سابعاً: من مزالق هذا الاعتقاد أن يُلزم أصحابه بعدم تكفير الكافر كفراً بواحاً، إلا إذا صرح لهم بفيه أنه مستحل لما حرم الله وجاحد لدين الله، وما سوى ذلك فساحة التأويل تسعه، والكفر العملي الأصغر ينتظره ولو كان من أطغى طغاة الأرض ...!!
ولقد وجدناهم قد أمسكوا عن تكفير طغاة قد اجتمعت فيهم جميع نواقض الإيمان، لا يجهل كفرهم إلا كل أعمى البصر والبصيرة، بحجة أنهم لم يسمعوا منهم عبارة الاستحلال والجحود..!!
بل الكافر على شرطهم؛ المستحل لما حرم الله بالتصريح الظاهر، الجاحد لدين الله، المنتفي عنه جميع موانع التكفير، لا يستحسنون تكفيره بعينه كما قرروه في كتابهم " إحكام التقرير "، متذرعين بالتقوى والورع[ ]!!
ثم بعد كل ذلك يسألونك: أين يمكن إرجاؤنا .. وأين الدليل على إرجائنا؟!
ونحن في هذا الصدد ليس لنا سوى أن نذكرهم بالقاعدة الشرعية الصحيحة، التي أجمع على صحتها علماء الأرض، وهي: "أن من لم يكفر الكافر، أو شك في كفره، فقد كفر". لعلهم يردعوا عن باطلهم وغيهم، ويعودوا إلى رشدهم و صوابهم، ويتقوا الله في أنفسهم والناس من حولهم ..!
ـ افتراء جديد على علماء التوحيد...!
مما يستلفت الانتباه، ويشتد له العجب غمزهم وطعنهم بعقيدة علماء التوحيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأحفاده رحمهم الله تعالى، وذلك أننا عندما نذكر لهم أن ما قرروه من تقييد للكفر بالجحود والاستحلال فقط هو مخالف لما نص عليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتبه عندما تكلم عن نواقض الإسلام العشرة ونقل عليها إجماع العلماء[ ]، فسرعان ما يبادرونك القول: اجتهد الشيخ فأخطأ...!!
قلنا لهم: ولكن هذه النواقض نالت القبول والموافقة عند علماء التوحيد في الجزيرة العربية من لدن الشيخ حتى أيامنا هذه، وكثرت مؤلفاتهم في بيانها وشرحها وتحذير الناس منها..!
قالوا: قد اجتهدوا وأخطأوا، ونحن لا نرى التقليد، وهم ليسوا حجة علينا..؟!
أرأيت الغرور والجهل والإرجاء، كيف يخيل لهم إمكانية مناطحة الجبال الشماء الجرداء الضاربة الجذور في الأرض، برؤوس حافية صلعاء...!
وفي هؤلاء يصدق قول الشاعر :
كناطحٍ صخرةً يوماً ليوهِنُها فما أوهاها ولكن أوهى قرنَهُ الوعلُ
وقولهم: اجتهد وأخطأ، يستساغ أن يقال في المسائل الفرعية ونحوها من الأمور المتشابهات، أما أن يقال أن الشيخ اجتهد وأخطأ في مسائل العقيدة والتوحيد، العقيدة التي أكثر من الدندنة حولها، وصرف جل حياته يجاهد في سبيلها .. هذا يستلزم أن الشيخ كان جاهلاً في التوحيد، وعقيدته باطلة، وأنه بالنواقض التي أثبتها كان يكفر الناس من غير علم ولا دليل..!
نعم قولوها هكذا صراحة ومن دون مواربة ولا وجل .. أم أنكم تخشون مسلمي الجزيرة العربية ..؟!
أم أنكم تخشون أن تتوقف مبيعات كتبكم المدعومة .. في الجزيرة؟!
أتخشون على سمعتكم، ونفوذكم، ومصالحكم أن يمسها السوء .. ولا تخشون الله تعالى؟!!
