلماً بذنب غير مكفر ما لم يستحله).
بدليل أن الاستهزاء بالله ودينه ذنب، وسب الله ورسوله ذنب، والسجود للصنم ذنب، ورمي المصحف في القذر ذنب، وقتل الأنبياء ذنب، والتشريع مع الله ذنب، ومع هذا فقد علمت أن فاعل ذلك كله كافر استحله أم لم يستحله.. فالذنوب منها ما هو من المكفرات، ومنها ما هو معاص مجردة لا تخرج من دائرة الإسلام، فلا يقال للأول عند التكفير استحل أو لم يستحل، بخلاف الثاني فلا بد من ذلك لأن الأصل في فاعلها أنه فاسق مِلّي وليس بكافر..
ثم هذه المقولة ليست قرآناً منزّلاً حتى يعارض بها كلام الله وكلام الرسول كما يفعل جهال مرجئة العصر، بل الحق ضبطها وتقييدها بكلام الله وكلام الرسول.
وإن كان بعضهم يرفعها ويجعلها من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فإن ذلك لا يصح وهو حديث موضوع لا أصل له كما ذكر ابن القيم في بدائع الفوائد (4/42).
- ومن هذا القبيل ما يروى عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من أصل الإيمان: الكف عمن قال لا إله إلا الله ولا نكفره بذنب ولا نخرجه من الإسلام بعمل.. الحديث..) رواه أبو داود وأبو يعلى وهو حديث لا يصح، يرويه عن أنس يزيد الرقاشي، قال أبو حاتم: أكثر الرواية عن أنس بما فيه نظر وفي حديثه ضعف. وقال ابن حبان: غفل عن حفظ الحديث شغلاً بالعبادة حتى كان يقلب كلام الحسن فيجعله عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا تحل الرواية عنه إلا على جهة التعجب( ).
- ومثله ما يرويه الطبراني في الكبير عن ابن عمر مرفوعاً: (كُفّوا عن أهل لا إله إلا الله ولا تكفروهم بذنب، من كفر أهل لا إله إلا الله فهو إلى الكفر أقرب).
وفيه الضحاك بن حُمرة وعلي بن زيد بن جدعان وهما ضعيفان.. فهذه هي بضاعة القوم كلها آثار ضعيفة متكلم فيها.. وحتى لو ثبت شيء منها أو في معناها، فينبغي أن تحمل على مبينها من الكتاب والسنة، فتفهم كما فهمها السلف لا كما يهوى مرجئة العصر ويشتهون، فيحمل ذلك على من حقق التوحيد واجتنب النواقض والشرك والتنديد، كما جاء في بعض الأحاديث المبينة لهذا، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله؛ حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل) رواه مسلم.
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (وهذا من أعظم ما يبين لك معنى لا إله إلا الله، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له. بل لا يحرم دمه وماله حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله) اهـ.
ومعلوم أن النفي في كلمة (لا إله إلا الله) يحتوي على معان منها المعنى الذي فصّله الحديث بقوله: (وكفر بما يعبد من دون الله) فتأكيد هذا المعنى عقبها مع أنه مستفاد منها يدل على أنه أجل معانيها وأهمها.. وسيأتي بسط الكلام في هذا عند شبهة "أنهم يقولون لا إله إلا الله ويصلون".
وهكذا الحال في لفظة "أهل القبلة" التي يذكرها السلف في أشباه هذه المقولة. فعن جابر رضي الله عنه أنه قيل له: (هل كنتم تدعون أحداً من أهل القبلة مشركاً؟ قال: معاذ الله ففزع لذلك. قال: هل كنتم تدعون أحداً منهم كافراً قال: لا) رواه أبو يعلى والطبراني في الكبير.
ومثلها ما جاء في العقيدة الطحاوية ويردده أفراخ المرجئة دون أن يفقهوا معناه: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله).
فليس المراد أهل القبلة الذين يصلون عموماً وإن كانوا مرتدين من أبواب أخرى، بل المراد المسلمين الموحدين منهم المجتنبين للنواقض، بدليل أن الصحابة كفّروا مانعي الزكاة، ومن السلف من كفّر تارك صيام رمضان وتارك الحج كما سيأتي.. وكذلك ليس المراد أن الصلاة وحدها تعصم من الكفر وإن أشرك مع الله وعبد غير الله، فإن الصلاة لا تقبل بدون التوحيد الذي هو أصل الإيمان وشرطه.. وسيأتي تفصيل هذا أيضاً. (فأهل القبلة) هم الموحدون المجتنبون لنواقض الإسلام (والمراد من النهي عن تكفيرهم) أن لا يكفّروا بمطلق الذنوب التي لا يكفر مرتكبها، فإنه لا يكفرهم بذلك إلا الخوارج ومن سار على نهجهم.. ولذا قال شارح الطحاوية ص(316): (يشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب).
وقال ص(317): (ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحداً بذنب. بل يقال: (لا نكفرهم بكل ذنب كما تفعله الخوارج. وفرق بين النفي العام، ونفي العموم، والواجب هو نفي العموم، مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب ولهذا والله أعلم - قيّده - الشيخ رحمه الله بقوله ما لم يستحله، وفي قوله: ما لم يستحله، إشارة إلى مراده من هذا النفي لكل ذنب من الذنوب العملية لا العلمية) اهـ.
قلت: المراد باصطلاح الذنوب العملية عندهم الذنوب غير المكفرة، كما هو ظاهر من أول كلامه. أما الأعمال مطلقاً، فقد علمت أن فيها تفصيلاً وسيأتي المزيد من التفصيل..
ومن هذا يظهر لك بطلان احتجاجهم للطواغيت بتلك المقولة، وبطلان زعمهم الإجماع على لفظها المطلق هذا، وفهمهم الفاسد لها..
وإليك قول إمام أهل السنة والجماعة في ذلك..
قال الخلال: أنبأنا محمد بن هارون أن إسحاق بن إبراهيم حدثهم قال: (حضرتُ رجلاً سأل أبا عبد الله فقال: يا أبا عبد الله، إجماع المسلمين على الإيمان بالقدر خيره وشره؟ قال أبو عبد الله: نعم.
قال: ولا نكفر أحداً بذنب؟
فقال أبو عبد الله: اسكت، من ترك الصلاة فقد كفر، ومن قال القرآن مخلوق فهو كافر) اهـ( ).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وقد اتفق المسلمون على أن من لم يأت بالشهادتين فهو كافر، وأما الأعمال الأربعة فاختلفوا في تكفير تاركها، ونحن إذا قلنا إن أهل السنة متفقون على أنه لا يكفر بالذنب، فإنما نريد به المعاصي كالزنا والشرب، أما هذه المباني ففي تكفيرها نزاع مشهور) اهـ (7/302) الفتاوي.
قلت: فكيف بأصل الأصول الذي لا نقبل هذه المباني بدونه..؟؟
فدل هذا كله على بطلان الإجماع المذكور. وعلى وجوب فهم هذه المقولة على ضوء الأدلة المبينة الأخرى، تماماً كما فهمها السلف.. وتقييدها كما قيدوها..



يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حامل المسك1
المدير العام
المدير العام
حامل المسك1


إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي 190070434
عدد المساهمات : 226
نقاط : 421
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 03/04/2011
الموقع : بلاد الرافدين

إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي Empty
مُساهمةموضوع: رد: إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي   إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي I_icon_minitimeالإثنين أبريل 11, 2011 6:16 am

شبهة
احتجاجهم بقول عبد الله بن شقيق العقيلي
أن الصحابة لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة
هذا وقد احتج بعض أفراخ المرجئة للترقيع للطواغيت بقول عبد الله بن شقيق العقيلي رضي الله عنه: (كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة ).
فإذا ما تساهلنا معهم وأرجأنا الكلام في مسألة حجية مثل هذا والخلاف فيه عند أهل العلم بالأصول خصوصاً إذا وجد المخالف والمعارض له من الصحابة، وانتقلنا إلى فهم المراد من هذا الأثر.. فالواجب علينا لزاماً معرفة الأعمال المشار إليها فيه.. فإما أن نطلقها فندخل فيها كل ما يقع عليه مسمى العمل، فيدخل (التوحيد) والكفر بالطاغوت ونحوه.. إذ هي أعمال وهذا باطل، لأن تركها كفر بالاتفاق.. أو نقيدها بما هو دون ذلك من أعمال، فيبطل الاحتجاج بهذا الأثر على طامة زماننا الشركية - والتي لم يكن لها وجود يوم قيل هذا الأثر أصلاً - أعني "ترك تحكيم شرع الله وتحكيم الطواغيت المحلية والدولية" خصوصاً وأن القضية كما علمت سابقاً ليست مجرد ترك الحكم ببعض شرع الله أحياناً بل هي تول مطلق عن حدود الله، وتشريع واستبدال، أي دخول في دين الطواغيت وعبادتها واتخاذها أرباباً متفرقة بطاعتها في التشريع وعدم البراءة منها ومن تشريعاتها.. وليس في هذا ترك التوحيد والإعراض عنه وحسب، بل فيه هدمه وحربه.. ومعلوم أن هذا الأصل الذي خصومتنا فيه، لا يكفر محاربه وهادمه والصاد عنه وحسب، بل وحتى التارك له تركاً مجرداً المعرض عنه، إذ هذا ليس تركاً لعمل مستحب أو واجب من الواجبات التي لم يأثم تاركها وحسب، وإنما هو ترك وإعراض عن أصل الإسلام الأصيل، والشرط الذي لا يقبل عمل من الأعمال دونه.. فكيف بالهادم له المحارب الصاد عنه..؟؟
وعلى كل حال، فلا ينبغي تحميل هذا الأثر أكثر مما يحتمل.. إذ هو لا يتكلم عن شعب الكفر العملية ولا القولية، التي عرفت كثيراً منهم فيما تقدم، وإنما يتكلم عن ترك شعب الإيمان العملية، فليس جميع الأعمال التي هي من شعب الإيمان العملية تركها كفر، كإماطة الأذى عن الطريق، والبذاذة والحياء وأن تحب لأخيك ما تحب لنفسك ونحوها، فإنه من المعلوم أنه إذا زال شيء من أمثال هذه الشعب لم يزُل الإيمان بالكلية ولم ينتقض.. وإنما ينتقص بقدرها إن كانت من واجبات الإيمان.. أما شعب الإيمان التي هي من أصله فإن الإيمان ينتقض بزوالها أو بزوال بعضها، كالصلاة التي ذكرت في هذا الأثر على أنها الشعبة العملية الوحيدة التي يناقض تركها للإيمان.. وذلك لأن أهل السنة اعتبروا الإيمان اعتقاد وقول وعمل، فمن الأعمال عندهم ما هو من كمال الإيمان (أي: المستحب)، ومنها ما هو من الإيمان الواجب، ومنها ما هو شرط لصحة الإيمان.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الصلاة ص(53): (لما كان الإيمان له شعب متعددة وكل شعبة منها تسمى إيماناً كالحياء والتوكل.. إلخ حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق فإنه شعبة من شعب الإيمان.
وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادة. ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى) اهـ مختصراً.
هذا عند أهل السنة.. أما المرجئة والجهمية ومن تابعهم فإنهم يتخبطون في مسمى الإيمان وعلاقة الأعمال به.. وبالتالي فليس من الأعمال شيء يزول بزواله الإيمان عندهم.. وتأمّل كلام ابن القيم في شعبة الشهادة.. فإن دندنتنا كلها حولها..
وأما كون هذا الأثر ينص على أن الصحابة لا يرون من شعب الإيمان العملية ما يكفر تاركه إلا الصلاة، فلا ينبغي فهمه على أنه إجماع منهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين، بل أقصى ما يقال فيه أنه قول طائفة منهم، وأُطلق القول فيه تعظيماً لشأنها، لأن منطوقه معارض مخالف بأقوال طائفة من الصحابة وأتباعهم، خصوصاً فيما يسميه ابن تيمية بـ(المباني)، وهذا مبسوط في محله قد ذكره أهل العلم فيما صنفوه من كتب الإيمان.. بل هو معارض بإجماع الصحابة على قتال مانعي الزكاة قتال ردة، فقد انعقد إجماعهم بعد المناظرة التي جرت بين أبي بكر وعمر على قتالهم، ومعلوم أن كثيراً منهم لم يجحدها وإنما منعها منعاً مجرداً، ومع هذا قاتلهم الصحابة جميعاً وكان قتالهم قتال أهل ردة فاستحلوا دماءهم وأموالهم بل وسبوا نساءهم وما (محمد بن الحنفية) بن علي بن أبي طالب، إلا ابن إمرأة من ذلك السبي.. وعد هذا الفعل من مناقب الصديق رضوان الله عليه.. فكيف إذا كانت قضيتنا هي (الكفر بالطاغوت) الذي ليس هو شعبة كسائر تلك الشعب، بل هو أعلاها وأعظمها فهو شطر أصل الإيمان وقاعدته.
يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في (مصباح الظلام): (وأصل الإسلام ومبانيه لها شأن ليس لغيرها من السنن، ولذلك يكفر جاحدها ويقاتل عليها.. بل يكفر تاركها عند جمهور السلف بمجرد الترك) اهـ( ).
وقد ذكر شيخ الإسلام أقوالهم حول ذلك في مواضع كثيرة من فتاويه انظر (7/302) حيث قال: (وعن أحمد في ذلك نزاع، وإحدى الروايات عنه أنه يكفر بترك واحدة منها - وهو اختيار أبي بكر وطائفة من أصحاب مالك كابن حبيب.
وعنه رواية ثانية: لا يكفر إلا بترك الصلاة والزكاة فقط.
ورواية ثالثة: لا يكفر إلا بترك الصلاة، والزكاة إذا قاتل عليها الإمام.
ورابعة: لا يكفر إلا بترك الصلاة( ).
وخامسة: لا يكفر بترك شيء منهن.. وهذه أقوال معروفة للسلف) اهـ.
وكذا ص(7/259) وفيه قوله: (وكذلك عنه رواية أنه يكفر بترك الصيام والحج، إذا عزم أنه لا يحج أبداً) اهـ.
ونقل عن الحكم بن عتبة (7/302) قوله: (من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر، ومن ترك الزكاة متعمداً فقد كفر. ومن ترك الحج متعمداً فقد كفر ومن ترك صوم رمضان متعمداً فقد كفر) وعن سعيد بن جبير: (من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر بالله، ومن ترك الزكاة متعمداً فقد كفر بالله، ومن ترك صوم رمضان متعمداً فقد كفر بالله) اهـ.
ونقل عن محمد بن نصر المروزي (333/7): (فمن كان ظاهره أعمال الإسلام ولا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب فهو منافق نفاقاً ينقل عن الملة. ومن كان عقده الإيمان بالغيب ولا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام فهو كافر كفراً لا يثبت معه توحيد).
ويقول عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل في كتاب السنة (1/347): حدثنا سويد ابن سعيد الهروي قال: سألنا سفيان بن عيينة عن الإرجاء.
فقال: (يقولون الإيمان قول، ونحن نقول الإيمان قول وعمل، والمرجئة أوجبوا الجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله مصرّا بقلبه على ترك الفرائض وسموا ترك الفرائض ذنباً بمنزلة ركوب المحارم، وليسوا بسواء. لأن ركوب المحارم من غير استحلال معصية، وترك الفرائض متعمداً من غير جهل ولا عذر هو كفر.
وبيان ذلك في أمر آدم صلوات الله عليه وإبليس وعلماء اليهود.
- أما آدم، فنهاه الله عز وجل عن أكل الشجرة وحرمها عليه فأكل منها متعمداً ليكون مَلكاً أو يكون من الخالدين فسمي عاصياً من غير كفر.
- وأما إبليس لعنه الله فإنه فرض عليه سجدة واحدة فجحدها متعمداً فسمي كافراً.
- وأما علماء اليهود فعرفوا نعت النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي رسول كما يعرفون أبناءهم وأقروا به باللسان ولم يتبعوا شريعته فسماهم الله عز وجل كفاراً.
فركوب المحارم مثل ذنب آدم عليه السلام وغيره من الأنبياء.
وأمّا ترك الفرائض جحوداً فهو كفر مثل كفر إبليس لعنة الله.
وتركهم على معرفة من غير جحود فهو كفر مثل كفر علماء اليهود والله أعلم) اهـ.
أقول: فإذا كانت هذه أقوالهم حول ترك الفرائض والمباني التي هي من شعب الإيمان.. فكيف بترك بل بهدم أعظم الفرائض وأولها ورأسها وأصلها. ألا وهو الكفر بالطاغوت وتوحيد الله بكافة أنواع العبادة، ونعني من ذلك ها هنا (الطاعة في التشريع)..؟؟



يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حامل المسك1
المدير العام
المدير العام
حامل المسك1


إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي 190070434
عدد المساهمات : 226
نقاط : 421
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 03/04/2011
الموقع : بلاد الرافدين

إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي Empty
مُساهمةموضوع: رد: إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي   إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي I_icon_minitimeالإثنين أبريل 11, 2011 6:17 am

شبهة
أن هؤلاء الطواغيت وعبيدهم يقولون (لا إله إلا الله)
وللقوم ها هنا شبهة أخرى متعلقة بما قبلها، قد ورثوها عن أشياخهم المرجئة الأوائل، وهو احتجاجهم ببعض العمومات التي جاءت في أخبار ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، في أن من قال: (لا إله إلا الله) دخل الجنة، أو حرم ماله ودمه وكحديث أسامة بن زيد (أقتلته بعد أن قالها..) (وحديث البطاقة) ونحو ذلك..
والحق أن من له اطلاع على كتب أهل العلم، يعرف أنهم قد أشبعوا هذه المسائل رداً وبياناً.. ولا مانع استكمالاً للموضوع أن أتخير لطالب الحق نبذاً من مقالاتهم في هذا الباب، خصوصاً وأني قد وجدت وللأسف الشديد من بعض من يكفر بالطواغيت ويتبرأ منهم ولا يجادل عنهم؛ خلطاً وتخبّطاً فيها، ولا أحسب هذا إلا تأثراً وتضرراً بمن خالفهم ومشاغباته، من رمي بالتكفير واتهام بسلوك منهج الخوارج ونحوه من ألوان الإرهاب الفكري، والصّدّ والتشويه، التي يمارسها أهل التجهم والإرجاء ممن يتمسحون بطريقة السلف ومنهاجهم زوراً وبهتاناً، لأجل الدفاع عن الطواغيت وحكوماتهم وبرلماناتهم الكفرية..
أما الكلام على هذه الشبهة وإبطالها فهو عند أهل العلم من وجوه عدة.. من اهمها أن يتذكر الموحد أن الشرائع أنزلت بالتدريج، وهذا أمر معلوم لكل أحد..
يقول الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الإيمان بعد أن ذكر قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً} [النساء: 59]، وقال: وأَنّا رددنا الأمر إلى ما ابتعث الله عليه رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزل به كتابه، فوجدناه قد جعل بدء الإيمان شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة عشر سنين أو بضع عشر سنة يدعو إلى هذه الشهادة خاصة، وليس الإيمان المفترض على العباد يومئذ سواها، فمن أجاب إليها كان مؤمنا لا يلزمه اسم في الدين غيره، وليس يجب عليهم زكاة ولا صيام ولا غير ذلك من شرائع الدين.. فجعل الإقرار بالألسن وحدها هو الإيمان المفترض على الناس يومئذ، فكانوا على ذلك إقامتهم بمكة كلها، وبضعة عشر شهراً بالمدينة بعد الهجرة( ) فلما أثـاب الناس إلى الإسلام وحسنت فيه رغبتهم زادهم الله في إيمانهم أن صرف الصلاة إلى الكعبة بعد أن كانت إلى بيت المقدس.. ثم خاطبهم وهم بالمدينة باسم الإيمان المتقدم لهم، في كل ما أمرهم به أو نهاهم عنه. وإنما سماهم بهذا الاسم بالإقرار وحده، إذ لم يكن هناك فرض غيره، فلما نزلت الشرائع بعد هذا وجبت عليهم وجوب الأول سواء. لا فرق بينهما، لأنهما جميعاً من عند الله وبأمره وبإيجابه، فلو أنهم عند تحول القبلة إلى الكعبة أبوا أن يصلوا إليها، وتمسكوا بذلك الإيمان الذي لزمهم اسمه والقبلة التي كانوا عليها، لم يكن ذلك مغنياً عنهم شيئاً، ولكان فيه نقض لإقرارهم.. فلما أجابوا الله ورسوله إلى قبول الصلاة كإجابتهم إلى الإقرار، صارا جميعاً معاً هما يومئذ الإيمان.. فلبثوا بذلك برهة من دهرهم، فلما أن داروا إلى الصلاة مسارعة، وانشرحت لها صدورهم، أنزل الله فرض الزكاة في إيمانهم إلى ما قبلها، فلو أنهم ممتنعون من الزكاة عند الإقرار وأعطوه ذلك بالألسنة. وأقاموا الصلاة غير أنهم ممتنعون من الزكاة كان ذلك مزيلاً لما قبله، وناقضاً للإقرار والصلاة.. والمصدق لهذا جهاد أبي بكر الصديق رحمة الله عليه بالمهاجرين والأنصار على منع العرب الزكاة كجهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك سواء لا فرق بينهما في سفك الدماء وسبي الذرية واغتنام المال. فإنما كانوا مانعين لها غير جاحدين بها، ثم كذلك كان شرائع الإسلام كلها، كلما نزلت شريعة صارت مضافة إلى ما قبلها لاحقة به ويشملها جميعاً اسم الإيمان، فيقال لأهله مؤمنون. وهذا هو الموضع الذي غلط فيه من ذهب أن الإيمان بالقول..
كما غلطوا في تأويل حديث النبي صلى الله عليه وسلم.. حين سأله الذي عليه رقبة مؤمنة عن عتق العجمية. فأمر بعتقها وسماها مؤمنة، إنما هذا على ما أعلمتك من دخولهم في الإيمان ومن قبولهم وتصديقهم بما نزل منه، وإنما كان ينزل متفرقاً كنزول القرآن" اهـ مختصراً( ).
وعلى هذا فإنّ من دخل الإسلام بعد أن أكمل الله لنا الدين، وأقر بـ(لا إله إلا الله) فبرئ من كل شرك وطاغوت، فإن دمه وماله يعصم بذلك، ثم يؤمر بشرائع الإسلام الواجبة على كل مسلم (المباني) فإن عمل بها والتزمها، واجتنب نواقض (لا إله إلا الله) استمرت تلك العصمة التي دخلها بمجرد الإقرار والالتزام لكلمة التوحيد، وإن وقع بناقض من النواقض أو امتنع عن شيء من شروط (لا إله إلا الله) ومبانيها، انقطعت العصمة، على التفصيل في الخلاف المعروف في تلك المباني.. ومع مراعاة شروط التكفير وموانعه.
ويفهم هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: (فإن هم أجابوك إليها) أي كلمة التوحيد المستلزمة للتبرّي من دينهم الباطل – (فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات..) الحديث.
ولذلك فلو مات من أقر بكلمة التوحيد وبرئ من الشرك وأهله بعد إقراره مباشرة، ولم يقم بأي عمل من أعمال الإسلام المفروضة، لعدم وجوبها عليه، كأن يسلم وقت الضحى ويموت قبل دخول وقت الظهر، فإنه يموت مسلماً مؤمناً قد قام بالإيمان الواجب عليه.
وهذا مثل ذلك الرجل الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة( ) فقال: يا رسول الله أقاتل أو أسلم؟ قال (أسلم ثم قاتل). فأسلم ثم قاتل فقتل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عَمِلَ قليلاً وأُجِرَ كثيراً" فهو لم يعمل بعد دخوله في الإسلام، إلا ما وجب عليه في ذلك الوقت وهو نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات دون أن يركع لله ركعة.. وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوي (11/519): (فالرجل إذا آمن بالرسول إيماناً جازماً، ومات قبل دخول وقت الصلاة أو وجوب شيء من الأعمال، مات كامل الإيمان الذي وجب عليه، فإذا دخل وقت الصلاة فعليه أن يصلي، وصار يجب عليه ما لم يجب عليه قبل ذلك) اهـ.
ويقول (7/518): (إن الله لما بعث محمداً رسولاً إلى الخلق، كان الواجب على الخلق تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، ولم يأمرهم حينئذ بالصلوات الخمس، ولا صيام شهر رمضان.. ولا حج البيت، ولا حرم عليهم الخمر والربا، ونحو ذلك، ولا كان أكثر القرآن قد نزل فمن صدقه حينئذ فيما نزل من القرآن وأقر بما أمر به من الشهادتين وتوابع ذلك، كان ذلك الشخص حينئذ مؤمناً تام الإيمان الذي وجب عليه، وإن كان مثل ذلك الإيمان لو أتى به بعد الهجرة لم يقبل منه، ولو اقتصر عليه كان كافراً. قال تعالى عام حجة الوداع: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} [المائدة: 3] اهـ.
فالأمر بعد اكتمال الشريعة كما روى البخاري عن وهب بن منبه أنه قيل له: (أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله)؟ قال: (بلى ولكن ليس مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح).
فـ"لا إله إلا الله" لها لوازم ومقتضيات ونواقض ومبطلات.. فإن أتى بلوازمها واجتنب نواقضها استمرت العصمة التي دخلها بمجرد الإقرار، وإن أتى بناقض اتقطعت ولم تنفعه الكلمة المجردة بعد ذلك.
* وبهذا وأمثاله تفهم معنى إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة لما قتل رجلاً بعد أن نطق بكلمة التوحيد، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله).. فتلفظه بها إظهار للدخول في الإسلام، فيعامل بها وبما تستلزمه من عصمة، حتى يصدر منه ناقض يقطع تلك العصمة، وإنما أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة قطعه بأنه قالها تقية مخافة السيف، وما يدريه لعله صادق سيجتنب نواقضها ويلتزم مقتضياتها وحقوقها بعد ذلك.. فـ"لا إله إلا الله" مفتاح الدخول إلى الإسلام، يعصم بها دم الداخل ابتداء ثم لا يدوم إسلامه ولا تستمر عصمته بعد ذلك، إلا بالتزام شروط ذلك المفتاح واجتناب نواقضه.. إذ الدخول في الإسلام شيء، ودوام صحته بعد ذلك واستمرارها وعدم انتقاضه شيء آخر..
يقول الحافظ في الفتح (279/12) عند الكلام على حديث: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) باب (قتل من أبى قبول الفرائض) من كتاب استتابة المرتدين: (وفيه منع قتل من قال لا إله إلا الله ولو لم يزد عليها وهو كذلك، لكن هل يصير بمجرد ذلك مسلماً؟ الراجح لا( )، بل يجب الكف عن قتله حتى يختبر فإن شهد بالرسالة، والتزم أحكام الإسلام حكم بإسلامه، وإلى ذلك الإشارة بالاستثناء بقوله: (إلا بحق الإسلام).
ثم نقل عن البغوي قوله: (الكافر إذا كان وثنياً أو ثنوياً لا يقر بالوحدانية، فإذا قال لا إله إلا الله حكم بإسلامه ثم يجبر على قبول جميع أحكام الإسلام ويبرأ من كل دين خالف دين الإسلام.. إلى آخر كلامه..) اهـ.
وذكر النووي في شرح هذا الحديث عن القاضي عياض قوله: (اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال: لا إله إلا الله تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد بهذا مشركوا العرب وأهل الأوثان ومن لا يوحد، وهم كانوا أول من دعي إلى الإسلام وقوتل عليه.
فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفي في عصمته بقوله: (لا إله إلا الله) إذا كان يقولها في كفره وهي من اعتقاده فلذلك في الحديث الآخر: (وأني رسول الله ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة).
ثم قال النووي: (ولا بد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الرواية الأخرى لأبي هريرة.. (حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنون بي وبما جئت به) والله أعلم) اهـ شرح مسلم.
وحكى الشوكاني في نيل الأوطار (1/367): (إجماع المسلمين على أن هذه الأحاديث مقيدة بعدم المانع، ولهذا أوّلها السلف، فحكى عن جماعة منهم ابن المسيب أن هذا كان قبل نزول الفرائض والأمر والنهي. وحكى النووي عن بعضهم أنه قال هي مجملة تحتاج إلى شرح، ومعناه من قال الكلمة وأدى حقها وفريضتها، قال: وهذا قول الحسن البصري، وقال البخاري أن ذلك لمن قالها عند الندم والتوبة ومات على ذلك ذكره في كتاب اللباس..) اهـ.
ويقول في رسالة (إرشاد السائل إلى دلالة المسائل) ( )، (السؤال الثاني: حاصله، ما حُكم الأعراب سكان البادية الذين لا يفعلون شيئاً من الشرعيات إلا مجرد التكلم بالشهادة هل هم كفار أم لا وهل على المسلمين غزوهم أم لا) قال رحمه الله: - (من كان تاركاً لأركان الإسلام وجميع فرائضه ورافضاً لما يجب عليه من ذلك من الأقوال والأفعال ولم يكن لديه إلا مجرد التكلم بالشهادتين، فلا شك ولا ريب أن هذا كافر شديد الكفر حلال الدم، وصيانة الأموال إنما تكون بالقيام بأركان الإسلام) اهـ.
ويقول الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان آل معمر في رسالته (الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب) ص(67): (قال علماؤنا رحمهم الله إذا قال الكافر لا إله إلا الله فقد شرع في العاصم لدمه فيجب الكف عنه فإن تمم ذلك تحققت العصمة وإلا بطلت، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قال كل حديث في وقت، فقال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: "لا إله إلا الله") ليعلم المسلمون أن الكافر المحارب إذا قالها كف عنه وصار دمه وماله معصوماً، ثم بين صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر أن القتال ممدود إلى الشهادتين والعبادتين. فقال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) فبين أن تمام العصمة وكمالها إنما يحصل بذلك، ولئلا تقع الشبهة بأن مجرد الإقرار يعصم على الدوام) اهـ.
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في (كشف الشبهات): (ولهم شبهة أخرى، يقولون: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة قتل من قال: لا إله إلا الله، قال: (أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟!) وكذلك قوله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: (لا إله إلا الله؟) وأحاديث أخرى في الكف عمن قالها. ومراد هؤلاء الجهلة أن من قالها لا يكفر، ولا يقتل، ولو فعل ما فعل..
فأما حديث أسامة فإنه قتل رجلاً ادعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادعاه إلا خوفاً على دمه وماله. والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين ما يخالف ذلك. وأنزل الله في ذلك: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا} [النساء: 94]، أي: فتثبتوا، فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه، والتثبت، فإن تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل، لقوله: {فتبينوا} ولو كان لا يقتل إذا قالها، لم يكن للتثبت معنى. وكذلك الحديث الآخر وأمثاله، معناه ما ذكرناه أن من أظهر الإسلام والتوحيد وجب الكف عنه، إلا إن تبين منه ما يناقض ذلك) اهـ مختصراً ص(24).
وقال ص(20): (ويقال أيضاً هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة، وقد أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ويؤذنون ويصلون. فإن قال: إنهم يقولون: إن مسيلمة نبي. قلنا: هذا هو المطلوب. إذا كان من رفع رجلاً إلى رتبة النبي صلى الله عليه وسلم كفر وحل ماله ودمه ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة، فكيف بمن رفع شمسان أو يوسف( ) أو صحابياً أو نبياً في رتبة جبار السموات والأرض، سبحان الله ما أعظم شأنه: {كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون} [الروم: 59]) اهـ.
ونحن نقول بدورنا.. لمرجئة زماننا: إذا كان من رفع رجلاً إلى رتبة النبي صلى الله عليه وسلم كفر وحل ماله ودمه لم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة، فكيف بمن رفع (جابراً أو حسناً أو حسيناً أو حسنياً) أو غيرهم من الأمراء والرؤساء والملوك، أو نائباً في البرلمان، في رتبة جبار السموات والأرض فجعل له حق التشريع المطلق الذي لا يكون إلا لله تعالى.. وكيف بمن رفع الدستور والقانون في رتبة كتاب الله في الحكم والقضاء والتشريع بين العباد بل جعله مهيمناً عليه وحاكماً عليه فلا اعتبار لآية من آياته أو حكماً من أحكامه ما لم توافق الدستور ويصدق عليها الأمير( ). سبحان الله وتعالى عما يصفون: {كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون} [الروم: 59].
ثم قال رحمه الله: (ويقال أيضاً: بنو عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمن بني العباس، كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويدّعون الإسلام، ويصلون الجمعة والجماعة فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه، أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب، وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين) اهـ.
ويقول أيضاً في مختصر السيرة في شأن التتار: (وذلك أنهم بعدما فعلوا بالمسلمين ما فعلوا، وسكنوا بلاد المسلمين وعرفوا دين الإسلام: استحسنوه وأسلموا، لكن لم يعملوا بما يجب عليهم من شرائعه، وأظهروا أشياء من الخروج عن الشريعة ولكنهم كانوا يتلفظون بالشهادتين، ويصلون الصلوات الخمس والجمعة والجماعة.. ومع هذا كفّرهم العلماء، وقاتلوهم وغزوهم، حتى أزالهم الله عن بلدان المسلمين. وفيما ذكرنا كفاية لمن هداه الله. وأما من أراد فتنته: فلو تناطحت الجبال بين يديه لم ينفعه ذلك) اهـ مختصراً.
ويقول حفيده الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في كتابه (مصباح الظلام): (وجميع - هذه الاعتراضات - بناء على معتقد باطل، وهو أن من تفوه بالشهادتين لا يضره ذنب، ولا يخل بإيمانه ولا ينقض إسلامه شرك ولا تجهم.. ولا غير ذلك من المكفرات.. حتى المباني لا تعتبر عند هؤلاء الضلال.. ومعرفة هذا القول وتصوره يكفي في بطلانه عند من عرف الإسلام) اهـ ص(114) مختصراً.
ويقول أيضاً في الدرر السنية: (وأهل العلم والإيمان لا يختلفون في أن من صدر منه قول أو فعل يقتضي كفره أو شركه أو فسقه أنه يحكم عليه بمقتضى ذلك، وإن كان ممن يقر بالشهادتين ويأتي ببعض الأركان، وإنما يكف عن الكافر الأصلي إذا أتى بهما، ولم يتبين منه خلافها ومناقضتها، وهذا لا يخفى على صغار الطلبة) اهـ( ).
قلت: ومع هذا يجادل فيه شيوخ مرجئة زماننا وكبار رؤوسهم، فضلاً عن مقلدتهم ورعاعهم.. وهذا ما جعل من أكثرهم جنداً محضرين للطواغيت، وأنصاراً متطوعين يجادلون عنهم ويذودون، ويدفعون في صدر نصوص الكتاب والسنة بشبهاتهم الساقطة، وبأقوالهم الضالة المتهافتة التي لا تروج على من عرف التوحيد وحقيقته.
وهكذا فإن النصوص التي ذكر فيها تعلق العصمة ودخول الجنة بقول لا إله إلا الله، جاءت أحياناً مطلقة، وأحياناً أخرى مقيدة باليقين أو الإخلاص أو العلم. وأحياناً ربطت معها حقوقها من الصلاة والزكاة وهكذا( ).
وجميعها نصوص تتكلم في حكم وسبب واحد، فيحمل المطلق فيها على المقيد كما هي طريقة أهل العلم.. وهؤلاء المرجئة كغيرهم من فرق الضلالة، همج رعاع لا يأخذون من العلم إلا ما وافق أهواءهم، فينطلقون إلى تلك النصوص المطلقة، فيبنون عليها مذاهبهم الفاسدة وشبهاتهم الساقطة التي عرفت، ويكتمون مقيداتها. وهذه في الحقيقة ليست مخالفة لطريقة أهل العلم وحسب، بل هي بلا شك من التلاعب في دين الله وافتراء الكذب على الله سبحانه، إذ هو تحريف للكلم عن مواضعه، وتعد لحدود الله التي حدها ووضع كلامه عليها، وتدليس وتلبيس.. {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون} [النحل: 116].
وكذلك يفعلون بالنصوص التي تروى عن الأئمة، فيقطعون كلامهم( )، أو يأخذون منها ما يوافق أهواءهم، ونحن وإن كنا نعتقد بأنه لا حجة في الدين بغير كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، إلا أنه من الإنصاف أن لا يحمّل كلام أحد ما لا يحتمله، وأن يحمل المطلق من عباراتهم على المقيد منها في المسألة الواحدة، لا كما يفعله هؤلاء الضُلاّل من ذكر ما يوافق مذاهبهم الفاسدة وطرح ما لا يوافقها أو التكتم عليه.. وهذا مناقض للأمانة. وليس هو من طريقة السلف وأهل الحديث، بل هذا منهج أهل الأهواء الذين من أخبثهم المرجئة.. فأهل الأهواء يروون ما لهم فقط، وأما أهل الحديث فيروون ما لهم وما عليهم..
ومن أمثلة هذا مما قد يتعلق به هؤلاء في موضعنا هذا مما ينسب للإمام أحمد أنه اتبع الزهري في قوله: (كانوا يرون الإسلام الكلمة، والإيمان العمل) ليحكموا بالإسلام على من اكتفى بالشهادتين وإن لم يلتزم الأعمال والفرائض دهره.. ثم يخلصون منه إلى إسلام من تلفظ بهما وإن جاء بقراب الدنيا من النواقض.. ليصلوا في النهاية إلى الترقيع لطواغيتهم والحكم بإسلامهم، وما يلزم من ذلك من موالاة وعصم للدماء والأموال، فيساهمون بهدم الدين وطمس أوثق عراه ومحو آثاره ومعالمه الأصيلة.. شعروا أو من حيث لا يشعرون.
فيقال لهم: على رسلكم.. فما هكذا تورد الإبل.. وفيما قدمناه الكفاية في إبطال هذا، ولكن الكلام ها هنا على عبارة الإمام أحمد.. مع أن الحجة كما قلنا ليست في كلام أحمد ولا غيره وإنما الحجة قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد تكلم شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (7/258) على هذه العبارة فقال: (وهذا على وجهين، فإنه قد يراد به الكلمة بتوابعها من الأعمال الظاهرة، وهذا هو الإسلام الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت)، وقد يراد به الكلمة فقط من غير فعل الواجبات الظاهرة، وليس هذا هو الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام. لكن قد يقال: إسلام الأعراب كان من هذا، فيقال: الأعراب وغيرهم كانوا إذا أسلموا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ألزموا بالأعمال الظاهرة: الصلاة والزكاة والصيام والحج، ولم يكن أحد يترك بمجرد الكلمة. بل كان من أظهر المعصية يعاقب عليها.