فالله تعالى أجل وأعز وأولى بأن تتقوه وتخشوه فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ التوبة:13.
ـ المسألة الثانية: فيمن يشتم عن غضب..؟
من الشبه التي يثيرها أهل الإرجاء حول المسألة، أن الشاتم عن غضب يعذر، ولا شيء عليه .. فجعلوا الغضب مانعاً من موانع التكفير[ ]!!
وهذا كلام باطل لا دليل عليه من الكتاب والسنة، ولم يقل به عالم سني معتبر .. بل الدليل على خلافه، وإلا لكان من باب أولى أن يعذر القاتل عن غضب, أو الذي يزني عن غضب، أو يسطو على أموال وحرمات الناس عن غضب و غير ذلك, ولما تبين لنا أن الغضب لا يرفع القلم عن صاحبه, ولا يمنع من لحوق الوعيد والعقاب عنه في الدنيا والآخرة علمنا بالضرورة أنه مسؤول ومحاسب على كل ما يبدر عنه من قول أو عمل كفري ولا بد .. وإن زعم أنه كان عن غضب أو ثورة غضبية كما يقول الشيخ!
ولا يصح أن يقاس الغضبان ـ كما يفعل البعض! ـ على حال ذلك الرجل الذي أخطأ من شدة الفرح، فزل لسانه عن غير قصد ولا إرادة للقول الخاطئ، فقال: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك". وكان يريد أن يقول: اللهم أنت ربي وأنا عبدك، لكن لهول المفاجأة، وشدة الفرح أخطأ وزل لسانه.
والخطأ في مثل هذه الحالات نرجو أن يعذر صاحبه، وكذلك من يخطئ في تلاوة القرآن فيزيد وينقص عن غير قصد للزيادة أو النقصان .. ونحوه الذي يقرأ آية يكون فيها لفظ الجلالة مرفوعاً فيجعله عن غير قصد منصوباً، وما ماثلها من الحالات فإن الخطأ فيها يعذر صاحبها بإذن الله.
لقوله تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً الأحزاب:5.
وفي الحديث:" رفع عن أمتي الخطأ والنسيان". وفي رواية: " إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه "[ ].
وكذلك المجنون، فاقد العقل، ونحوه المصروع بالجن الذي لا يدري ما يقول، فإنه يعذر لقوله : "رفع القلم عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ "[ ].
لكن الذي يحصل و يلاحظ أحياناً أن بعض الأشقياء ـ قليلي التربية ـ يتحرشون بالمجنون بشيء من الأذى والسخرية فيتسببون لذلك المجنون بأن يشتمهم ويشتم الله والدين معهم .. وهم في هذه الحالة يتحملون وزر الشتم وتُجرى عليهم كامل تبعاته، وبخاصة إن علموا أن تحرشهم به سيؤدي إلى شتم الخالق .
ـ المسألة الثالثة: الفرق بين شتم شعيرة من شعائر الدين، وبين شتم المسلم..؟
شتم أي شعيرة من شعائر الدين، كالصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، أو الكعبة ونحوها
مما جاء الدليل صريحاً على حرمته .. هو كفر، والشاتم لهذه الشعيرة كافر خارج عن الملة؛ لأنه شتم للدين ولمشرع هذا الدين .. الله .
بينما شتم المسلم إن كان لدينه وإسلامه، فهو كفر، لما يتضمن شتم الدين، وإن كان لذاته أو لسبب مجرد عن الدين، فهو فسوق وليس بكفر.
فإن قيل: حرمة المسلم عند الله تعالى أعظم من حرمة الكعبة، فعلام يكفر شاتم الكعبة ولا يكفر شاتم المسلم؟
قيل: إضافة إلى ما تقدم من أن الكعبة شعيرة من شعائر الدين أمرنا بتعظيمها، فإنه لا يقبل من الشاتم لها عذر سوى أنه شتمها لحرمتها الدينية، وكونها قبلة للمسلمين، لذلك كان شاتمها كافراً.