وأحمد إن كان أراد في هذه الرواية أن الإسلام هو الشهادتين فقط، فكل من قالها فهو مسلم، فهذه إحدى الروايات عنه. والرواية الأخرى: لا يكون مسلماً حتى يأتي بها ويصلي، فإذا لم يصل كان كافراً. والثالثة: أنه كافر بترك الزكاة أيضاً. والرابعة: أنه يكفر بترك الزكاة إذا قاتل الإمام عليها دون ما إذا لم يقاتله. وعنه أنه لو قال: أنا أؤديها ولا أدفعها إلى الإمام لم يكن للإمام أن يقتله، وكذلك عنه رواية أنه يكفر بترك الصيام والحج إذا عزم أنه لا يحج أبداً.
ومعلوم أنه على القول بكفر تارك المباني يمتنع أن يكون الإسلام مجرد الكلمة، بل المراد أنه إذا أتى بالكلمة دخل في الإسلام") اهـ.
وقد عرفت فيما تقدم الفرق بين الدخول في الإسلام وابتداء العصمة والموت بعد ذلك مباشرة، وبين ما يلزم لدوام صحة الإسلام واستمرار العصمة.
ومما تقدم يظهر لك أيضاً بطلان احتجاجهم لطواغيتهم وعبيدهم، بحديث "البطاقة" وبحديث (أخرجوا - من النار - من كان في قلبه حبة خردل من إيمان) وكذا حديث (الجهنميين الذين يخرجهم الله عز وجل من النار دون أن يعملوا خيراً قط) ونحوها. فقد عرفت أن طريقة أهل العلم في ذلك ربط الأحاديث ببعضها، والجمع بين الأخبار ما أمكن إلى ذلك سبيلاً، ودفع ما يتوهم من تعارضها بحمل المطلق على المقيد والعام على الخاص، والمتشابه على المحكم، وهكذا..
وأن الفرح بشيء من ذلك وحده والانطلاق به وبناء القواعد والجبال عليه وحده، دون فهمه بربطه مع غيره هي طريقة أهل الأهواء - ومنهم القوم الذين نحن بصددهم أعني المرجئة - حيث يطيرون بهذه الأحاديث كل مطير.
يقول الشيخ حمد بن ناصر بن معمر في الدرر السنية: (إن القرآن فيه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات، فيرد المتشابه إلى المحكم، ولا يضرب كتاب الله بعضه ببعض( )، وكذلك السنة: فيها محكم ومتشابه فيرد متشابهها إلى المحكم، ولا يضرب بعضها ببعض، فكلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يتناقض بل يصدق بعضه بعضاً، والسنة توافق القرآن ولا تناقضه، وهذا أصل عظيم يجب مراعاته، ومن أهمله فقد وقع في أمر عظيم وهو لا يدري) اهـ من جزء مختصرات الردود.
وقد فصل الشاطبي رحمه الله تعالى ذلك قبله أحسن تفصيل فقال: (إن ذوي الاجتهاد لا يقتصرون على التمسك بالعام حتى يبحثون في مخصصه وعلى المطلق هل له مقيّد أم لا؟
فالعام مع خاصه هو الدليل، فإن فقد الخاص، صار العام - مع إرادة الخصوص فيه - من قبيل المتشابه، وصار ارتفاعه - أي الخاص - زيفاً وانحرافاً عن الصواب.
ولأجل ذلك عدت المعتزلة من أهل الزيغ حيث اتبعوا نحو قوله تعالى: {اعملوا ما شئتم} [فصلت: 40] وتركوا مبينه..
وكذلك الخوارج حيث اتبعوا قوله تعالى: {إن الحكم إلا لله} [يوسف: 40] وتركوا مبينه: {يحكم به ذوا عدل منكم}، وقوله: {فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها}.
واتبع الجبرية قوله: {والله خلقكم وما تعملون} [الصافات: 96]، وتركوا بيانه، وهو قوله: {جزاء بما كانوا يكسبون} [التوبة: 82].
وهكذا سائر من اتبع هذه الأطراف من غير نظر فيما وراءها، ولو جمعوا بين ذلك ووصلوا ما أمر الله به أن يوصل، لوصلوا إلى المقصود. فإذا ثبت هذا فالبيان مقترن بالمبين، فإذا أخذ المبين من غير بيان صار متشابهاً، وليس المتشابه في نفسه، بل الزائغون أدخلوا فيه التشابه على أنفسهم فضلوا عن الصراط المستقيم) اهـ مختصراً.
قلت: وكذلك أفراخ المرجئة، يتّبعون أمثال تلك الأخبار، ويتمسكون بها ليرقعوا بها دين أهل الشرك والضلال من طواغيت الحكام وعبيدهم وأنصارهم وأشياعهم، ويتركون مبيّنها مما تقدم من أن المراد تحقيق التوحيد والبراءة من الشرك والتنديد، والموت على ذلك، بل والإتيان من الأعمال بما لا يصير المرء مسلماً إلا به.
فيكون المراد بالسجلات التي وضعت في الكفة المقابلة للبطاقة صغائر الذنوب وكبائرها مما لا ينقض التوحيد.. والمراد بالبطاقة تحقيق التوحيد والكفر والبراءة مما يعبد من دون الله لزاماً..
وكذلك الشأن فيمن قيل فيهم لم يعملوا خيراً قط، أي فوق مقتضيات التوحيد المنجية من الخلود في النار..
وكذا حديث: (أخرجوا - أي من النار - من كان في قلبه حبة خردل من إيمان) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/73): والمراد بحبة الخردل هنا ما زاد من الأعمال على أصل التوحيد. لقوله في الرواية الأخرى: (أخرجوا من قال لا إله إلا الله وعملوا من الخير ما يزن ذرة) اهـ.
ثم نحن نوجه إلى مرجئة العصر هؤلاء سؤالاً واضحاً لا نرضى عنه حيدة ولا محيصاً.. هؤلاء الذين احتججتم بهم في هذه الأحاديث لإنقاذ طواغيتكم من الكفر، هل يقولون لا إله إلا الله وينكرون بعثة محمد صلى الله عليه وسلم؟؟
أو يقولون: لا إله إلا الله وأن مسيلمة رسول الله؟؟
أو يقولون: لا إله إلا الله وأحمد غلام ميرزا رسول الله؟؟
أو يقولون: لا إله إلا الله وأن الله هو علي بن أبي طالب أو المسيح أو غيره من الخلق؟؟ ومع هذا خرجوا من النار وكان مصيرهم مصير الموحدين؟؟
فإن قالوا بذلك فقد أشهدوا الثقلين على فساد عقولهم وتجرئهم على دين الله بل وعلى كفرهم وزندقتهم وإلحادهم في دين الله.
وإن نفوه..
سألناهم أبدليل من تلك الأحاديث ذاتها، نفيتم ذلك أم بدليل غيره؟؟ فإن قالوا: من ذات الأحاديث، كذبوا وطالبناهم به ولن يستطيعوه.. وإن قالوا: من خارج الأحاديث.. لزمهم ولزم كل أحد أنّ أمثال هذه الأحاديث لا تفهم بمجردها، وإنما بمجموع النصوص المبينة لها..
* وبمثل هذا يلزمون إن احتجوا بحديث حذيفة الذي أخرجه الحاكم وابن ماجه: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب ويسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا تبقى من الأرض منه آية ويبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والمرأة العجوز يقولون: "لا إله إلا الله" أدركنا آباءنا على هذه الكلمة فنحن نقولها وهم لا يدرون ما صلاة ولا صدقة ولا نسك، فقال صلة بن زفر لحذيفة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك؟ فأعرض عنه حذيفة ثلاثاً، ثم قال: يا صلة تنجيهم من النار.
والحديث قد صححه الألباني مع أن في إسناده أبا معاوية محمد بن خازم التميمي السعدي الكوفي الضرير وهو مدلس مضطرب الحديث، لا تقوم بحديثه حجة في غير الأعمش كما ذكر الأئمة. وهو ها هنا قد رواه من غير طريق الأعمش وقد عنعن أيضاً، أضف إلى هذا أنه كان يرى الإرجاء! ( ).
وعلى كل حال.. فبفرض صحة الحديث، فإن القوم كما قلنا يُلزمون بما قدمناه من ضرورة فهمه على ضوء غيره من الأحاديث المبينة.. فيحمل قوله: (يقولون لا إله إلا الله) أي: يحققون التوحيد ويجتنبون الشرك والتنديد، وليس التلفظ بالكلمة مجردة..
ثم هؤلاء لم يبلغهم القرآن ولا شيء من شرائع الدين، فعلى فرض وقوع مثل ذلك بعد ختم الرسالة، وقد حققوا التوحيد فقد أتوا بالإيمان الواجب عليهم وعلى أمثالهم، لأن الإنذار إنما يكون بكتاب الله تعالى: {وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} [الأنعام: 19]، وهؤلاء لم يبلغهم كتاب الله، فتحقق أن جهلهم بشرائع الدين ومبانيه الواجبة لم يحصل عن تقصير في طلب الحق أو إعراض، وإنما لرفع الكتاب وهو أمر قهري خارج عن إرادتهم، فيعذرون بتفاصيل تلك الشرائع التي لا تعرف إلا عن طريق الوحي ما داموا قد حققوا الحنيفية التي فطر الله الناس عليها( ).
وحالهم قريب من حال من حقق التوحيد قبل البعثة، كزيد بن عمرو بن نفيل فإنه من القوم الذين قال الله تعالى فيهم: {لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون} [يس: 6]، وقال: {لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك} [القصص: 46] فما بلغته من تفاصيل الصلاة والصيام ولا الزكاة المفروضة علينا ولا أتى بشيء منها.
ومع هذا عذر فيها لأنه حقق أصل الإيمان الواجب في حقه وحق كل أحد كاملاً ألا وهو الحنيفية، اجتناب الشرك وتحقيق أصل التوحيد.. فكان على ملة إبراهيم.. فأخبر النبي  أنه يبعث أمة وحده يوم القيامة..
بل حالهم كحال من آمن بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ومات بمكة قبل نزول الشرائع فقد أتى هؤلاء بالإيمان الواجب عليهم آنذاك، ما داموا قد حققوا التوحيد واجتنبوا الشرك والتنديد وشهدوا برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم..
وهذا الجواب كله إنما يكون بعد إثبات صحة الحديث، وصحة كون زيادة "يا صلة تنجيهم من النار" مرفوعة لا مدرجة من قول حذيفة رضي الله عنه..
والحاصل مما تقدم كله أن يتيقن الموحد من أن "تحقيق التوحيد والبراءة مما يضاده من كل شرك مخرج من الملة وتنديد" أصل الدين وقاعدته، وقوام دعوة الرسل وقطب رحاها.. وأن جميع الشرائع جاءت لحفظه وتحقيقه وصيانته، وأن هذا أمر محكم لا يتطرق إليه التشابه بحال..
فالواجب مع كل خبر يشتبه على أحد من الناس أو يتوهمه المتوهمون معارضاً لهذا الأصل المحكم، أن يدرج تحته ويحمل عليه، لأنه هو (أم الكتاب وأصله) لا أن يصادم به ويعارض، فضلاً عن أن يسعى لهدمه بتلك الأخبار كما يفعله مرجئة العصر لأجل سواد عيون طواغيتهم.. {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذّكّر إلا أولوا الألباب} [آل عمران: 7].
نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياك من الراسخين في العلم..
يقول الشاطبي في الاعتصام: (لا يمكن أن تعارض الفروع الجزئية الأصول الكلية، لأن الفروع الجزئية إن لم تقتض عملاً فهي في محل التوقف، وإن اقتضت عملاً فالرجوع إلى الأصول هو الصراط المستقيم، فمن عكس الأمر حاول شططاً ودخل في حكم الذم) اهـ.
وفي هذا القدر الكفاية لطالب الحق في هذا الباب.
وأما من يرد الله فتنته، فلن تملك له من الله شيئاً.



يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حامل المسك1
المدير العام
المدير العام
حامل المسك1


إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي 190070434
عدد المساهمات : 226
نقاط : 421
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 03/04/2011
الموقع : بلاد الرافدين

إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي Empty
مُساهمةموضوع: رد: إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي   إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي I_icon_minitimeالإثنين أبريل 11, 2011 6:20 am

شبهة
أن الطواغيت وعبيدهم (يصلّون)
ومما تقدم يظهر لك بطلان شبهة أخرى من شبهاتهم، ألا وهي احتجاجهم بأن بعض هؤلاء الطواغيت وعبيدهم (يصلون).. ويذكرون نصوصاً تذكر فيها الصلاة كعاصم للدم، فيظنون أنها وحدها العاصم، وأن كل من صلى كان مسلماً معصوم الدم والمال وإن اقترف من نواقض الإسلام ما اقترف. أليس يصلي؟؟
وقد علمت أن مثل هذه النصوص تجمع مع مبيناتها من النصوص الأخرى فيحملها السلف على المصلين الملتزمين للتوحيد المجتنبين للشرك والتنديد وغيره من نواقض الإسلام ولو ظاهراً..
ولم يفهم أحد من السلف أن أمثال هؤلاء الذين قيلت فيهم تلك الأحاديث، كانوا مسلمين معصومين بالصلاة وحدها، مع تحاكمهم للطاغوت ونصرته واتباعه مثلاً.. أو مع الطعن في دين الله، أو الاستهزاء بشرائعه.. ونحوه من النواقض.. وقد تقدم قول الله تعالى: {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة: 66]، فإنها نزلت في أناس مظهرين للإسلام والصلاة بل والجهاد - فقد كانوا خارجين مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك - فكفّرهم الله رغم ذلك كله لما أتوا بناقض من نواقض الإسلام.. وقد قدمنا لك من أمثال هذا كثير مما يدل على بطلان هذا الفهم السقيم.. وأكثر هؤلاء الذين يسيئون فهم هذه النصوص أو يلوون أعناقها، تجدهم يكفرون تارك الصلاة ويحكمون عليه بحكم المرتد فيبطلون نكاحه ويبينون عنه زوجته المسلمة ويمنعون إرثه من أهله المسلمين ونحو ذلك من لوازم الردة.. ويترددون في الوقت نفسه في تكفير طواغيت المشرعين وعبيدهم، مع أن سلب الإسلام والإيمان عن تارك الكفر بالطاغوت، أولى من سلبه عن تارك الصلاة.. لأن الكفر بالطاغوت فرض يوم أن فرض، ولم يكن ثم صلاة ولا زكاة ولا غيرها.. فكان في وقت من الأوقات وحده مع الإيمان بالله والإقرار بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصماً للدم وعلامة على الإسلام والإيمان إلى حين.. كما تقدم.. ولأن الصلاة بعد فرضها أيضاً لم تصح ولا تصح أبداً إلا بتحقيق ذلك الركن العظيم وهذا معلوم بإجماع المسلمين.. فلا يسمى تارك الكفر بالطاغوت مسلماً ولا مؤمناً وإن كان معه شعبة أو شعب من الإسلام والإيمان، الصلاة وغيرها، حتى يحقق التوحيد ويكفر بالطواغيت.. بل لو جاء بجميع الشعب الإيمانية لم تنفعه ما دام قد ترك أعلى هذه الشعب وشرط صحتها كلها..
فمن هذا تعلم بطلان احتجاجهم للطواغيت المصلين!! بهذه الأحاديث كالحديث الذي يرويه مسلم عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برىء ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع) قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: (لا ما صلّوا) فأصل السؤال حول الخروج على أئمة الجور.. ومرجئة العصر تدور أعينهم من الخوف عند ذكر ذلك، ويعدونه من الفتنة وفكر الخوارج!! وإن كان في أئمة الكفر..
فذكر الصلاة هاهنا كما ذكر أهل العلم إشارة إلى إقامة الدين والتوحيد، بدليل ما تقدم من أن الصلاة لا تغني مع نقض أصل التوحيد شيئاً.. فقد يكون الرجل مصلياً مزكياً ومجاهداً ومع هذا يكفر ويحل ماله ودمه بمجرد وقوعه بناقض من نواقض "لا إله إلا الله"، ولذا قال النووي فيه: (وأما قوله: (أفلا نقاتلهم؟) قال: (لا ما صلوا) ففيه معنى ما سبق أنه لا يجوز الخروج على الخلفاء بمجرد الظلم والفسق ما لم يغيروا شيئاً من قواعد الإسلام) اهـ.
وقد علمت أن الدخول إلى الإسلام ليس بالصلاة وحدها، بل لا بد قبل ذلك من (تحقيق التوحيد والبراءة من الشرك والتنديد)، وهذه أهم قواعد الإسلام وأجلّها، وقد علمت أن القوم قد هدموها. وماذا تُغني الصلاة والزكاة والصيام والحج وبناء المساجد وتوقيف الأوقاف وغير ذلك مما ليست الخصومة حوله، مع هدم أصل الدين ونقض كلمة الإخلاص التي لا يقبل شيء من ذلك بدونها، ولم يفرض إلا بعدها، وهي أعظم قواعد الدين التي ينهدم الدين وتغدوا الأعمال هباء منثوراً بانهدامها.. وأعني بذلك هاهنا، ابتغاء غير الله حكماً واتخاذه إلهاً ورباً مشرعاً، وإلزام الناس الدخول في دينه واتباع تشريعه المضاد لشرع الله، وتسميته بالعدالة والله يعلم وكل من هدى قلبه، أنه الكفر والشرك والضلالة، مع الصد عن دين الله، ومحاربة أولياء الله.. ثم يقال: يصلي أو يصلون..!!
يقول الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ في (مصباح الظلام) ص(328): (فمن جعل الإسلام هو الإتيان بأحد المباني فقط، مع ترك التزام توحيد الله والبراءة من الشرك فهو أجهل الناس وأضلهم) اهـ.
وهؤلاء الجهلة يقرون بأن من أنكر البعث، كفر وقتل وحل ماله ودمه وإن صلى وصام وحج وزكَّى وقال لا إله إلا الله وزعم أنه يعتقدها.. وأن من قال بنبوة أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم كالبهائية والبابية ونحوهم أنهم يكفرون بذلك، وتحل أموالهم ودماءهم وإن صلوا وصاموا وحجوا وزكوا وقالوا لا إله إلا الله ألف ألف مرة..
وأن من قال بزيادة القرآن ونقصانه وخوّن الصحابة وكفّرهم وطعن في عرض المطهرة الصديقة بنت الصديق، أنه يكفر وإن صلى وصام وحج وزكى وأعطى الخمس!! وشيّد المساجد وقال لا إله إلا الله وأقسم على اعتقاده بها.
ثم إذا ذكرنا لهم كفريات طواغيتهم الصريحة ونواقضهم القبيحة، نفروا نفور الحمر، وقايسوهم بقياس فاسد متشعب الفوارق، بأئمة الجور المحكمين لشرع الله.. وقالوا: (يصلون)!! فبعداً للقوم الظالمين.



يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حامل المسك1
المدير العام
المدير العام
حامل المسك1


إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي 190070434
عدد المساهمات : 226
نقاط : 421
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 03/04/2011
الموقع : بلاد الرافدين

إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي Empty
مُساهمةموضوع: رد: إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي   إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي I_icon_minitimeالإثنين أبريل 11, 2011 6:22 am

شبهة
أن قوله تعالى:وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأولَئِكَ هُمُ الكَافِرُون)
نزلت في اليهود وهي خاصة بهم
ولهم شبهة أخرى في الترقيع للطواغيت المشرّعين المعبودين من دون الله، وهي قولهم أن قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44] نزلت في اليهود، وهي خاصة بهم.
والرد على هذا من وجوه..
- أولها: أن تعلم أن الأصل في منطوق هذه الآية أن يراد بها الكفر الأكبر الصراح( )، إذ ورود التعريف فيها يدل على إرادة الكفر الحقيقي.. "فأولئك" تعريف، و"هم" تعريف، و"الـ" تعريف، فلا يوجد تعريف أقوى من هذا، فكان المعنى: (أولئك هم أحق بوصف الكفر من غيرهم)( ).
وهذا مثل ما روي في الحديث: (فأولئك هم الشهداء) "يعني أنهم مخصوصون بالشهادة دون سائر الشهداء.. كما يستفاد من الجملة الإسمية المعرّفة الطرفين، ومن ضمير الفصل المقحم بين المبتدأ والخبر"( ).
يقول الشيخ عبد المجيد الشاذلي في (حد الإسلام) في هذه الآية ص(412): (اللفظ على إطلاقه، وليس منكر في الإثبات كقوله صلى الله عليه وسلم: (إثنان في الناس هما بهم كفر، الطعن بالنسب.. الخ) بل هو من المعرّف باللام، ليس من المنّكر. ولا هو من المقيّد كما في قوله تعالى: {من ماء دافق} سمي المني ماء تسمية مقيدة، ولم يدخل في الاسم المطلق حيث قال: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} [النساء: 43]) اهـ.
فالأصل إذن أن يحمل الكفر في هذه الآية على إطلاقه وعلى حقيقته الشرعية الأصلية، ولا ينقل عن ذلك فيصار به إلى المجاز أو يقيد إلا بدليل...
- الوجه الثاني: أن تعلم، أن هذا الأمر - أعني كون الآية تتكلم عن الكفر الأكبر المخرج عن الملة - هو الذي جعل كثير من السلف يقولون في تأويلها، أنها في الكفار أو في اليهود أو أهل الكتاب، كما ثبت عن البراء بن عازب في صحيح مسلم قوله: (في الكفار كلها)، أي ليست في العصاة من المسلمين، فهي تتكلم عن الكفر المخرج عن الملة وليست في المعاصي والذنوب غير المكفرة..
وإنما أرادوا بذلك الرد على الخوارج بأنها لا تحمل على ظاهرها إذا قيلت في حق المسلمين المخطئين أو العصاة أو الظلمة، لأن حملها على ذلك تنزيل لها في غير مناطها، إذ هي في الكفار المبدّلين لقواعد الدين وحدوده، المشرّعين مع الله ما لم يأذن به الله، الذين يفعلون كما فعل اليهود ونحوهم..
فإن وقع أحد بمثل ما وقعوا فيه فالآية تتناوله على ظاهرها.. وإن كان المتكلَّم فيهم من العصاة أو الظلمة أو المخطئين، فلا يصح تنزيل الآية فيهم على ظاهرها، إلا بتأويل أن المراد الجحود أو الاستحلال أو نحوه.. وكذلك يفعل علماؤنا المحققون. فافهم هذا جيداً، فإنه يقطع على مرجئة العصر شبهاتهم في هذا الباب..
وقد وجدت للشاذلي في كتابه (حد الإسلام وحقيقة الإيمان) كلاماً نحو هذا ص (407) ملخصه: (أن الخوارج أرادوا أن يدخلوا. في (مَنْ) طغيان الحكم وجور القضاء ومطلق المخالفة الشرعية، وأن لا يكتفوا بتكفير الإمام بمعصية حتى يكفروا معه الرعية، وهذا أمر معلوم بطلانه من الدين بالضرورة، ولهذا أنكره صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون وتابعوهم من أهل القرون الثلاثة الأولى، وقالوا ما قالوه في تفسير هذه الآيات رداً عليهم، وكلامهم في هذا كان حسب الحاجة الحاضرة) اهـ.
وذكر مسلك مرجئة العصر - المتقدم - في الاستناد إلى قول ابن عباس وأبي مجلز وغيرهما - في ردهم على مسلك الخوارج -، ليستدلوا بذلك على أن من رد الأمر عند التنازع إلى شريعة أخرى غير شريعة الله لا يخرج بذلك من الملة.. ثم قال: (فالخوارج أبقوا الحكم على ظاهره وصرفوه إلى غير مناطه، وهؤلاء أوّلوه في مناطه وفي غير مناطه..) اهـ.
- الوجه الثالث: أن يقال، ولأجل ما تقدم، فإن من قال أنها نزلت في اليهود لم يمنع، أنها عامة تتناول كل من وقع فيما وقعوا فيه.. إذ العبرة في النصوص الشرعية العامة عموم اللفظ لا خصوص السبب. و(مَنْ) سواء كانت موصولة أو شرطية أو استفهامية فإنها من صيغ العموم - كما هو معلوم عند أهل الأصول - وقد وقعت في هذه الآية في معرض الشرط.. فتعم وتتناول كل من يشمله اللفظ إطلاقاً وإن كان أول نزولها في قوم معنيين..
والأصل في اللفظ العام تناوله لجميع أفراده ولا يُصار إلى الخصوص إلا بدليل..
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كلامه على التتار: (فإن نصوص الكتاب والسنة الذين هما دعوة محمد صلى الله عليه وسلم يتناولان عموم الخلق بالعموم اللفظي أو بالعموم المعنوي، وعهود الله تعالى في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تتناول آخر هذه الأمة كما تناولت أولها) اهـ( ).
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى في الدرر السنية: (القول: (إن خطاب الله في كتابه وخطاب رسوله في سنته إنما يتعلق بمن نزل بسببهم دون غيرهم) هذا لا يقوله أبلد الناس وأجهلهم بالشريعة وأحكامها، بل لا يتجاسر أن يقوله أحد ممن يجادل بالباطل صوناً لنفسه عن التجهيل والتضليل، لأن هذه على الجهالة والضلالة من أبين دليل( )، ولما يلزم قائله من تعطيل الشريعة والطعن على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال من ارتد عن الإسلام بعد وفاة نبيهم صلى الله عليه وسلم..) وأخذ في سرد لوازم هذا القول الباطل والأدلة على وجوب تحكيم القرآن وتقديمه مطلقاً.. فراجعه في جزء الجهاد ص(89).
ويقول ابنه الشيخ عبد اللطيف في (مصباح الظلام): (إن من منع تنزيل القرآن وما دل عليه من الأحكام على الأشخاص والحوادث التي تدخل تحت العموم اللفظي، فهو من أضل الخلق وأجهلهم بما عليه أهل الإسلام وعلماؤهم، قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، ومن أعظم الناس تعطيلاً للقرآن وهجراً له، وعزلاً عن الاستدلال به في موارد النزاع. وقد قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء: 59] الآية، والرد إلى الله: هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول الرد إلى سنته.. وقال تعالى: {لأنذركم به ومن بلغ} [الأنعام: 19] فنصوصه وأحكامه عامة، لا خاصة بخصوص السبب.
وما المانع من تكفير من فعل ما فعلت اليهود في الصد عن سبيل الله والكفر به مع معرفته؟) اهـ ص(140).
ويقول الشيخ عبد اللطيف أيضاً في جزء (مختصرات الردود) من الدرر: (من الأسباب المانعة عن فهم كتاب الله أنهم ظنوا أن ما حكى الله عن المشركين، وما حكم عليهم به ووصفهم به خاص بقوم مضوا وأناس سلفوا وانقرضوا ولم يعقبوا وارثاً، وربما سمع بعضهم قول من يقول من المفسرين: هذه نزلت في عبادة الأصنام، هذه نزلت في النصارى، هذه نزلت في الصابئة، فيظن الغُمْرُ أن ذلك مختص بهم، وأن الحكم لا يتعداهم، وهذا من أكبر الأسباب التي تحول بين العبد وبين فهم القرآن والسنة) اهـ.
ويقول حفيده الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، شعراً:
من كان يقصر آيات الكتاب على أسباب إنزالها قد نال خسرانــا
فالاعتبار عموم اللفظ قال بــذا من شاد للملة السمحاء أركانـا
همُ الهداة الألى نصّ الرسول على تفضيلهمُ زمناً وعلماً وعرفانا( )
ولذلك كله فقد ثبت عن حذيفة بإسناد صحيح أنه استنكر دعوى الخصوصية في هذه الآيات فقد ذكرت عنده الآيات فقال رجل: إن هذا في بني إسرائيل، فقال حذيفة: (نِعْمَ الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كانت لكم كل حلوة ولهم كل مرة، كلا والله لتسلكن طريقهم قدَّ الشراك).
وذكر ابن كثير عن الحسن البصري أنه قال: (إن هذه الآية نازلة في أهل الكتاب، وهي علينا واجبة) اهـ.
ويقول إسماعيل القاضي في (أحكام القرآن): (ظاهر الآيات يدل على أن من فعل مثل ما فعلوا واخترع حكماً يخالف به حكم الله وجعله ديناً( ) يعمل به، فقد لزمه مثل ما لزمهم من الوعيد المذكور حكماً كان أو غيره) اهـ. عن فتح الباري (13/120).
ويقول القاسمي في تفسيره محاسن التأويل (ص1999): (ما أخرجه مسلم عن البراء: أن قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله} [المائدة: 44] الثلاث آيات في الكفار كلها، وكذا ما أخرجه أبو داود عن ابن عباس أنها في اليهود، خاصة بني قريظة والنضير لا ينافي تناولها لغيرهم، لأن الاعتبار بعموم الألفاظ لا بخصوص السبب، وكلمة "مَنْ" وقعت في معرض الشرط فتكون للعموم) اهـ.
ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في توضيحه على (توحيد الخلاق) ص(141): (وسبب النزول وإن كان خاصاً فعموم اللفظ إذا لم يكن منسوخاً معتبر، ولأن قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله..} [المائدة: 44] كلام داخل فيه كلمة (مَنْ) في معرض الشرط فتكون للعموم) اهـ.
وكلام أهل العلم في هذا كثير..
ومهما يكن من أمر، فقد ظهر لك أن الآيات تتناول كل من بدّل حدود الله وشرّع مع الله ما لم يأذن به الله، سواء شرّع ياسقاً أو دستوراً أو ميثاقاً أو مرسوماً كل ذلك كفر مخرج عن الملّة، ما دام فاعله أو متبعه قد أعطى لنفسه أو جعل لغيره حق التشريع مع الله، كما تنص على ذلك قوانينهم وتشريعاتهم وطواغيتهم المحلية والدولية..
ومن هذا تعرف ضلال مرجئة العصر وضلال شيوخهم في تنزيل أقوال السلف حول هذه الآيات في ردهم على الخوارج - الواضعينها في غير مناطها - على طغاة العصر الذين حكّموا الطواغيت بل صاروا هم أنفسهم طواغيت واتخذوا شرعاً غير شرع الله حكماً وديناً يدينون به..
فيحكمون بالإسلام والإيمان بطريقهم الأعوج ومنهجهم الضال هذا، على من أجمع المسلمون على تكفيرهم..
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى في البداية والنهاية (13/119): (فمن ترك التشريع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة فقد كفر.
فكيف بمن تحاكم إلى الياسا - أي ياسق التتار - وقدمها عليها، لا شك أن هذا يكفر بإجماع المسلمين) اهـ.
والقوم قد اتخذوا ياسقاً محلياً سموه (الدستور)، وياسقاً دولياً عالمياً سموه (الميثاق) يقدمونهما على كتاب الله تعالى في سائر شؤون حياتهم، وشرعهما وحكمهما هو المحكّم المعمول به عندهم، وحكم الكتاب معطل مبدل مضروب به عرض الحائط( ).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28/524): (ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين، وباتفاق جميع المسلمين، أن من سوّغ( ) اتباع غير دين الإسلام، أو اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر) اهـ.
وكيف لا ينعقد الإجماع على مثل هذا وقد علمت أنه من أصل الدين وقاعدته؛ إذ الكفر بالطاغوت شطر كلمة الإخلاص والتوحيد، وقطب رحى دعوة الأنبياء والمرسلين، ولأجلها كانت ولا تزال الخصومة، وفيها النزاع والنجاة والهلاك..
فالقوم - أعني مرجئة العصر - يناطحون بتأويلاتهم وشبهاتهم وسفسطاتهم تلك، آيات الكتاب وأحاديث الرسول وأصل الدين ودعوة الرسل وإجماع أهل التوحيد.. فبُعداً بعداً..
ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور..



يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حامل المسك1
المدير العام
المدير العام
حامل المسك1


إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي 190070434
عدد المساهمات : 226
نقاط : 421
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 03/04/2011
الموقع : بلاد الرافدين

إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي Empty
مُساهمةموضوع: رد: إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي   إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي I_icon_minitimeالإثنين أبريل 11, 2011 6:25 am