بينما شاتم المسلم يحتمل أن يكون قد شتمه لذاته أو لسبب شخصي مجرد عن الدين، لذا أمسكنا عن تكفيره، إلا إذا تبين لنا بقرينة جلية أنه يشتمه أو يسخر منه لدينه وإسلامه، فحينها يكون كافراً لطعنه واستهزائه بالدين كما تقدم.
قال تعالى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ البروج:8. فهم لم ينقموا من المؤمنين لدنيا .. أو لأسباب شخصية خاصة .. بل لأنهم وحدوا الله تعالى وآمنوا به .. ولذلك فهم قد كفروا.
وقال تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ البقرة:212. وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ، وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ، وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ، وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ المطففين:29 ـ 32.
فدل أن صفة الاستهزاء بالمؤمنين لدينهم وإيمانهم، هي من صفة الكافرين المجرمين الضالين، ولا يستهزئ بالمؤمنين الموحدين إلا كافر صريح الكفر، أو منافق زنديق، كما قال تعالى عن المنافقين: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ التوبة:79.
وإذا كان هذا حال من يلمز المؤمنين في الصدقات، فكيف بالذي يشتمهم ويشتم لحاهم، ويجعلهم ـ في مجالسه الخاصة والعامة ـ عرضة للسخرية والتهكم أمام جلسائه.. لا ريب أنه أولى بالكفر والنفاق.
بقي أن نشير إلى أن من يشتم جميع المسلمين بصيغ التعميم كأن يقول: لعن الله المسلمين
وغير ذلك من عبارات الفحش والسب، أو يقول: النصارى أو اليهود أفضل من المسلمين ونحو ذلك من الاطلاقات العامة التي يشمل الطعن جميع المسلمين .. فإن مثل هذا النوع من السب والطعن كفر صريح يخرج صاحبه من الملة، لأنه يستحيل أن يكون سبه لجميع المسلمين في الأرض لخصومات شخصية بينه وبينهم، لذا لم يبق سوى احتمال واحد وهو أنه طعن بهم لدينهم وإيمانهم وتوحيدهم وهذا عين الكفر، وهو إضافة لذلك مغاير لما يتعين على المسلم حبهم وموالاتهم والثناء عليهم خيراً .. وهذا النوع من الشتم لا يصدر إلا من عدو لدود حقود!
قال الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ: الاستهزاء بالإسلام أو بشيء منه كفر أكبر.. ومن يستهزئ بالدين والمحافظين على الصلوات من أجل دينهم ومحافظتهم عليه، يعتبر مستهزئاً بالدين، فلا تجوز مجالسته، ولا مصاحبته بل يجب الإنكار عليه، والتحذير منه ومن صحبته، وهكذا من يخوض في مسائل الدين بالسخرية والاستهزاء يعتبر كافراً [ ].
وفي قوله المتفق عليه:" ساب المسلم فسوق وقتاله كفر " يقول ابن حزم في الملل 3/237: فهو على عمومه؛ لأن قوله هاهنا عموم للجنس، ولا خلاف في أن من نابذ جميع المسلمين وقاتلهم لإسلامهم فهو كافر ا- هـ.
وعليه ينبغي التفريق بين من يقاتل المسلمين لدينهم وإسلامهم وبين من يقاتل بعضهم لدنيا أو لتأويل تأوله .. فالأول يكفر، والآخر لا يكفر.
والذي حملنا على الإشارة إلى ذلك أن كثيراً من الإخوان الطيبين يقيسون قتال طواغيت الحكم المعاصرين على قتال الحجاج .. وقتله لبعض كبار التابعين .. مبررين قتالهم للمسلمين بأن الذين قاتلهم وقتلهم الحجاج هم أعظم وأجل ممن يُقتلون اليوم على أيدي طواغيت الحكم المعاصرين .. ومع ذلك كثير من السلف لم يكفر الحجاج .. ولم يُعرف عن أحدٍ منهم أنه كفر أمراءه من الأمويين ؟!
وفات هؤلاء أن قتال طواغيت الحكم المعاصرين وقتلهم للمسلمين ومحاربتهم لهم .. هو لتدينهم وإسلامهم .. ومن قبيل محاربة الإسلام الذي يدينون به ويطالبون بتحكيمه .. بخلاف قتال الحجاج وأمرائه الأمويين لمن خالفهم من المسلمين فإنه كان عن تأويل أو قل من أجل الدنيا، وتثبيت دعائم الملك والحكم .. ولم يكن من أجل إسلامهم والتزامهم بتعاليم الإسلام .. أو من أجل مطالبتهم بتحكيم الشريعة أبدا!
فالفرق شاسع بين الفريقين .. وبين الدوافع لكل منهما على القتل والقتال .. وبالتالي فإن
قياس أحد الفريقين على الآخر قياس باطل وفاسد ولا يجوز.
ـ المسألة الرابعة: شبهة الاستدلال بانتفاء قصد الكفر.
كثر كلام مرجئة العصر على انتفاء " قصد الكفر " كمانع من موانع التكفير .. حيث مما اشترطوه لتكفير المعين أن يقصد الكفر مما يقترفه من الكفر .. وجعلوا سبّ الدين ليس بكفر ما لم يكن صاحبه يقصد الكفر من سبه!
وهذا شرط باطل ما أنزل الله به من سلطان .. ولم يقل به عالم معتبر .. وهو بخلاف ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، كما في قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ . لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ التوبة:65-66. وهؤلاء لما قالوا ما قالوه لم يكن على وجه قصد الكفر .. وإنما كان على وجه الخوض واللعب .. ومع ذلك قال تعالى فيهم: لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم .
وقال تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً . أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً الكهف:103-105.
فهؤلاء قد أثبت الله تعالى لهم الكفر مع كونهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً .. ومع انتفاء كونهم يقصدون الكفر .. فهم لا يقرون أنهم على خطأ فضلاً عن أن يقروا أنهم يقصدون الكفر .. ومع ذلك قال تعالى عنهم: أولئك الذين كفروا فحبطت أعمالهم .
بل لو تأملنا ملل الكفر كلها لما وجدنا منهم ملة تقول وتعترف أنها تقصد وتريد الكفر .. ولو رميتهم بالكفر لأنكروا عليك أشد الإنكار .. ولرموك أنت بالكفر لرميك لهم بالكفر!
قال ابن جرير في التفسير: والصواب من القول في ذلك عندنا، أن يُقال: إن الله عنى بقوله: هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً كل عامل عملاً يحسبه فيه مصيباً، وأنه لله بفعله ذلك مطيع مُرضٍ، وهو بفعله ذلك لله مسخط، وعن طريق أهل الإيمان به جائر كالرهبانية والشمامسة، وأمثالهم من أهل الاجتهاد في ضلالهم، وهم مع ذلك من فعلهم واجتهادهم بالله كفرة، من أهل أي دين كانوا.
وقوله: وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً يقول: وهم يظنون أنهم بفعلهم ذلك لله مطيعون، وفيما ندب من عباده إليه مجتهدون، وهذا من أدل الدلائل على خطأ قول من زعم أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يقصد إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته ..ا- هـ.
وقال ابن حجر في الفتح تحت باب من ترك قتال الخوارج للتألف 12/315: وفيه أن من المسلمين من يخرج من الدين من غير أن يقصد الخروج منه، ومن غير أن يختار ديناً على دين
الإسلام، وأن الخوارج شر الفرق المبتدعة .. ا- هـ.
وقال ابن تيمية في الصارم، ص177: وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كفر كفرَ بذلك وإن لم يقصد أن يكون كافراً؛ إذ لا يقصد الكفر أحدٌ إلا ما شاء الله ا- هـ.