شبهة
أن قوله تعالى {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حَتَى يُحَكِّمُوكَ..} الآية
نفي لكمال الإيمان لا أصله
هذا وقد كنا استدللنا على كفر الطواغيت المشرّعين بقوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} [النساء: 65].
وأن الله سبحانه وتعالى قد أقسم بأعظم مقسم به وأكد القسم بتكرار أداة النفي مرتين على نفي الإيمان والإسلام عمن لم يحكّم شرع الله، فضلاً عن أن يجد في نفسه حرجاً ولو يسيراً من حكم الله تعالى( ).
ثم إن بعض مرجئة العصر أجلبوا علينا بخيل الشيطان ورجله، وزعموا أن الإيمان المنفي في هذه الآية هو كمال الإيمان لا أصله.. وجوابنا على هذا وبالله التوفيق من وجوه..
- أولهما أن نذكّر بادئ ذي بدء أن هذه الآية وبحمد الله تعالى ليست هي الدليل الوحيد على كفر هؤلاء الطواغيت المشرّعين وأنصارهم وأعوانهم وعبيدهم، وإنما هي دليلٌ واحدٌ من معين نهر أدلة لا ينضب، تقدم شيء منها، وغيره مبسوطاً في غير هذا الموضع، أولها وأعلاها نقضهم لأصل التوحيد وهدمهم لقاعدته بالتشريع مع الله (داخلياً) أو باتخاذ غيره سبحانه حكماً ومشرعاً (دولياً)، وهذه مناقضة لكلمة الإخلاص وأصل الأصول الذي تدور أدلة الكتاب والسنة من أولها إلى آخرها حوله.. وليست المسألة كما يتوهمها مرجئة العصر مسألة آية يؤولونها كما يشتهون وتنتهي القضية، ولكن غلبة الجهل وكثرة الشرك ومخالطة أهله وأنصاره ومجالستهم ومآكلتهم والركون إليهم طمست بصائر القوم وحجبت عن الهدى والحق المبين قلوبهم، وحالت بينهم وبين تمييز الكفر من الإيمان والتوحيد من الإشراك في مسائل هي من أوضح الأمور في دين الإسلام..
- ثم نقول: إن نفي الإيمان، أو الوعيد في أبوابه، لا يرد لأجل التقصير في كمال الإيمان( )، بل لا يكون إلا على انتقاض أصله أو انتقاص الإيمان الواجب، ثم بعدُ يرجّح أي الأمرين هو مراد الشارع، بالأدلة الشرعية أو القرائن من النص نفسه أو غيره من النصوص المبينة له.
إذا تقرر هذا فإن المعروف المقرر عند أهل العلم، أن الأصل في الألفاظ حقيقتها وظاهرها ولا يصرف اللفظ عن معناه الحقيقي الظاهر إلى المجاز إلا بدليل.. بل قرّر المحققون منهم أن لا مجاز في القرآن أصلا..
فنحن نقول إن النفي ها هنا نفي لحقيقة الإيمان أي لأصل الإيمان.. والقائل بهذا مستصحب للأصل، والزاعم أن النفي لغير ذلك، خارج عن الأصل مطالب بالدليل..
يقول ابن حزم رحمه الله تعالى في الفصل (3/293) عن هذه الآية: (فهذا هو النص الذي لا يحتمل تأويلاً ولا جاء نص يخرجه عن ظاهره أصلاً، ولا جاء برهان بتخصيصه في بعض وجوه الإيمان) اهـ.
- أضف إلى هذا أن اللفظ ها هنا ليس معنى لغوياً بحتاً، بل هو معنى شرعيٌّ خاصٌّ، وقد نص كثير من أهل العلم منهم شارح الطحاوية وشيخ الإسلام ابن تيمية على أن لفظة الإيمان مع الإسلام، إذا اجتمعا افترقا بالمعنى وإذا افترقا اجتمعا.. ومعنى هذا أنه إذا انفرد أحدهما شمل معنى الآخر وحكمه.. وها هنا ورد لفظ الإيمان منفرداً فيشمل الإسلام معه.. فنفيه في الآية نفي للإسلام والدين..
- ويدل على هذا أيضاً سياق الآيات في السورة نفسها وقبل هذه الآية بقليل، فإنها نافية لأصل الإيمان.. كقوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر.. الآية} [النساء: 59].
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: (فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة، ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر) اهـ.
وذكر الإيمان باليوم الآخر في الآية يقطع شبهة القول بكمال الإيمان لأنه شعبة من شعب الإيمان الرئيسة التي يزول بزوالها أصل الإيمان ومنه قوله تعالى قبلها أيضاً: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً} [النساء: 60-61].
فإذا كانت إرادة التحاكم إلى الطاغوت، مناقضة للكفر به الذي افترضه الله على العباد وأمرهم به.. فكيف بالتحاكم نفسه، بل كيف بما هو حاصل اليوم من جعل السلطة التشريعية كاملة وفي كل باب بيد الطاغوت وحقاً من حقوقه.. سواء كان هذا الطاغوت (دولياً) أم (محلياً) أو كان (أميراً) أم (نائباً) أو كان (ميثاقاً) أم (دستوراً).
ومعلوم من أصل دين الإسلام أن الكفر بالطاغوت ركن التوحيد وشرط صحة للإيمان بالله لا شرط كمال.. والإيمان بالطاغوت كفر بالله ناقض لأصل الإيمان والتوحيد والإسلام، فالمكذّب المنفي إذن في هذه الآية هو أصل الإيمان وحقيقته لا كماله الواجب، فضلاً عن المستحب..
وهكذا فسياق الآيات كلها قبل آية الباب هو حول انتفاء أصل الإيمان لا كماله، ثم جاءت هذه الآية نصاً في الموضوع نفسه..
وهذا كسابقه، فالقائل بهذا مستصحب لأصل الخطاب المتضمن في السياق.. والمخرج لها عن ذلك خارج عن هذا الأصل مطالب بالدليل..
* أما الحرج المذكور في الآية فهو ليس قيداً لنفي حقيقة الإيمان هنا، أو قيداً في كفر من امتنع من التسليم لحكم الله، وإنما وجوده - كما تقدم - زيادة في الكفر.. فالمتحرّج من شرع الله كافر سواء حَكّمَه أم لم يُحكّمْه..
والممتنع من التسليم لحكم الله كافر وإن لم يظهر التحرّج منه.. وقد يجتمع الكفران في شقي فيكون كفره كفراً مركباً.. فهو إذن زيادة حكم لا قيدٌ للحكم..
يقول الجصاص في (أحكام القرآن) عن هذه الآية بعد أن ذكر بعض معاني الحرج ومنها الضيق أو الشك: (وفي هذه الآية دلالة على أن من رد شيئاً من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم فهو خارج من الإسلام.
سواء رده من جهة الشك..
أو ترك القبول والامتناع من التسليم..
وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع عن أداء الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم، لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلم للنبي  فليس من أهل الإيمان) اهـ.
ويقول ابن حزم في (الفِصَل) عن الآية ذاتها (3/235): (فنص تعالى وأقسم بنفسه أنه لا يكون مؤمناً إلا بتحكيم النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما عَنّ، ثم يسلم بقلبه ولا يجد في نفسه حرجاً مما قضى.
فصح أن التحكيم شيء غير التسليم بالقلب، وأنه هو الإيمان الذي لا إيمان لمن لم يأت به) اهـ.
والخلاصة يا أخا التوحيد، أن قضيتنا كما قلنا مرارا، مع أناس قد هدموا التوحيد فآمنوا بالطاغوت.. ولم يكفروا به.. وهذا ناقض من نواقض الإسلام والإيمان، وعمل كفري ظاهر لا يبحث فيه عن الاعتقاد او الاستحلال القلبي أو التحرج القلبي، ولا يجعل ذلك قيداً للكفر ها هنا.. إذ هذه أمور مغيبة وأسباب للكفر غير ظاهرة ولا منضبطة في أحكام الدنيا، ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهتين:
إما عن طريق الوحي، أو أن يصرّح مقترف الذنب ويتلفظ بلسانه ويخبر عن استحلاله وتحرجه القلبي..
واعلم أن القوم ها هنا قد تحقق فيهم كلا هذين الوجهين فهم من أكفر الخلق..
- فقد نصّ الوحي كما تقدم في الآيات على تكذيب إيمان من لم يكفر بالطاغوت وأراد التحاكم إليه، فنحن نحكم ببطلان إيمان أمثال هؤلاء ظاهراً وباطناً أيضاً تصديقاً لله وإيماناً بكلماته، (وهذا حكم وليس قيداً للحكم) ونُكذب هذا المتحاكم للطاغوت ولو زعم الصدق والإيمان والتوفيق والإحسان، ولو صرّح بأن الشريعة أفضل من دين الطاغوت وقانونه، وأقر بوجوب تحكيم الشرع أو قال: ادعوا لنا.. أو أعينونا.. ونحوه مما يضحكون به على السفهاء، ويرقّع به لهم المرقّعون الضالون.. ما دام مستمراً في التحاكم للطواغيت، داخلاً في دينها غير كافر بها.. هذا من جهة..
- ومن الجهة الأخرى فإن هؤلاء الطغاة قد صرّحوا في مذكراتهم التفسيرية للدستور - كما بيّناه في (كشف النقاب) - ونصوا على تحرّجهم من توحيد الله وإفراده في التشريع، في تفسيرهم للمادة الثانية من ياسقهم..
ومن هذا تعلم أن كفر القوم كفر مركب.. بشهادة الله ووحيه، وبتصريحهم هم أنفسهم أيضاً..
ومع هذا يتورع في تكفيرهم أفراخ المرجئة، فيعصمون دماءهم وأموالهم بل ويصلّون خلفهم( ) ويستعينون بهم على من خالفهم وخالف مذاهبهم الفاسدة وإن كان من أهل التوحيد( ).. ويصفونهم بالخوارج - الكفار على قول طائفة من السلف - لكفرهم بالطاغوت وتكفيرهم له ولأوليائه وأنصاره.. فيتورعون من تكفير من رأيت حالهم، في الوقت الذي لا يتورعون ولا يلتزمون حدود الله فينا فيكفروننا بمحض التوحيد.. تماماً كما هو حال خصوم دعاة التوحيد في كل زمان.. قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
وخصومنا قد كفرونا بالتي هي غاية التوحيد والإيمان
ونحن نكلهم إلى رب العالمين يوم يتبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا، ويناديهم الجبار: {أين شركائي الذين كنتم تزعمون} [القصص: 74].
ويومها سنرفع شكايتنا إلى رب العالمين وسنقول: يا رب قد بدّعونا ورمونا وبهتونا بما علمت، لأننا كفَّرنا من هدم التوحيد ونصر الشرك والتنديد..
يا رب ما كفَّرنا إلا من كفَّرته في كتابك وكفّره رسلك.. يا رب كفَّرنا أعداء دينك، تصديقاً بكلامك واتباعاً لرسلك وإيماناً بكتابك وانتصاراً لشريعتك..
أما أنتم يا أفراخ المرجئة فماذا ستقولون؟ وبماذا ستجيبون وتدفعون؟ أتقولون: يا رب تورعنا عن تكفير أعداء دينك الذين وصفتهم بالكفر في كتابك، وحكمنا لهم بالإسلام تورعاً واحتياطاً وتنزهاً.. وبدعنا - وربما كفرنا - من كفّرهم وأنزل وصفك عليهم وسفهناه وحاربناه وصددنا الناس عن دعوته؟
فشمّر أخا التوحيد لنصرة دين الله.. ولا تبال أو تتضرر بالمخالفين والمخذلين، وتجهز ليوم المحاجة بين يدي جبار السموات والأرض لنحاجج أعداء الدين وأوليائهم وأنصارهم عند ولينا وناصرنا..



يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حامل المسك1
المدير العام
المدير العام
حامل المسك1


إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي 190070434
عدد المساهمات : 226
نقاط : 421
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 03/04/2011
الموقع : بلاد الرافدين

إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي Empty
مُساهمةموضوع: رد: إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي   إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي I_icon_minitimeالإثنين أبريل 11, 2011 6:28 am

شبهة
أن النبي  لم يكفّر ولا قتل الأنصاري المعترض على حكمه
في شراج الحرة ولا المنافقين الذين يصدون عن حكم الله صدوداً
ولا الذي قال له (اعدل)
وهذه شبهة لهم متفرعة عن التي تقدمت قبلها، فإنا لما ذكرنا لهم أن الآية السابقة نافية لحقيقة إيمان المعرض عن حكم الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: فما باله صلوات الله وسلامه عليه لم يكفر المعترض على حكمه في شراج الحرة.. ( ). وكذلك المنافقين الذين قال تعالى فيهم: {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً} [النساء: 61] ومثل ذلك الرجل الذي قال في قسمة النبي صلى الله عليه وسلم: (هذه قسمة ما أريد بها وجه الله).
والجواب على هذا أن نقول: قد تكرر أن الأمر الذي نحن بصدده هو من أصل الدين وقاعدته، ومثل هذا لا يتطرق إليه النسخ أبداً، فلا يصح بحال أن يخدش أو يصادم بحوادث الأعيان التي قد تكون لها ملابسات وتأويلات معينة.. بل ينبغي أن يُرد أمثال ذلك - إن أشكل تأويله - إلى أمه وأصله كما هو الحال في المتشابه إذ يُردّ إلى المحكم من القرآن.. ولا يجوز أن تُصادم النصوص ويُضرب ببعضها بعضاً..
* اما حديث المعترض على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة وأمر المنافقين الذين يصدون عن حكم الله صدوداً فهما كما قدمنا لك في موضوع وسياق واحد، فاحتجاجهم لطواغيتهم بأن النبي  لم يكفر هؤلاء لا حجة لهم فيه. لأن القرآن قد نزل بعد هذه الحوادث حاكماً بكفر كل من يعترض على حكم الله وحكم الرسول، أو يريد التحاكم إلى الطاغوت. فيمتنع أن لا يكفرهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إن أصروا عليه ولم يظهروا توبة وندماً ورجوعاً. ويمتنع أن يقرّهم النبي صلى الله عليه وسلم على الاستمرار في الطعن في أحكام الله والتحاكم إلى الطاغوت دون أن يُكفرهم ويقتلهم وهو القائل: (من بدل دينه فاقتلوه).
فلزم أن يقال أنهم بعد نزول الآيات لم يصروا على ذلك الكفر، بل تابوا وندموا واستسلموا وانقادوا لحكم الله ولو ظاهراً..
قال الإمام ابن حزم في محلاه المجلد (11) في المسألة (2199): (حتى إذا بيّن الله أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهما، وجب أن من وقف على هذا قديماً وحديثاً وإلى يوم القيامة فأبى وعَنَدَ فهو كافر. وليس في الآية أن أولئك عندوا بعد نزول الآية) اهـ.
وهذا تماماً كالذين استهزؤوا بالقراء في غزوة تبوك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتلهم، فلا يصح أن يستدل بهذا على أنهم لم يكفروا باستهزائهم( ).. بل الصواب أن يقال أنهم أظهروا التوبة بعد أن حكم الله بكفرهم، فعاملهم النبي صلى الله عليه وسلم بظاهرهم..
يقول ابن حزم في المحلى أيضاً (11/207) بعد أن ذكر قوله تعالى: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب..} إلى قوله تعالى: {كانوا مجرمين} [التوبة: 65، 66]، قال: (هذه بلا شك في قوم معروفين كفروا بعد إيمانهم، ولكن التوبة مبسوطة لهم بقوله تعالى: {إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين} [التوبة: 66]، فصح أنهم أظهروا التوبة والندامة واعترفوا بذنبهم. فمنهم من قبل الله تعالى توبته في الباطن عنده لعلمه تعالى بصحتها، ومنهم من لم تصح توبته في الباطن فهم المعذبون في الآخرة، وأما الظاهر فقد تاب جميعهم بنص الآية، وبالله تعالى التوفيق) اهـ.
وهذا صريح في الآيات وليس فيها ولا في الأخبار أنهم أصروا على استهزائهم واستمروا فيه، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم عليه دون أن يقتلهم، بل إن في الآثار المروية في تفسير هذه الآيات كما هو عند الطبري وابن أبي حاتم، أن بعضهم كان يعتذر وهو متعلق بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة.. إظهاراً للتوبة والندم والرجوع..
- وأما الذي جوّر الرسول صلى الله عليه وسلم وقال إنه لم يعدل ولا أراد بقسمته وجه الله.. فلا شك أنه مرتد - لأن هذا طعن في الرسالة المستلزمة للأمانة - وهذا ما فهمه خالد وعمر رضي الله عنهما مباشرة فاستأذنا النبي صلى الله عليه وسلم بقتله كما في روايات الحديث..
ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم أناط علّة نهيه عن قتل هذا وأمثاله - في بعض الروايات - بمخافة (أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) ولم يعلقها بعصمة دمه، كما هو الشأن في المسلمين، فدل على أنه كان كافراً بتلك المقولة، ولو كان مسلماً لكان ذاك الوصف عديم التأثير وغير مناسب في عصمة دم المعصوم، ولا يجوز تعليل الحكم بوصف لا أثر له، بل لا بد من تعليله بالوصف الذي هو مناط الحكم، وهذا معلوم في كلام أهل العلم في باب (تنقيح المناط).. وقد ذكر هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول ص(355).
أما عدم قتل النبي صلى الله عليه وسلم له ونهي عمر وخالد عن ذلك.
فالجواب عليه كما قال ابن حزم رحمه الله تعالى في المحلى (225/11):
(أن الله تعالى لم يكن أمر بعد بقتل من ارتد فلذلك لم يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك نهى عن قتله، ثم أمره تعالى بعد ذلك بقتل من ارتد عن دينه، فنسخ تحريم قتلهم) .
وقال أيضاً فيه (11/411): (أما القائل في قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم (هذه قسمة ما عدل فيها ولا أريد بها وجه الله تعالى).
فقد قلنا أن هذا كان يوم خيبر، وأن هذا قبل أن يأمر الله تعالى بقتل المرتدين، وليس في هذا الخبر أن قائل هذا القول ليس كافراً بقوله ذلك) اهـ( ).
فظهر أن لا حجة لهم في ذلك كله، وأنهم لما أفلسوا من الحجج والأدلة، صاروا إلى مثل حوادث الأعيان هذه يريدون أن يناطحوا بها ذلك الأصل الأصيل والركن الوثيق الذي احتججنا به على كفر طواغيتهم إذا هدموه، ويدعون الناس ويأمرونهم بهدمه.. ولكن الهاوية التي انزلقوا ها هنا فيها أنهم بتلاعبهم في هذه الأخبار، وباحتجاجاتهم الفاسدة تلك قد نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم السكوت عن المرتدين والكفار وإقرارهم على كفرهم، وعدم قتلهم وقتالهم.. وما درى هؤلاء المساكين أنهم في مسلكهم هذا يهلكون أنفسهم في سبيل الجدال عن الطواغيت..
يقول منجنيق الغرب رحمه الله تعالى: (ومن ظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقتل من وجب عليه القتل من أصحابه فقد كفر وحل دمه وماله لنسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الباطل ومخالفة الله تعالى.
والله لقد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه الفضلاء المقطوع لهم بالإيمان والجنة إذ وجب عليهم القتل كماعز والغامدية والجهنية رضي الله عنهم.
فمن الباطل المتيقن والضلال البحت والفسوق المجرد، بل من الكفر الصريح أن يعتقد أو يظن من هو مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل مسلمين فاضلين من أهل الجنة من أصحابه أشنع قتلة بالحجارة.. ثم يعطل إقامة الحق الواجب في قتل المرتد على كافر يدري أنه ارتد..
إلى أن قال: (ونحن نشهد بشهادة الله تعالى أن من دان بهذا واعتقده فإنه كافر مشرك مرتد حلال الدم والمال نبرأ إلى الله منه ومن ولايته) اهـ( ).