فإن قيل: كيف تفسر قول ذلك الرجل كما في الصحيح:" اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح " ..؟!
أقول: ذلك الرجل لم يكن يقصد قول الكفر .. كما في عبارته المذكورة أعلاه .. ولو قصد أن يقول قول الكفر كما في مقولته .. لكفر وإن زعم أنه كان يخوض ويلعب ولم يكن يقصد الكفر.
يوجد فرق بين عدم قصد قولِ أو فعل الكفر .. وبين عدم قصد الكفر .. ومن تكلم من أهل العلم عن ضرورة مراعاة القصد أراد النوع الأول من القصد .. وهو هل يقول الكفر أو يفعله عن قصدٍ له أم أنه وقع فيه عن خطأ وزلة لا قدرة له على تفاديها أو دفعها .. كخطأ ذلك الذي قال مقولته الآنفة الذكر .. وأخطأ من شدة الفرح؟!
فأهل السنة يشترطون أن يكون قاصداً للقول أو الفعل .. وأهل الإرجاء والأهواء يشترطون أن يكون قاصداً للكفر من ذلك القول أو الفعل .. والفرق بينهما بيِّن وشاسع!
وعليه فإننا نقول: كل من قصد أن يقول قولاً أو يفعل فعلاً كفرياً فإنه يكفر .. وإن كان قوله أو فعله للكفر كان على وجه الخوض أو اللعب، أو الهزل .. ولم يقصد منه الكفر .. ولم يمارسه على وجه الاعتقاد أو الاستحلال.
ومما ينبغي أن يُراعى فيه القصد كذلك .. عندما يكون الكفر متشابهاً وحمال أوجه .. يحتمل الكفر من وجه، ويحتمل خلافه من وجه آخر .. فهنا قواعد الشريعة تلزمنا أن نتبين من قصد ومراد ذلك المعين ومعرفة الدافع الذي حمله على الوقوع في هذا النوع من الكفر المتشابه الغير محكم قبل أن يُحكم عليه بالكفر .. ولا يجوز أن يُقال ذلك عند ورود الكفر البواح المحكم كالسب والطعن أو الاستهزاء بالدين. ـ المسألة الخامسة: حكم المرتد، وتبعات الارتداد عن الدين..؟
بعد أن بينا بالأدلة من الكتاب والسنة، وأقوال علماء الأمة على أن شاتم الله والدين كافر مرتد، لا بد للقارئ من أن يدرك خطورة هذا الحكم، وتبعاته على صاحبه في الدنيا والآخرة، ليحذر ويُحذره الآخرين.
والإجابة على هذه المسألة نجملها في النقاط التالية:
1- المرتد عن الإسلام إلى الكفر، حكمه القتل، لقوله : " من بدل دينه فاقتلوه" سواء كان المرتد عن دينه ذكراً أم أنثى، ومن كانت ردته من جهة الشتم والسب ففي استتابته تفصيل وخلاف كما تقدم.
2- يحرم نكاحه من مسلمة، فلا يعقد له قران، فإن كان متزوجاً يفسخ العقد ويفرق بينهما .. والفسخ على الراجح لا تُحسب من ضمن الطلقات الثلاث .. لأن الكافر لا يجوز أن يزوج من مسلمة، وأن تبقى له عليها ولاية كما قال تعالى: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ الممتحنة:10.
كما لا يجوز أن يُقر على الزواج من مشركة لأن دمه هدر.
3- يحرم عليه دخول المسجد، وبخاصة الحرم المكي، لقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا التوبة:28. ولقوله تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ التوبة:17.ولقوله تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لتوبة:18.
4- يفقد بالردة ولا يته على أولاده وبناته، فلا يجوز له أن يتولى تزويج بناته وأبنائه، لأنه لا ولاية للكافر على المسلم، كما قال تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً النساء:141.
وقال ابن عباس: لا نكاح إلا بولي مرشد، وأعظم الرشد وأعلاه دين الإسلام، وأسفه السفه وأدناه الكفر والردة عن الإسلام، قال الله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ البقرة:130.[ ].
5- لا يرث المسلم ولا يورثه، لأنه لا توارث بين أهل الإيمان وأهل الكفر، لقوله :" لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم" مسلم. وفي انتقال ميراثه لأبنائه من المسلمين تفصيل وخلاف، فقد نقل عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه دفع ميراثه إلى ولده من المسلمين ومثله عن ابن مسعود[ ]، والله تعالى أعلم.
6- تحريم ذبائحه؛ لأن من شروط صحة الذبح أن يكون الذابح مسلماً أو كتابياً، قال الخازن في تفسيره: أجمعوا على تحريم ذبائح المجوس وسائر أهل الشرك من مشركي العرب وعبدة الأصنام ومن لا كتاب له.
وقال الإمام أحمد: لا أعلم أحداً قال بخلافه إلا أن يكون صاحب بدعة.
7- وهو إن مات لا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ولا يدعى له بالرحمة والمغفرة، ولا يقبر في مقابر المسلمين، وإنما يوارى كما توارى الجيف والكلاب عند النتن، وقد قال النبي لعلي بن أبي طالب لما مات أبو طالب:" اذهب فواره " ثم أمره بالاغتسال[ ].
ومنه يعلم تفريط كثير من المسلمين في هذه المسائل، حيث أنهم ـ وللأسف ـ لا يميزون بين المرتد وغيره، ولا يوجد عندهم ميت لا تجوز الصلاة عليه، بل لمجرد أن الميت ينتسب لأبوين مسلمين أو أسمه إسماً إسلامياً فهذا كاف لأن يصلوا عليه، وأن يجروا عليه مراسم الدفن الشرعية، وإن كان في حياته عدواً للإسلام والمسلمين، شتاماً للرب والدين.. لا يؤمن بالله ورسوله، ولا باليوم الآخر!!
وكم من مرة رأينا أهل الميت يدفعون ميتهم إلى داخل المسجد ليصلي عليه المشايخ .. وهم ينتظرون ويتفرجون خارج المسجد ..!!
8- ثم في الآخرة فمصيره إلى العذاب الشديد، إلى جهنم وبئس المصير، خالداً فيها أبداً، كما قال تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ البقرة:217.
ـ المسألة السادسة: كيف ينبغي أن يُعامَل الشاتم للدين، في ظل غياب تطبيق الحدود الشرعية؟
من أشد ما ابتليت به الأمة في هذا الزمان غياب تطبيق الحدود الشرعية في كثير من أمصار المسلمين، مما أتاح للعصاة والمرتدين أن يعيثوا في الأرض فساداً وفجوراً، نهاراً جهاراً، ومن دون نكير أو حسيب، بل من ينكر عليهم يُنكر عليه .. ويؤخذ بالنواصي والأقدام إلى سجون الظالمين لتجرئه على حقوق وحريات الآخرين ..!
والذي يعنينا هنا ـ في هذا البحث ـ من بين العصاة والمرتدين، هو الشاتم المستهزئ بالله والدين؟
أقول: القاعدة الشرعية تقول: " الميسور لا يسقط بالمعسور " لقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ التغابن:16. ولقوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا َ البقرة:286.
وعليه فإنه يجب أن ينكر على الشاتم المستهزئ .. قدر المستطاع، لقوله في الصحيح:" من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف
الإيمان". وفي رواية:" فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". لأنه ليس وراء إنكار القلب سوى الإقرار والرضى، والرضى بالكفر كفر بلا خلاف.
فإن وجد أن النصح ينفعه .. يستحب نصحه وتعليمه، وتحذيره من مغبة الكفر الذي هو عليه، فإن أصر وعاند، وجب هجره واعتزاله، وتحذير الناس منه ومن صحبته، ولا تجوز مجالسته، ولا مؤاكلته.. تبكيتا و إصغاراً.
قال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ المائدة:79.
روى الطبري بسنده عن ابن مسعود قال، قال رسول الله :" إن بني إسرائيل لما ظهر منهم المنكر، جعل الرجل يرى أخاه وجاره وصاحبه على المنكر، فينهاه، ثم لا يمنعه ذلك من أن يكون أكيله وشريبه ونديمه، فضرب الله قلوب بعضهم على بعض، ولُعنوا على لسان داود وعيسى ابن مريم، قال عبد الله: وكان رسول الله متكئاً، فاستوى جالساً، فغضب وقال: لا والله، حتى تأخذوا على يدَي الظالم فتأطروه على الحق أطراً"وفي رواية قال:" والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهمن عن المنكر، ولتأخذن على يد المسيء، ولتؤطرنه على الحق أطراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض، وليلعننكم كما لعنهم"[ ].
وكذلك لا يجوز تزويجه، ولا السعي في تزويجه، بل يجب تحذير الناس منه ومن أن يزوجوه بناتهم، وتعريفهم بحاله وكفره وردته، وأن الزواج منه باطل ولا يجوز .. لعله يشعر بثقل جرمه وكفره فينزجر.
نشير إلى ذلك لأن كثيراً من الآباء وأولياء الأمور ـ وللأسف ـ لا يهتمون بهذا الجانب، ولا يبالون أن يزوجوا بناتهم من الرجل المقرش الميسور، ولو كان شتاماً للرب والدين، تاركاً للصلاة .. علمانياً ملحداً ..فتأتي النتائج وبالاً عليهم وعلى بناتهم وذرياتهم..!!
وكذلك عند مماته يجب اعتزال جميع مراسم التشييع والدفن والتعزية، و إعلام الناس بالسبب المانع لذلك، تبكيتاً وتصغيراً لأمثاله من الكفرة المرتدين .. عسى أن يحسوا بعظم جرمهم فيتوبوا إلى الله.
وهنا ترد شبهة خبيثة يذكرها الشاتم نفسه، أو من يدافعون عنه ـ قد سمعناها منهم مراراً
ـ وهو قولهم لمن ينكر على الشاتم: أنت تريد أن تدافع عن ربنا، دعه، الله يتولى حسابه ..؟!
وهذا كلام باطل لا يصح، وذلك من وجوه:
أولاً: أن هذا القول كفر بذاته، لتضمنه إنكار وجحود وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. وأن العباد لا ينبغي أن يكون لهم سلطان على أهل المنكر والكفر .. وهذا بخلاف عشرات النصوص من الكتاب والسنة التي تلزم المسلمين بأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر.
ثانياً: لمعارضته لما تقدم من أن المنكر يجب أن ينكر بحسب الاستطاعة، وأن السكوت عن المنكر ـ مع وجود المقدرة على إنكاره ـ فيه هلاك للبلاد والعباد، كما في الصحيح:" فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاًًً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً".
ثالثاً: فإن تقديس الله تعالى وتعظيمه وتوقيره، هو حق عام على جميع الخلق كافرهم ومؤمنهم؛ لذا فإن شتم الخالق سبحانه وتعالى يعتبر اعتداء على حق عام يطال مشاعر جميع الناس، وينال أقدس وأعز ما في نفوسهم، وهذا لا يجوز أن يُسمح به أو يسكت عنه تحت أي طائلة أو ذريعة كانت.
رابعاً: ما تقدم لا يتنافى ولا يتعارض مع كون الله يتولى حسابه يوم القيامة، كما قال تعالى: وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا َ التوبة:52. والذي يكون بأيدينا عندما يظهروا لنا باطلهم وكفرهم .. والذي من عنده يكون يوم القيامة يوم أن يقبضهم إليه .. فيعذبهم عذاباً أليماً.
يتبع