الخاتمة
وبعد...
فلم يكن مرادنا هنا حصر جميع شبهات مرجئة العصر فإنها لا تنتهي، إذ القوم قد ملئوا إلى مشاشتهم شبهاً، ولا يزال الشيطان يوحي إليهم زخرف القول غروراً..
شَبهٌ تهافت كالزجاج تخالها حقاً وكل كاسرٌ مكسور
وإنما تعرضنا في هذه الورقات لأشهر ما يطرحه سفهاؤهم في هذا البلد، مما هو متعلق أو قريب من أصل الموضوع، بياناً وتنبيهاً لطلبة الحق السائرين على الدرب..
وأختم هذا بأن أذكر نفسي وأذكرهم بإشارات وعلامات يهتدي بها الساري في إدلاجته وسط فتن وأهواء وظلمات متشابكة.. ذكرى.. (فإن الذكرى تنفع المؤمنين).
* أولاً: إياك والهوى..
يقول ابن دقيق العيد في الأمور المهلكة التي تُدخل الآفة: (أحدها: الهوى، وهو شرّها، وهو في تاريخ المتأخرين كثير) اهـ.
فعلى طالب الحق أن يتجرّد لطلب الحق وألا يتبع الهوى..
قال تعالى: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلّون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} [ص: 26].
فإن الهوى طاغوت من الطواغيت التي يتابعها أكثر الناس.. ولن تُمسّك بالعروة الوثقى حق التمسك وتلحق بالدرب، حتى تستسلم لله ولحكمه وحده استسلاماً مطلقاً وتكفر بكل الطواغيت.. ومن ذلك طاغوت الهوى هذا.. قال تعالى: {أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً * أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً} [الفرقان: 43، 44].
وقال تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون} [الجاثية: 23].
فاحذر من هذا الطاغوت واجتنبه كما تجتنب الطواغيت الأخرى لتحقق التوحيد الذي هو حق الله على العبيد تحقيقاً كاملاً..
وتأمل صفات عبيده الهلكى المتساقطين على عتباته في الآيات المذكورة، وما عاقبهم الله به من الختم على القلوب والأسماع والغشاوة على الأبصار فأمسوا أضل من الأنعام، لا يرفعون بالأدلة والبينات رأساً فلا يعتبرون بها ولا يهتدون أو يتذكرون.. فتلاعب بهم الطاغوت بشبهه كيف شاء.. وتجارى بهم كما يتجارى الكلب بصاحبه.. واحمد إلهك على نعمة الهداية للحق والتوحيد.. وابك وتضرع إليه أن يثبتك عليه ويختم لك به..
واجعل لقلبك مقلتين كلاهما من خشية الرحمن باكيتان
لو شاء ربك كنت أيضاً مثلهم فالقلب بين أصابع الرحمن
وتذكر قول الله تعالى:
{وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط} [آل عمران: 120].
وقوله تعالى:
{إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون} [النحل: 99، 100].
* ثانياً: الحذر من الانتصار للحزبية والمشايخ..
أو تقديم ذلك بين يدي الله ورسوله، أو ترك كلام الله المحكم لأقوالهم ومقالاتهم.. فما دام الحق قد وضح لك بدليله.. فعض عليه بنواجذك ولا تدعه لقول أو لرأي أحد من الناس.. وإذا ما اهتديت إلى حق في مسألة فجاء مخالفاً لما وجدت عليه مشايخك فلا تعارضه بكلامهم أو فعالهم، فإن كلام الخالق لا يعارض بكلام المخلوق.. وكم صدّ مثل هذا كثيراً ممن كنا نظنهم طلبة حق عن اللحاق بالركب، وخذلهم الشيطان بشبهات: (هل خفي هذا على الشيخ؟) و(لو كان حقاً لما خفي عليه) أو (كيف يقول الشيخ بخلافه؟).. فالتوفيق والترجيح وتكلف البحث عن الناسخ والمنسوخ العام والخاص أو المطلق والمقيد إنما يكون فيما يتوهم فيه التعارض من كلام الله أو كلام الرسول.. أما كلام الخلق، فقد قال تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء: 82].
فلا يصدَّنك عن اتباع الحق ونصرته مخالفة بعض مشايخك له.. فقد كنا في بداية الطلب تتعارض وتشكل علينا بعض أقوال المشايخ الذين كنا نثق بهم، مع ما وضح لنا من الحق في المسألة، فنتردد كثيراً ونتوقف.. وهذا من العوائق التي تؤخر الركب وتعيق المسير.. ولا ينبغي أن يكون مثله عائقاً عند طالب الحق.. ولا أن يطيل الوقوف عنده والتردد بسببه، فما دام الحق قد ظهر وبان بدليله من الكتاب أو السنة فما وافقه فهو مقبول، وما عارضه فمردود مطروح، وكلٌّ يؤخذ من قوله ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.
وإياك ومقالة أهل الجهل: (بأنَّ كلام الله لا يؤخذ بظواهره، فربما كان المراد كذا أو كذا) و(نحن لا نستطيع فهم القرآن)، وغير ذلك مما يصعّبون به ما يسره الله تعالى: {ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدَّكر} [القمر: 22].
فتلك مقالات أهل الزيغ في كل مكان، يتوارثونها عن بعضهم ليعطلوا نصوص الكتاب، ويُعملوا بدلاً منها نصوص شيوخهم ومقالاتهم التي لا يوردون عليها أبداً ما يوردونه على كتاب الله من التعسيرات والعقبات.
وحقيقتها دعوة صريحة للتقليد وتعطيل لنصوص الوحي..
ورحم الله ابن القيم إذ يقول:
جعلوا كلام شيوخهم نصّاً له الإحكامُ موزوناً به النصانِ
وكلام رب العالمين وعبـده متشابهـاً متحمــلاً لمعانِ
*ثالثاً: عليك بحلة الإنصاف..
فتحلَّ بها ولا تنزعها أبداً.. فإنها أندر حلة بين الخلق في هذا الزمان.. ولذلك قال العلماء: (الإنصاف حلّة الأشراف، والأشراف أقل الأصناف).. ومن ذلك أن تتورع عن أن تنسب للخصوم أو تقوّلهم ما لم يقولوه ولو كان من لازم أقوالهم.. واتق الله ولا تكذب عليهم أو تأخذهم بالتوهم والظن، وإن هم كذبوا عليك.. فإن المؤمن لا يكذب..
وكم عانينا مثل هذا من مرجئة زماننا.. ولكن لا نرد صاع السوء بمثله.. يقول ابن حزم في الفصل (5/33): (وليعلم من قرأ كتابنا هذا أننا لا نستحل ما يستحله من لا خير فيه من تقويل أحد ما لم يقله نصاً، وإن آل قوله إليه.. فاعلموا أن تقويل القائل كافراً كان أو مبتدعاً، أو مخطئاً ما لا يقوله نصاً، كذب عليه، ولا يحل الكذب على أحد) اهـ.
فلا تتعد حدود الله في المخالفين وإن تعدوا حدود الله فيك.. بل اضبط ما تقول وزنه بميزان العدل الذي قامت به السموات والأرض.. واعلم أن عين السخط تبدي مساوئ لها في الحقيقة مخارج صحيحة، تعمى عنها بحجاب السخط..
* رابعاً: احذر من التردد والتخاذل عن اتباع الحق ونصرته لقلة الأنصار السالكين أو لكثرة المخالفين والمثبطين، فالجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدك.. وما بالكثرة يعرف الحق ولا بالرجال، وإنما يعرف الرجال بالحق.. وتذكّر أن النبي يأتي يوم القيامة وليس معه من الأتباع والأنصار إلا الرجل والرجلين.. ويأتي النبي وليس معه أحد.. وهو نبي!!
وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائفة القائمة بأمر الله إلى قيام الساعة بأنهم: (لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم)..
فإياك أن تتضرر بالمخالفين أو بخذلانهم للحق ولو كانوا الأكثرين.. وتذكر بأن أول من تسعّر بهم النار ثلاثة نفر، منهم علماء لم ينتفعوا بعلمهم لتضييعهم شرط الإخلاص. فلا تغتر إذن بكثرة العمائم المنحرفة عن هذا الطريق.. أعني علماء الحكومات الذين باعوا دينهم للسلطان بثمن بخس دراهم معدودات، فبايعوه وناصروه وآزروه، ولبّسوا الحق بالباطل وأفسدوا على الناس دينهم.. فما العبرة بمثل هؤلاء.. وإنما العبرة بالعلماء العاملين المتبرئين من أهل الكفر والطغيان، فهؤلاء هم ورثة الأنبياء.. فالزم طريقهم وإن قلوا.. ولا تغتر بالغثاء.. فليس العجب ممن هلك كيف هلك.. وإنما العجب ممن نجا كيف نجا!!
* خامساً: كن على ثقة بأن الحق منتصر ولو بعد حين، وأن الدولة والرفعة والعزة والعاقبة لا شك لأتباعه وأنصاره..
وتذكّر مقالة أبي بكر بن عياش حين قال: (أهل السنة يموتون، ويحيا ذكرهم، وأهل البدعة يموتون، ويموت ذكرهم، لأن أهل السنة أحيوا ما جاء به الرسول ، فكان لهم نصيب من قوله تعالى: {ورفعنا لك ذكرك} [الشرح: 4]، وأهل البدعة شنؤوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان لهم نصيب من قوله: {إن شانئك هو الأبتر} [الكوثر: 3] اهـ.
فأدلج وجدّ بالمسير، ولا يعيقنّك شيء عن اللحاق بالقافلة لنصرة الحق وأهله.. فما هي إلا أيام.. وعند الصباح يحمد القوم السرى..
اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض
أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون
إهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك
إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم

أبو محمد المقدسي
1412هـ


قدمتُ لله ما قـدمتُ مـن عمـل وما عليَّ بهم ذمونِ أو شكروا
عليّ في البحث أن أبدي غوامضه ومــا عليَّ إذا لم تفهم البقرُ



منبر التوحيد والجهاد
* * *


لا تنسونا من خالص دعائكم

اخوكم الفقير الى ربه

ابو عزام الانصاري

وحدة الرصد والمتابعة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر// للشيخ أبي محمد عاصم المقدسي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  تحفة الأبرار في أحكام مساجد الضرار للشيخ أبو محمد المقدسي
» القول السديد شرح كتاب التوحيد للشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب//المقطع الرابع!!!
» القول السديد شرح كتاب التوحيد للشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب//المقطع الخامس!!!
» شرح الاصول الستة للشيخ خالد بن عبدالله بن محمد المصلح
» القول السديد شرح كتاب التوحيد للشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب//المقطع الاول

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
مــــــــــــــــــــــنــــــتدى ألتــــــــــــــــــــوحيـــــــــــد :: الاقسام الشرعية :: مكتبـــه المنتدى-
انتقل الى: