مــــــــــــــــــــــنــــــتدى ألتــــــــــــــــــــوحيـــــــــــد
حياكم الله وبياكم في منتدى التوحيد
يسعدنا تسجيلكم ومشاركتكم اسره المنتدى
مــــــــــــــــــــــنــــــتدى ألتــــــــــــــــــــوحيـــــــــــد
حياكم الله وبياكم في منتدى التوحيد
يسعدنا تسجيلكم ومشاركتكم اسره المنتدى
مــــــــــــــــــــــنــــــتدى ألتــــــــــــــــــــوحيـــــــــــد
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

مــــــــــــــــــــــنــــــتدى ألتــــــــــــــــــــوحيـــــــــــد

حياكم الله وبياكم في منتدى التوحيد
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته,,الى اخواننا الاعضاء والمشرفين والاداريين نبلغكم بانتقال المنتدى الى الرابط التالي http://altawhed.tk/ علما ان المنتدى هذا سيغلق بعد مده نسئلكم الدعاء وننتظر دعمكم للمنتدى الجديد وفقنا الله واياكم

 

 كتاب خواطرٌ وأفكار في فقهِ الدَّعوَةِ إلى الله لابو بصير الطرطوسي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
حامل المسك1
المدير العام
المدير العام
حامل المسك1


كتاب خواطرٌ وأفكار في فقهِ الدَّعوَةِ إلى الله لابو بصير الطرطوسي 190070434
عدد المساهمات : 226
نقاط : 421
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 03/04/2011
الموقع : بلاد الرافدين

كتاب خواطرٌ وأفكار في فقهِ الدَّعوَةِ إلى الله لابو بصير الطرطوسي Empty
مُساهمةموضوع: كتاب خواطرٌ وأفكار في فقهِ الدَّعوَةِ إلى الله لابو بصير الطرطوسي   كتاب خواطرٌ وأفكار في فقهِ الدَّعوَةِ إلى الله لابو بصير الطرطوسي I_icon_minitimeالأحد أبريل 10, 2011 5:32 am

خواطرٌ وأفكار
في
فقهِ الدَّعوَةِ إلى الله

عبد المنعم مصطفى حليمة
" أبو بصير الطرطوسي "

بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ آل عمران:102.
 يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً  النساء:1.
 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً الأحزاب:70-71. أما بعد:
فإن أصدَقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ  ، وشرَّ الأمورِ محدثاتها، وكلَّ محدثَةٍ بدعة، وكُلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
وبعد، هذه جملة من الخواطر والأفكار والتوجيهات الهامة، تتعلق بفقه الدعوة إلى الله تعالى، ينبغي على كل من يسير في طريق الدعوة إلى الله أن يتفطنوا لها، ويعملوا بها، فهي للعالم منهم تذكير، والغافل منهم تنبيه .. أسجلها في النقاط التالية:
1- اعلم أن أشرف وأحسن عمل على الإطلاق؛ هو عمل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ـ ومن يرثهم ويسير على نهجهم من العلماء العاملين ـ وهو الدعوة إلى الله تعالى، وإلى توحيده، كما قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ فصلت:33. أي لا أحد أحسن ممن كان هذا وصفه وحاله.
وقال تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ آل عمران:104.
وفي الحديث، فقد صح عن النبي  أنه قال:" أفضلكم من تعلَّمَ القرآنَ وعَلَّمَه " البخاري.
وقال :" إن العالِمَ ليستغفرُ له مَن في السماواتِ ومَن في الأرض، حتى الحِيتان في الماءِ، وفضلُ العالمِ على العابد كفضلِ القمرِ على سائرِ الكواكب، وإنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ، إنَّ الأنبياءَ لم
يُورِّثوا ديناراً ولا دِرهماً، إنما ورَّثوا العِلْمَ، فمَن أخذَهُ أخذَ بحظٍّ وافرٍ "[ ].
وقال :" فضلُ العالمِ على العابد، كفضلي على أَدناكُم، إنَّ اللهَ وملائكتَهُ وأهلَ السماوات والأرض حتى النَّملَة في جُحرها، وحتى الحوتَ، ليصلون على معلِّمي الناسِ الخيرَ "[ ].
وهذا داعٍ للداعية إلى الله تعالى أن يَرتفع بهمته، وأخلاقه، وسلوكه إلى مستوى الأمانة الملقاة على عاتقه .. إلى مستوى شرف المهمة العظيمة الموكلة إليه؛ وهي الدعوة إلى الله تعالى .. فأعمالُه تصدق أقوالَه، وأقوالُه تُصدق أعمالَه، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ الصف:2-3.
وقال :" يُجَاءُ برجلٍ فيُطرَحُ في النار، فيطحنُ فيها كما يَطحنُ الحمارُ برحاه، فيطيفُ بهِ أهلُ النار، فيقولون: أي فلان، ألستَ كنتَ تأمرُ بالمعروف وتَنهى عن المنكر؟ فيقول: إنِّي كنتُ آمرُ بالمعروفِ ولا أفعلُه، وأنهى عن المنكرِ وأفعَلُه!" البخاري.
وقال :" مَررتُ ليلة أُسرِي بي بأقوامٍ تُقرَضُ شِفاهُهم بمقاريضَ من نار، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: خُطباءُ أمَّتِكَ الذين يقولونَ مالا يفعلون " متفق عليه.
2- اعلم أن الغاية من الدعوة إلى الله تعالى، هي إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
غاية الدعوة إلى الله تعريف العباد بالغاية التي خُلِقوا لأجلها، ومن ثم هدايتهم إليها[ ]، وترغيبهم وتشويقهم بها، وتحذيرهم من عواقب ومغبة مخالفتها .. هذه هي الغاية من الدعوة، ومن عمل جميع الدعاة إلى الله.
هذه مهمة الأنبياء وورثتهم من العلماء والدعاة من لدن آدم  وإلى قيام الساعة .. لا مهمة
لهم سواها.
قال تعال: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ النحل:36.
وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ الأنبياء:25.
وقال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[ ]الذاريات:56.
وقال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [ ]التوبة:31.
وقال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ البينة:5.
فغاية الداعية إلى الله تحقيق التوحيد، وحمل الناس على التوحّد على التوحيد، فالوحدة والتَّوحد بين المسلمين مطلب عظيم، وغاية نبيلة تستشرف لها أعناق النبلاء والشرفاء من الدعاة، لكن لا يجب أن تكون هذه الغاية على حساب الغاية الأعظم؛ ألا وهي غاية التوحيد، أو أن يُسعى إليها بمنأى عن التوحيد .. فهذا لا يمكن تحقيقه .. فنهايته إلى فشل وتفرق .. ثم هو عمل غير مبارك، وهو مخالف لما كان عليه النبي  من منهج في توحيده لكلمة المسلمين .. إذ لم يكن من مسعى النبي  ـ حاشاه ـ أن يوحد الكلمة، ويجمع الشمل تحت أي راية أو شعار أو دين .. غير راية التوحيد، وكلمة وشعار التوحيد، ودين رب العالمين.
قال تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ آل عمران:103. فلم يأتِ الأمر بالاعتصام مجرداً، بل جاء مقيداً  بِحَبْلِ اللّهِ ، وحبل الله هو القرآن .. هو الإسلام .. هو التوحيد.
وقال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ
إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً النساء:175. فالذين يؤمنون بالله، ويعتصمون ويتوحدون على القرآن وتعاليمه، هم الذين يدخلهم الله تعالى  فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً .
وقال تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ المائدة:14. فلما نسوا حظاً من الدين والتوحيد ـ وليس كل الدين ـ كانت النتيجة جزاء على نسيانهم وإعراضهم لهذا الحظ من الدين أن أغرى الله تعالى بينهم  الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وهذا ليس لهم وحسب، بل لو أن أمة الإسلام وقعت في شيء من ذلك؛ فنست حظاً من الدين والتوحيد، فحينئذٍ تكون العقوبة ذاتها، وهي أن يغري الله تعالى فيما بين المسلمين العداوة والبغضاء والتنازع والتفرق، فليس لهم كل حلوة، ولنا كل مرة!
فالتآلف بين القلوب، واجتماعها على كلمة سواء، مِنَّة ونعمة يمنُّ اللهُ تعالى بها على من يشاء من عباده، وما عند الله تعالى من نعم وفضل يُطلَب بطاعته وتوحيده، لا بمعصيته ونسيان حظٍّ أو حظوظ من الدين والتوحيد، كما قال تعالى: لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ الأنفال:63.
ولما أبى دعاة القومية العربية إلا أن يوحدوا العرب على المعصية، بمنأى عن الدين والتوحيد، باؤوا بالفشل الذريع، وازدادوا تفرقاً وانقساماً بعضهم على بعض .. ولا يزالون!
3- مراعاة الأهم فالأهم في الدعوة إلى الله تعالى، وبحسب نوع وحاجة الطرف المقابل المراد دعوته إلى الله تعالى.
فإن كان كافراً لم يسبق له أن دخل الإسلام، فتنحصر الدعوة معه حينئذٍ على تعريفه بالمعبود بحق ، ومن ثم حمله على الاستجابة لشهادة التوحيد " أشهد أن لا إلا الله، وأشهد أن محمداً رسولُ الله "، ولمتطلباتها.
ويقتصر العمل معه على مرحلتين: المرحلة الأولى؛ حصر الدعوة في قيام الحجة الشرعية عليه بأن الله حق، وأن محمداً  حق، وأن البعث والنشور حق، وأن الجنة لمن أطاع، والنار لمن عصى حق .. كأن يقول له: إن الله تعالى قد أرسل محمداً بن عبد الله للعالمين رحمة وبشيراً ونذيراً، أرسله بـ " لا إله إلا الله "؛ أي لا معبود في الوجود بحق إلا الله، وهي دعوة جميع الأنبياء والرسل من قبله، فمن آمن به وأطاعه دخل الجنة، ومن كذبه وعصاه دخل النار .... هذه الكلمات ومثيلاتها تكفي في المرحلة الأولى لقيام الحجة الشرعية على الطرف المدعو المقابل، والتي لو ردها يكون قد رد الحجة الشرعية، الذي بموجبه يستحق العذاب والوعيد يوم القيامة.
المرحلة الثانية: هي مرحلة التوسع في النقاش والجدال بالتي هي أحسن، حول أحقية الكلمات الواردة أعلاه، والاستدلال على الطرف المقابل المخالف بالأدلة النقلية والعقلية التي تدلل وتثبت بأن الله تعالى حق، وأنه تعالى هو المعبود بحق لا إله إلا هو .. وأن الله تعالى يُحب ـ ويجب ـ أن يُعبَد بما يُحب ويرضى ـ لا بما يحب الإنسان ويهوى ـ ولا سبيل للإنسان في تحقيق ذلك إلا من خلال الإيمان بالأنبياء والرسل، ومتابعتهم فيما يخبرون ويبلغون عن ربهم.
إذ لا يُستحسَن في هذه المرحلة أن تُطرَح عليه مسائل فقهية، أو يُسمَح له أن يخوض طويلاً في المسائل الفقهية الفرعية والعملية .. بعيداً عن أصل الأصول: من المعبود بحق في الوجود الذي يجب أن تُصرف له العبادة وحده.
لماذا؟
لسببين: أولهما أنه مخالف لمنهج الأنبياء في الدعوة إلى الله تعالى، كل الأنبياء، الذين كانوا لا يقبلون من أقوامهم عملاً إلا بعد أن يُجيبوهم أولاً إلى لا إله إلا الله، كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ النحل:36.
وقال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ  هكذا نبتدئ معهم الخطاب، فنقول لهم: تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ  لا نتعدى هذا الخطاب التوحيدي إلى غيره قبل أن يجيبونا إليه  فَإِن تَوَلَّوْاْ ؛ وأعرضوا عن التوحيد لا نخوض معهم في بقية واجبات الدين ونوافله، ولا نبحث عن قواسم وعوامل مشتركة تجمع بين أهل الشرك والتنديد وبين أهل التوحيد، بل نقول لهم كما أمرنا ربنا أن نقول: فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ آل عمران:64. ونقول لهم: إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ الممتحنة:4. ونقول لهم: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مريم:48. ونقول لهم: أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ الأنبياء:67[ ].
وفي الحديث، فقد صح عن النبي  أنه قال:" أُمِرتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسولُ الله، ويُقيموا الصلاةَ، ويُؤتوا الزكاةَ، فإذا فعلوا ذلك عَصَمُوا مني دماءَهُم وأموالَهم إلا بحقِّ الإسلام، وحسابُهم على الله " متفق عليه.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله  لمعاذ بن جبل حين بعثَهُ إلى اليمن:" إنك ستأتي قوماً من أهلِ الكتاب؛ فإذا جئتهُم فادعهُم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهُم أنَّ الله قد فرضَ عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرضَ عليهم صدقةً، تُؤخَذُ من أغنيائهم، فتُرَدُّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإيَّاك وكرائمَ أموالهم، واتقِ دعوةَ المظلوم، فإنه ليس بينَهُ وبين الله حجاب "[ ]البخاري. فتأمل هذا التسلسل في الدعوة إلى الله تعالى؛ فليكن أول ما يدعوهم إليه شهادة " أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله " فإن أجابوه إليها، دعاهم إلى ما بعدها، بحسب التسلسل الوارد في الحديث، وإن لم يُجيبوه إليها، يُمسك عن الدعوة إلى ما سواها، لأن الالتزام بما سوى التوحيد من دون التوحيد، لا ينفع صاحبه في شيء، كما قال تعالى: وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ الأنعام:88. وقال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً الفرقان:23.
وعن ابن عباس قال: لما مرض أبو طالب دخل عليه رهطٌ من قريش منهم أبو جهل فقالوا: يا أبا طالب ابن أخيك يشتم آلهتَنا يقول ويقول، ويفعل ويفعل، فأرسل إليه فانهه، قال: فأرسل إليه أبو طالب وكان قُربَ أبي طالب موضع رجل، فخشي إن دخل النبي  على عمه أن يكون أرقَّ له عليه، فوثب فجلس في ذلك المجلس، فلما دخل النبي  لم يجد مجلساً إلا عند الباب فجلس، فقال أبو طالب: يا ابن أخي إن قومَك يشكونك؛ يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول، وتفعل وتفعل؟ فقال :" يا عم إني إنما أريدُهم على كلمةٍ واحدة تدين لهم بها العربُ، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية " قالوا: وما هي؟ نعم وأبيكَ عشراً!قال:" لا إله إلا الله "، قال: فقاموا وهم ينفضون ثيابهم وهم يقولون: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ص:5.[ ].
وقال تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ الصافات:35.
وقال تعالى: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ الزمر:45.
عُرِضت على النبي  مصالح الدنيا كلها من دون لا إله إلا الله، فأباها، وأبى إلا أن تكون أولاً لا إله إلا الله .. فأتته الدنيا بعد ذلك صاغرة راغمة.
وهذا يُقال أيضاً لطواغيت العصر من بني جلدتنا الذين حادوا الله ورسوله، وشاقوا النبي  والذين آمنوا، وناصبوا الإسلام والمسلمين الحرب والعداء .. أن أجيبوا أولاً إلى لا إله إلا الله، وادخلوا في سلمها كافّة .. ثم بعدها لا يكون إلا خيراً.
لا نقبل أن تُثار المعركة مع هؤلاء الطغاة ـ كما يفعل كثير ممن يُحسبون على المعارضة الإسلامية لأنظمة أولئك الطغاة ـ على أنها معركة من أجل الحريات .. أو من أجل بعض الكراسي والمناصب السيادية .. والمكاسب الدنيوية .. بعيداً عن لا إله إلا الله .. وأطرهم إلى العمل بلا إله إلا الله!
مشكلتنا ومشكلة الإسلام الأساسية مع طغاة الحكم هؤلاء .. هي لا إله إلا الله .. هي من المعبود بحق الله أم الطاغوت .. من المطاع لذاته في الأرض الله أم الطاغوت .. فيمن يُعقد فيه الولاء والبراء الله أم الطاغوت .. لمن السيادة .. لمن الحكم .. وحق التشريع والتحليل والتحريم، والتحسين والتقبيح .. لله أم للطاغوت؟
هذه هي مشكلتنا ـ ومشكلة الإسلام ـ الأساسية مع الطغاة كل الطغاة ... فإن أجابوا صادقين عما تقدم من أسئلة، بجواب واحد: هو الله وحده .. حينئذٍ كفى الله المؤمنين القتال .. وانقلبت المعارضة إلى موافقة .. والتأمت الصفوف، وانتهت المنازعات والمناكفات، وانقلبنا جميعاً أخوة في الله متحابين متآلفين.
وإن كان الجواب خلاف ذلك: هو الطاغوت وحزبه .. حينئذٍ نقول لهم ما قال إبراهيم  ومن آمن معه لقومهم: إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ الممتحنة:4.
حينئذٍ يُعمَلُ بسنّة التدافع بين الحق والباطل، حتى لا تغرق سفينة الإنسانية في أوحال الكفر، والشرك، والإلحاد، والفجور، والفساد، كما قال تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ الأنبياء:18.
لا ينفع حينئذٍ الحديث عن المشاركة في الحكم .. ولا الحديث عن التعايش بين الحق والباطل، ولا البحث عن القواسم المشتركة التي تجمع بين الحق والباطل .. ولا الحديث عن المكاسب والمصالح التي تتأتى من هذه الوظيفة السيادية أو تلك .. كما لا ينفع الحديث عن الفساد الوظيفي .. والإصلاحات في بعض مرافق الحياة .. فمعركة الحق مع الباطل ليست حول بعض المكاسب .. والوظائف .. والحصص .. والفُتات الذي يُرمى من قبل الطغاة على العتبات ... فهذا كله من قبيل ترقيع ما لا يمكن ترقيعه .. لأن أصل الأصول مخروم عند القوم!
معركة الحق مع الباطل تكمن في الجواب ـ بكل جلاء ووضوح ـ عن هذا السؤال لا غير: الله أم الطاغوت ..؟!

يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حامل المسك1
المدير العام
المدير العام
حامل المسك1


كتاب خواطرٌ وأفكار في فقهِ الدَّعوَةِ إلى الله لابو بصير الطرطوسي 190070434
عدد المساهمات : 226
نقاط : 421
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 03/04/2011
الموقع : بلاد الرافدين

كتاب خواطرٌ وأفكار في فقهِ الدَّعوَةِ إلى الله لابو بصير الطرطوسي Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب خواطرٌ وأفكار في فقهِ الدَّعوَةِ إلى الله لابو بصير الطرطوسي   كتاب خواطرٌ وأفكار في فقهِ الدَّعوَةِ إلى الله لابو بصير الطرطوسي I_icon_minitimeالأحد أبريل 10, 2011 5:34 am

ثانياً: أن الابتداء بفروع الدين ومسائله الفقهية العملية قبل لا إله إلا الله، مع من يفقد لا إله إلا الله، يترتب عليه محاذير عدة، منها: صعوبة انقياد المَدعو إلى الإسلام، إذ تراه عند مورد كل مسألة من مسائل الدين يرى من حقه أن يطرح عليك عدة أسئلة اعتراضية تعقيبية: لماذا .. وكيف .. وما هي الحكمة .. وغير ذلك من التساؤلات التي تستهلك من الداعية وقته وجهده كله .. ثم في النهاية اقتناعه بها ـ لو اقتنع بها ـ لا يعني دخوله في الإسلام .. بخلاف من يُبدأ معه بلا إله إلا الله .. فإن اقتنع بها ومن ثم نطق بها، دخل الإسلام .. وسهل انقياده لجميع مسائل الدين وفروعه .. لأنه يعلم منذ اللحظة الأولى من نطقه لشهادة التوحيد .. أن من مقتضيات هذه الشهادة .. الاستسلام والانقياد لجميع ما أمر الله به، والانتهاء عمّا نهى عنه .. من غير تعقيب ولا اعتراض ولا حرج.
ومنها: أن امتثاله لفروع الإسلام قبل شهادة التوحيد، لا يعني شيئاً، ولا يُقبل منه، ولا ينفعه في شيء، كما قال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ الزمر:65.
وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت يا رسول الله ابن جَدْعَان كان في الجاهلية يصلُ الرحمَ، ويُطعِمُ المسكين، فهل ذلك نافِعُهُ؟ قال:" لا ينفعه؛ إنه لم يقل يوماً ربِّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين " مسلم.
وقد أتى النبيَّ  رجلٌ مقنّع بالحديد، فقال: يا رسولَ الله، أقاتل وأسلِم؟ قال:" أسلم ثم قاتل "، فأسلمَ ثم قاتل فقُتِل، فقال رسولُ الله :" عمل قليلاً وأجِرَ كثيراً " البخاري.
4- إن كان المدعو مسلماً ومن أهل القبلة، أي سبق له أن دخل الإسلام، ينبغي حينئذٍ النظر إلى جوانب القصور والتفريط عنده، فيُعطى ما يُناسبه، وتوجه له الدعوة التي تجبر قصوره وتفريطه، وهذا يستدعي تشخيصاً دقيقاً من الداعية لحالة الشخصية التي يدعوها ويوجه لها الخطاب؛ هل تقصيره يأتي من جهة الإيمان والاعتقاد، أم من جهة التفريط ببعض واجبات الدين، وأركانه .. أم من جهة مقارفة بعض الذنوب والمنكرات .. وهل انحرافاته من جهة الشبهات أم من جهة الشهوات .. فيحدد جانب الخلل والتقصير لديه .. ليعطيه ما يُناسبه من التوجيه والوعظ.
إن لم يحصل ذلك من قبل الداعية، يكون حينئذٍ مثله مثل الطبيب الذي يضع الدواء في غير موضعه المناسب، فيصرف دواء آلام الرأس على آلام البطن، ودواء آلام البطن على آلام الرأس!
من هنا ندرك سبب اختلاف وتنوع وصايا النبي المصطفى  لأصحابه، بحسب حاجة كل صحابي وما يناسبه؛ إذ كان من الصحابة من يقول للنبي  أوصني يا رسول الله، فيقول له النبي :" لا تغضب " البخاري.
وبعضهم يقول أوصني يا رسولَ الله، فيقول له:" اعبد الله ولا تُشرِك به شيئاً، وأقم الصلاة، وآت الزكاة، وصم رمضان، وحج البيت، واعتمر، واسمع وأطِع، وعليك بالعلانية وإياكَ والسِّر "[ ]. وبعضهم يقول أوصني يا رسولَ الله، فيقول له:" أوصيك بتقوى الله، والتكبير على كل شِرفٍ "[ ]. وبعضهم يقول أوصني يا رسول الله، فيقول له:" فلا تقل بلسانك إلا معروفاً، ولا تبسط يدَك إلا إلى خير "[ ].
وبعضهم يقول أوصني يا رسول الله، فيقول له:" أوصيك بتقوى الله فإنه رأس كل شيء وعليك بالجهاد فإنها رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض "[ ].
وبعضهم يقول أوصني يا رسولَ الله، فيقول له:" استقم، ولتُحسِن خلُقك ". وبعضهم يقول أوصني يا رسولَ الله، فيقول له:" عليك بالإياس مما في أيدي الناس، وإياك والطَّمع، فإنه فقر حاضر، وإياك وما يُعتذَر منه ". وهكذا كان النبي  يوصي كل إنسان بما يُناسبه ويحتاجه .. وهذا فقه عظيم ينبغي للدعاة أن يتنبهوا له.
5- استخدام الترغيب، ونصوص الوعد، في مواطن اليأس والقنوط، واستخدام الترهيب ونصوص الوعيد في مواطن الجفاء والتفريط، لتعتدل الأمور، وتجنح المواقف والأحوال إلى الوسطية من غير إفراط ولا تفريط.
والداعية الذي لا يتنبه لهذا المنهج في الدعوة إلى الله تعالى، يزيد الطين بلة، ويعين أهل اليأس والقنوط على يأسهم وقنوطهم من رحمة الله، كما يعين أهل التفريط والجفاء والغفلة على تفريطهم وجفائهم وغفلتهم، وطول الأمل والرجاء.
فمن عُرِف بشدة الخوف من ذنوبه، إلى درجة اليأس والقنوط من رحمة الله تعالى، فالسنة في دعوة هذا أن يُذكَّر بأن الله تعالى غفور رحيم، وأن رحمته وسعت كل شيء، وأن الله تعالى يغفر الذنوب لمن تاب وأناب.
ومن عُرِف بطول الأمل والرجاء، والانغماس في المعاصي والشهوات إلى درجة الاستهانة واللامبالاة، قهذا وأمثاله فالسنَّة في دعوتهم أن يُذكّروا بأن الله تعالى شديد العقاب، وأن يُبين لهم نصوص الوعيد التي تبين ما أعد الله تعالى للعصاة والمجرمين من عذاب أليم في نار جهنم[ ].
كذلك يُقال في أهل الغلو وأهل الإرجاء، فالفريق الأول يكون الحديث معهم عن سعة رحمة الله تعالى، وعن حبه تعالى للعذر، والفريق الآخر يكون الحديث معهم عن أهمية العمل، وعن الوعيد الشديد لمن يفرط بالعمل بالإيمان، أو يقصر في القيام بالواجبات، ويركن على القول والتصديق من غير عمل، ليُحمل كل طرف منهما على التوسط والاعتدال، من غير جنوح إلى إفراط أو تفريط.
وهذا يستدعي من الداعية معرفة دقيقة بأحوال من يدعوهم قبل أن يدعوهم أو يوجه إليهم الخطاب، ليرى الأسلوب النافع والأنجع الذي يناسبهم، فيبادرهم به.
6- اعتماد الخطاب الدعوي الذي يتسم بالحكمة والموعظة الحسنة، ومجادلة الآخرين المخالفين بالتي هي أحسن، كما قال تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ النحل:125. ومن المجادلة بالتي هي أحسن انتقاء أقوى التعابير وأحسنها وأجودها، وأرفقها التي بها تقوم الحجة على الآخرين، وتكون سبباً في أطرهم إلى الحق، وترغيبهم به.
فغاية الدعوة أطر الآخرين إلى الحق، وترغيبهم به، وتبشيرهم وعدم تنفيرهم، وأيما وسيلة لا تؤدي إلى هذا الغرض فالداعية غير مُلزم بالالتزام بها، بل عليه أن يتحرى الوسائل التي تُعينه على تحقيق الغاية من الدعوة الآنفة الذكر .. ومن ذلك التماس أرقى وأقوى وأحسن وأرفق أنواع الأساليب في الخطاب والجدال، التي تُؤدي ـ بإذن الله ـ إلى هذه النتيجة النبيلة .. حتى لو استدعت الحكمة نوع لينٍ ورفق في خطاب الطغاة الظالمين، وكان ذلك أدعى لهم للإنصات والإصغاء لنداء الحق، فلا حرج من ذلك، كما قال تعالى: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى . فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى طه:43-44.
قال ابن كثير في التفسير: والحاصل من أقوالهم ـ أي أقوال أهل العلم ـ أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين سهل رفيق، ليكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع ا- هـ.
وقال تعالى: وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً الإسراء:53. والداعية إلى الله تعالى هو أولى العباد في أن يقول التي هي أحسن.
وفي الحديث فقد صح عن النبي  أنه قال:" إنَّ في الجنَّةِ غُرَفاً تُرَى ظُهُورُها من بطُونِها، وبطُونُها من ظُهُورِها ". فقام أعرابيٌّ فقال: لمن هي يا رسولَ الله؟ فقال:" لمن أطَابَ الكلامَ، وأطعمَ الطعامَ، وأدامَ الصيامَ، وصلَّى بالليل والنَّاسُ نيامٌ "[ ].
وعن يزيد ابن المقدام بن شريح بن هاني، عن المقدام عن أبيه، عن هاني: أنه لما وفدَ على رسولِ الله  قال: يا رسولَ الله أيُّ شيءٍ يوجبُ الجنَّةَ؟ قال :" عليكَ بحُسْنِ الكلامِ، وبذلِ الطعامِ "[ ].
فالرفق ما يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه، وما يُنجزه الداعية للدعوة والأمة عن طريق الرفق لا ينجزه عن طريق العنف، وما سواه .. لذا يجب عليه أن يتحلى بالرفق في أموره كلها، ويكون الرفق بالنسبة له شعاراً ومنهج حياة، وما سواه حالة استثنائية طارئة ومؤقتة سرعان ما تنقضي وتزول بزوال أسبابها.
كما في الحديث فقد صح عن النبي  أنه قال:" إنَّ اللهَ رفيقٌ يُحبُّ الرِّفقَ في الأمرِ كُلِّه " البخاري.
وقال :" إنَّ اللهَ رفيقٌ يُحبُّ الرِّفقَ، ويُعطِي على الرفقِ ما لا يُعطي على العنفِ، ومَا لا يُعطي على ما سواهُ " مسلم.
وقال :" إنَّ الرِّفقَ لا يكونُ في شيءٍ إلا زانَهُ، ولا يُنزَعُ من شيءٍ إلا شانَه " مسلم.
وقال :" مَن يُحرَمِ الرِّفقَ يُحْرَمِ الخيرَ " مسلم. فالرفق أصل ومنهج، يتحلَّى به الداعية إلى الله في جميع أحواله ودعوته، والشدَّة حالة استثنائية طارئة، يُلجأ إليها بشروطها وقيودها.
وعن معاوية بن الحكم، قال: بينما أنا أُصلِّي مع رسولِ الله ، إذ عَطَس رجلٌ من القوم، فقلت: يرحمُكَ اللهُ، فرماني القومُ بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه[ ] ما شأنُكم تنظرون إلي؟! فجَعلُوا يَضربون بأيدِيهم على أَفخاذِهم فلمَّا رأيتهم يُصمِّتُونَني[ ]، لكنِّي سكَتُّ، فلمَّا صلَّى رسولُ الله  ـ فبأبي هو وأمِّي، ما رأيتُ معلِّماً قبلَه ولا بعدَه أحسن تعليماً منه ـ فوالله ما كهَرَني، ولا ضَرَبني، ولا شَتَمني، ثم قال:" إن هذه الصلاةَ لا يصلُحُ فيها شيءٌ من كلامِ النَّاس، إنما هو التَّسبيحُ والتكبيرُ وقراءةُ القرآن " مسلم.
ومن ثمرات الرفق والدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، تجنيب السفهاء من الكافرين والمجرمين من أن يسبوا الحقَّ عدواً وجهالة بغير علم، وهذا مطلب ينبغي للداعية إلى الله تعالى أن يحرص عليه، كما قال تعالى: وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ الأنعام:108.
ومن السَّبِّ أن يكون المرءُ سبباً في جلب السبِّ لنفسه ولدينه، كما في الحديث:" من الكبائر شتمُ الرجلِ والديه: يَسبُّ أبا الرجلِ، فيسبُّ أباه، ويَسبُّ أمَّه، فيسبُّ أمَّه [ ]" متفق عليه.
7- ومن المجادلة بالتي هي أحسن اللجوء إلى كلمات الله تعالى في محاججة الآخرين، وقيام الحجة عليهم، حتى لو كان الآخرون لا يُؤمنون بالله تعالى، ولا بكتبه وكلماته، فإن لكلمات الله تعالى أبلغ الأثر وأتمه وأكمله عندما تخاطب به الآخرين .. وهي أشد عليهم وطأ من كلام البشر، مهما علا كعب هؤلاء البشر[ ].
قال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ الأنعام:19. أي ومن بلغه القرآن من الإنس والجن.
وقال تعالى: لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ الحشر:21.
ولما كان المشركون لا يقوون على مواجهة جاذبية وأثر القرآن الكريم، وكان منهم ما إن يسمع آيات من القرآن الكريم، إلا ويعلن عن إسلامه، وانخلاعه من الشرك والمشركين .. ولما وجد كبراؤهم ذلك، وأدركوا أن للقرآن جاذبية ذاتية لا طاقة لهم على مواجهتها وردها، اتفقوا فيما بينهم، إذا ما سمعوا النبي  يتلو القرآن أن يلغوا، ويشغبوا، وأن ترتفع أصواتهم حتى لا يسمع الناس القرآن، والكلمات التي تصل إليهم، ولو وصلت إليهم لا تصل إليهم بوضوح .. فيضعف أثرها .. عسى بذلك أن أن ينتصروا، ويُبطلوا أثر القرآن على من يسمعه، كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ فصلت:26.[ ].
وفي الحديث، عن جابر بن عبد الله، قال: اجتمعت قريش للنبي  يوماً فقال انظروا أعلَمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا وشتّت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ولينظر ما يرد عليه. قالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة، قالوا أنت يا أبا الوليد. فأتاه عتبة فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله . قال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله . قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك قد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، أما والله ما رأينا سَخلةً أشأم على قومك منك؛ فرقت جماعتنا وشتَّت أمرنا، وعبت ديننا وفضحتنا في العرب حتى طار فيهم أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً ما ينتظر إلا مثل صيحة الحبلى بأن يقوم بعضنا لبعض بالسيوف حتى نتفانى.
أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أغنى قريش رجلاً، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش فنزوجك عشراً.
فقال رسولُ الله :" أفرغت "؟. قال: نعم. قال: فقال رسول الله : حم~. تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فصلت:1-3. حتى بلغ  فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ فصلت:13.
فقال عتبة: حسبك، حسبك، ما عندك غير هذا؟
قال :" لا "[ ].
ومن أساليب القرآن التي ينبغي للداعية أن يتفطن لها الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية، إذ غالب الكفرة والمشركين يُؤمنون بالربوبية، لكنهم يُشركون ويُجادلون في الألوهية، ولأن سألتم: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ العنكبوت:61.  فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ؛ أي كيف بعد إقرارهم بأن الله تعالى هو الذي  خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ  يُصرَفون ويُعرضون عن توحيده وعبادته؟!
فيُستَدل عليهم بما آمنوا به على ما كفروا به.
كما قال تعالى: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ . أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ . أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ . أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ . أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ النمل:60-64.
وقال تعالى: وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ النحل:81.
وقال تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ الزمر:38. فالله تعالى يعلمنا كيف نحاور الكفار والمشركين، وكيف نستدل على بطلان شركهم، بما آمنوا به وسلَّموا.
وقال تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ الأعراف:191. وقال تعالى: أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ الصافات:125. ونحوها من الآيات التي تدلل على أن من لوازم توحيد الله تعالى في ربوبيته، وتصرفه بهذا الخلق كما يشاء، توحيده  في الألوهية والعبادة.
8- كثير من الناس بذور الخير كامنة في نفوسهم، سرعان ما تظهر وتنبت وتعطي عطاءها وثمارها إذا ما صادفت محباً صادقاً في حبها، وإرادة الخير لها.
سرعان ما تنبت وتُثمر إذا ما صادفت بسمة صادقة، أو لمسة حنان صادقة من محب ومشفق يريد لها الخير.
المرء إذا أحب إنساناً، أحب الاستماع إليه، وأحسن الانصات إليه، ثم هو لو أخطأ توسع له في التأويل والأعذار، والعكس كذلك إذا أبغض إنساناً ـ وإن كان محقاً ـ كره الاستماع إليه، ثم هو لم يحسن الانصات لكلماته، ولا الاستفادة منها، ولو أخطأ لضيق عليه الأعذار وساحة التأويل، بل لو أصاب الحق لقلل من قيمة ذلك، وظن فيه الظنون ليحمل حقه على محامل وأوجه الباطل!
وهذا يعني أن الداعية إلى الله لا تنتهي مهمته عند البيان وحسب، وإنما يجب عليه مع البيان أن يُظهر حباً صادقاً للناس، وغيرة صادقة على أحوالهم ومعاشهم، وشؤون حياتهم ودينهم، فيعطيهم من اهتمامه وإقباله عليهم بكليته ما استطاع، فيألم لما يألمون، ويُسَر لما يسرهم مما ليس فيه معصية لله تعالى، فيعيش ـ صادقاً ـ همومهم بحلوها ومرها، فينتزع منهم أولاً حبهم واحترامهم، فيكون بعد ذلك نفع عطائه ـ بإذن ربه ـ مضاعفاً أضعافاً كثيرة.
هذا المعنى تتمثل أسمى معانيه وأصدقها وأعظمها في شخص الحبيب محمد ، كما قال تعالى: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ؛ أي يصعب ويشتد عليه  مَا عَنِتُّمْ ؛ أي ما ينزل بكم من عنت وتعب ومشقة  حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ التوبة:128. فكان الحبيب ـ فداه نفسي ـ إذا شِيك مسلم بشوكة يجد أثرها وألمها في جسده الشريف.
وهو القائل صلوات ربي وسلامه عليه:" المؤمنُ من أهلِ الإيمان بمنزلة الرأسِ من الجسد، يألَمُ المؤمنُ لما يُصيبُ أهلَ الإيمان، كما يألَمُ الرأسُ لما يصيبُ الجسدَ "[ ]. والداعية إلى الله تعالى أولى المؤمنين بهذه الصفة، وهذا الخلُق.
وقال :" ترى المؤمنين في تراحُمِهم وتوادِّهم، وتعاطُفِهم، كمثلِ الجسدِ إذا اشتكى عضواً تداعى لهُ سائرُ الجسدِ بالسَّهرِ والحُمَّى " متفق عليه. والداعية إلى الله تعالى أولى المؤمنين بهذه الصفة، وهذا الخلُق.
وقال :" المؤمنون كرجلٍ واحدٍ، إذا اشتكى رأسَهُ اشتكى كلُّه، وإن اشتكى عينَهُ اشتكى كلُّه "[ ]. والداعية إلى الله تعالى أولى المؤمنين بهذه الصفة، وهذا الخلُق.
وقال : المسلم إذا كان مخالطاً الناسَ ويصبر على أذاهم، خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ".
وفي رواية:" المؤمن الذي يُخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من المؤمن الذي لا يُخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم "[ ].
أما هذا الداعية الذي يأبى أن ينزل إلى الشارع ليعايش واقع الناس، ويأنف أن يعيش همومهم ومشاكلهم، ولو أراد أن يخاطب الناس ـ يُخاطبهم باستعلاء ومن برجه العالي ـ لا يُخاطبهم إلا في الصالات المكيفة، ومن وراء الحواجز، والجدر، والشاشات، وبعد أن يضمن لنفسه ثمن الكلمات التي سيقولها للناس .. فهذا ليسمي نفسه ما شاء: يسمي نفسه نجماً أو شمساً أو قمراً .. لكن لا يُسمي نفسه داعية إلى الله.
ثم أن الداعية كما أنه يُعطي في هذا الموضع إلا أنه في المقابل يكسب من الناس الشيء الكثير، يكسب ثقتهم وتأييدهم ودعمهم له ولدعوته لو داهمته الخطوب، أو فكر الطغاة الآثمين أن يعتدوا عليه وعلى حرماته .. فتراهم يحسبون لذلك ألف حساب لعلمهم أن وراء هذا الداعية ركن شديد من الناس والجماهير يأوي إليه تغضب له ولحرماته.
فالداعية ـ وبخاصة في مرحلة الاستضعاف ـ يحتاج ـ كسببٍ ـ إلى هذه الحصانة، وإلى هذا الركن الشديد من الجماهير يجيره ويحميه من بطش الطغاة الظالمين، وهذا المبدأ ـ مبدأ الجوار وطلب النصرة والحماية ـ كان معمولاً به في عهد النبي  وما بعده .. والحافظ أولاً وآخراً الذي يُجير ولا يُجار عليه هو الله تعالى وحده.
أما إن تخلى عنهم في مراحل الضيق؛ فيشبع حيث يجوعون، ويأمن حيث يخافون، فلم يعش همومهم ومشاكلهم وقضاياهم بصدق وإخلاص .. وعاش حياته الإرجوانية بعيداً عن واقعهم .. لا ينتظر حينئذٍ من الناس نصرة أو نجدة وحماية لو نزل به خطب من الخطوب .. وصدق من قال: إن كنت إمامي، فكن أمامي!
9- اعتماد الوسطية في الدعوة إلى الله تعالى التي تعني التزام غرز الحقّ من غير جنوحٍ إلى إفراط أو تفريط، ولا ميلٍ إلى غلوّ أو جفاء أو إرجاء.
إذ كثير من الناس في كثير من مسائل الدين هم فيها إلى مذهبين: إما إلى غلوٍّ وإفراط، وإما إلى جفاءٍ وتفريط .. والحقُّ وسط بينهما .. وما أعز وأقل أصحابه وأنصاره!
هذا المنهج الوسطي في الدعوة إلى الله تعالى ـ القائم على التوسط والاعتدال من غير جنوح إلى إفراط أو تفريط ـ ينبغي للداعية أن ينتهجه ويتحلَّى ويتزين به، لأنه الأقرب إلى فطرة الناس، وإلى استجابتهم، ولأنه هو المنهج الحق القائم على العدل الذي ارتضاه الله تعالى لعباده، وإن سخطه الساخطون، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً  أي خياراً وعدولاً، وما كانوا ليكونوا كذلك إلا لأنهم لم يجنحوا في الدين إلى الغلو والإفراط، ولا إلى الجفاء والتفريط  لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ البقرة:143. ومن جنح في الدين إلى الإفراط أو التفريط المنافي للعدل لا يصلح أن يكون شهيداً وحكماً على الآخرين.
قال الطبري في التفسير: وأنا أرى أن الوسط في هذا الموضع هو الوسط الذي بمعنى الجزء الذي هو بين الطرفين، مثل وسط الدار. وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلوّ فيه كغلوّ النصارى الذين غلوا بالترهب وقولهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على ربهم وكفروا به ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبّ الأمور إلى الله أوسطها ا- هـ.
وقال عبد الرحمن السَّعدِي في التفسير: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً  أي: عدلاً خياراً، وما عدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر. فجعل الله هذه الأمة وسطاً في كل أمور الدين؛ وسطاً في الأنبياء بين من غلا فيهم كالنصارى وبين من جفاهم كاليهود، بأن آمنوا بهم كلهم على الوجه اللائق بذلك. ووسطا في الشريعة لا تشديدات اليهود وآصارهم ولا تهاون النصارى. وفي باب الطهارة والمطاعم لا كاليهود الذين لا تصح لهم صلاة إلا في بيعهم وكنائسهم ولا يطهرهم الماء من النجاسات، وقد حرمت عليهم الطيبات عقوبة لهم، ولا كالنصارى الذين لا ينجسون شيئاً، ولا يحرمون شيئاً، بل أباحوا ما دب ودرج. بل طهارتهم أكمل طهارة وأتمها، وأباح الله لهم الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح وحرم عليهم الخبائث من ذلك، فلهذه الأمة من الدين أكمله ومن الأخلاق أجلها، ومن الأعمال أفضلها، ووهبهم الله من العلم والحلم والعدل والإحسان ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك كانوا  أُمَّةً وَسَطاً ، كاملين معتدلين، ليكونوا  شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ، بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط، يحكمون على الناس من سائر أهل الأديان ولا يحكم عليهم غيرهم ا- هـ.
وفي الحديث فقد صحّ عن النبيّ  أنه قال:" إيَّاكُم والغُلُو في الدين، فإنما هلَكَ من كان قبلكُم بالغلوِّ في الدين "[ ].
وقال :" عليكُم هَدياً قاصِداً[ ]، فإنَّهُ من يُغالِب هذا الدينَ يغلُبُه "[ ].
فالوسطية الشرعية الحقَّة هي التوسط والوقوف وسطاً بين منهجين باطلين، وليس التوسط والوقوف وسطاً بين الحق والباطل، فتساوي في المسافة والموقف والنظرة بينهما .. أو الوسطية بمعنى محاولة الإصلاح والتقارب والتقريب بين الحق والباطل في نقطة وسط .. كما يفسرها ويدعو لها أهل البدع والأهواء .. فهذه وسطية باطلة، الإسلام يبرأ منها ومن أهلها.
10- انتهاج مبدأ التيسير على العباد ما أمكن لذلك سبيلاً، ما لم يكن إثماً، أو يُؤدي إلى إثم، فحينئذٍ على الداعية الجاد أن ينأى بنفسه عن العمل والإفتاء بهكذا تيسير يُؤدي إلى الوقوع في المحظور.
وهذا منهج في الدعوة إلى الله تعالى على الداعية أن ينتهجه، ويعتمده كعامل من عوامل الترجيح وتحديد المواقف، إذا ما عُرِض عليه أمران كل منهما حق ومشروع، فينظر حينئذٍ إلى أيسرهما وأقربهما إلى التيسير فيأخذ به .. وبخاصة إذا اشتدت الأمور وضاقت على الناس، فحينئذٍ قد يرقى العمل بالتيسير إلى درجة الوجوب، كما في القاعدة الفقهية:" إذا ضاقت اتسعت ". وليس إذا ضاقت ضاقت وتعسّرت، واشتد الخناق والضيق .. وللقاعدة الأخرى التي تقول:" الضرورات تبيح المحظورات ". على قدر الضرورة، وبالقدر الذي به تندفع وتزول.
قال تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً الشرح:5-6. فالعسر إذا جاء وأطل بظلاله يتبعه التيسير واليسر بإذن الله، فما دام عسرٌ أبداً .. وما غلب عسرٌ يُسرين .. وما ينبغي له أن يغلب!
وفي الحديث فقد صحَّ عن النبي  أنه قال:" ادعوا النَّاس، وبَشِّروا ولا تُنفِّروا، ويَسِّروا ولا تُعَسِّرُوا " مسلم.
وقال :" عَلِّموا، ويَسِّرُوا ولا تُعَسِّروا، وبَشِّروُا ولا تُنَفِّروا "[ ].
وقال :" إنَّ الدينَ يُسْرٌ، ولن يُشَادَّ الدينَ أحدٌ إلا غَلبَه " البخاري[ ].
وعن أنس بن مالك، قال: بينما نحنُ في المسجدِ مع رسولِ الله  إذ جاءَ أَعرابي، فقامَ يبولُ في المسجِدِ، فقال أصحاب رسول الله : مَهْ مه! قال : قال رسولُ الله :" لا تُزْرِمُوه، دَعُوه "، فتركُوه حتى بالَ. ثم إنَّ رسولَ الله  دعاهُ فقال له:" إنَّ هذهِ المسَاجِدَ لا تَصلُحُ لشيءٍ من هذا البولِ والقذَر، إنما هي لذكرِ اللهِ ، والصلاةِ، وقراءةِ القُرآن ". قال فأمرَ رجلاً من القوم، فجاءَ بدلوٍ من مَاءٍ، فشَنَّه عليه. مسلم.
وفي رواية عن أبي هريرة، فقال لهم رسولُ الله :" دَعُوه وأهرِيقُوا على بولِه دَلْواً مِن ماءٍ، فإنَّما بُعِثتُم مُيَسِّرين، ولم تُبعَثوا مُعَسِّرين "[ ]. فاعتبر  منعه من إتمام بوله ـ وفي أقدس مكان بعد الحرم المكي ـ نوعاً من التعسير المنافي للتيسير الذي يُؤدي بصاحبه إلى الضرر.
وعن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت:" ما خُيِّرَ رسولُ الله  بين أمرين إلا أخذَ أيسرَهُما، ما لم يكُن إثماً كان أبعدَ الناسِ منه " متفق عليه.
وفي رواية:" ولا خُيرَ بين أمرين قط إلا كان أحبُّهما إليه أيسرَهُما حتى يكون إثماً؛ فإذا كان إثماً كان أبعدَ الناس عن الإثم "[ ].


يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حامل المسك1
المدير العام
المدير العام
حامل المسك1


كتاب خواطرٌ وأفكار في فقهِ الدَّعوَةِ إلى الله لابو بصير الطرطوسي 190070434
عدد المساهمات : 226
نقاط : 421
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 03/04/2011
الموقع : بلاد الرافدين

كتاب خواطرٌ وأفكار في فقهِ الدَّعوَةِ إلى الله لابو بصير الطرطوسي Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب خواطرٌ وأفكار في فقهِ الدَّعوَةِ إلى الله لابو بصير الطرطوسي   كتاب خواطرٌ وأفكار في فقهِ الدَّعوَةِ إلى الله لابو بصير الطرطوسي I_icon_minitimeالأحد أبريل 10, 2011 5:39 am

11- كذلك مما يجب أن ينضبط عند الداعية إلى الله مسألة الغضب، وتحديد المواقف من الآخرين والأشياء .. فيجتهد ـ ما استطاع ـ أن لا يغضب لنفسه وحظوظه، وإنما يكون غضبه لله تعالى وحده، إذا ما انتهكت حرماته أو شيء منها.
كما في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:" ما انتقم رسولُ الله  لنفسِه، إلا أن تُنتَهك حرمَةُ اللهِ فينتقمُ لله بها " متفق عليه.
فالغضب مذموم، والشريعة قد نهت عنه، إلا ما كان لله تعالى، وانتصاراً لحرماته، حتى الغضب لله تعالى يجب أن يكون باعتدال وعدل من غير إفراط ولا تفريط، أو يوضع الغضب في غير موضعه الصحيح، حيث لا ينبغي للداعية أن يغضب إذا ما حصل تجاوز أو تقصير في بعض النوافل، أو مسائل الفروع، كما يغضب عندما يكون التقصير أو المخالفة لها مساس بالتوحيد وبأصول الدين الكلية.
كذلك الأخطاء التي تُعالج بالكلمة أو النظرة أو الإشارة والتلميح، على طريقة ما بال أقوم .. لا تستحق من الغضب والحدة كالأخطاء التي لا تُعالَج إلا بنوع تصريح وإشارة إلى الخطأ وصاحبه، وبخاصة إن كان صاحب هذا الخطأ يتسم بالإعراض والعناد، والمحاددة لله ولرسوله  .. لأن المهم والمطلوب في الأمر أن يُعالج الخطأ وأن يزول وتزول أسبابه، لا الغضب ذاته، فإن كان الخطأ يُزال بلا غضب، أو بغضب قليل صرف له القدر الذي يستحقه من الغضب من غير زيادة ولا نقصان، وإن كان لا يُزال إلا بنوع غضب شديد اشتد الغضب بالقدر الذي به يُزال الخطأ .. لأن المهم في الأمر إزالة الخطأ أو المنكر لا ذات الغضب.
ولو تأملنا سيرة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه في الدعوة إلى الله تعالى للمسنا هذا المعنى الذي أشرنا إليه بوضوح، حيث كان  أحيانا يشتد غضبه كأن حب الرمان يتفقأ من وجهه الشريف إلى أن ينتصر لحرمات الله وحقوق العباد، وبحسب المسألة أو الحالة التي يغضب لها، وأحياناً كان  يُعالج الأخطاء، بنظرة، أو كلمة، أو بسمة، أو تلميح لطيف ورقيق ورفيق .. إذ الأمر لا يقتضي منه أكثر من ذلك حتى يُزال الخطأ، إذ كان النبي  ـ في كثير من الأحيان ـ يكفي أن يُرى منه كراهته للأمر ـ ومن دون أن يتكلم ـ فيكون ذلك سبباً كافياً لإزالة الخطأ وإمساك الناس عنه.
واعلم أن المهم في عملية إنكار المنكر أن يُزال المنكر، فإن كان يُزال عن طريق الرفق، والكلمة الطيبة، أو الإشارة، والتلميح ونحو ذلك .. لا يجوز حينئذٍ أن تزيله عن طريق الشدة، واستخدام العنف، لأن العنف لا يُراد لذاته ـ بخلاف الرفق ـ وإنما يُطلب لغيره، وكان هذا الغير لا يُزال ولا يُعالج إلا به.
12- لكي ينجح الداعية في دعوته لا بد له من أن يتحقق له الإلمام الوافي بالواقع الذي يعايشه، ويتعامل معه، ويريد معالجته؛ ما هي صفته، وما هي جوانب النقص والقصور فيه، وما حجم هذا النقص ونوعه، وأثره، ومن ثم الإلمام الدقيق بمجموع النصوص الشرعية ذات العلاقة بهذا الواقع، فيجمع بين فقه الواقع وبين فقه النص ذي العلاقة بهذا الواقع، وأيما خلل أو نقص في أي جانبٍ من الجانبي الآنفي الذكر، سيوقع الداعية في أخطاء جسيمة لا تُحمَد عقباها، وهو مثله حينئذٍ كمثل مَن يضع الدواء في غير موضعه، وقبل أن يشخص الداء وموضعه، وأنَّى لهذا أن يفلح أو يُصيب في علاجه لمن يريد علاجه .. فالحكم على الشيء فرع من تصوره.
عن أبي عبيدة بن حذيفة، قال: جاء رجل إلى حذيفة بن اليمان، وأبو موسى الأشعري قاعد، فقال: أرأيتَ رجلاً ضربَ بسيفه غضباً لله حتى قُتِل، أفي الجنة أم في النَّار؟ فقال أبو موسى: في الجنَّة. قال حذيفة: استفهم الرجل وأفهمه ما تقول. قال أبو موسى: سبحان الله! كيف قلت؟ قال: قلتُ رجلاً ضربَ بسيفه غضباً لله حتى قُتِل، أفي الجنة أم في النَّار؟ فقال أبو موسى: في الجنّة. قال حذيفة: استفهم الرجل وأفهمه ما تقول، حتى فعل ذلك ثلاث مراتٍ، فلما كان في الثالثة، قال: والله لا تستفهمه! فدعا به حذيفة، فقال: رُويدك إن صاحبك لو ضرَبَ بسيفه حتى ينقطع، فأصابَ الحقَّ حتى يُقتَلَ عليه فهو في الجنة، وإن لم يُصِب الحقَّ، ولم يوفقه الله للحق فهو في النار. ثم قال: والذي نفسي بيده ليدخلنَّ النار في مثل الذي سألتَ عنه أكثر من كذا وكذا[ ].
قال الحسن البصري: فإذا بالقوم قد ضربوا بأسيافهم على البدع.
قلت كان جواب أبي موسى الأشعري  خطأ لتسرعه في الإجابة قبل أن يستفهم واقع المسألة، بخلاف حذيفة كان جوابه  هو الصواب لفهمه واقع المسألة التي سأل عنها الرجل.
وقال تعالى: وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ الأنعام:55. فالله تعالى فصّل الآيات في بيان سبل المجرمين لتستبين لنا، فمن غايات التفصيل أن تستبين سبُل المجرمين، لكي نفقه خطرها، فنحذرها، ونجتنبها، ونحذّر منها .. إذ الجاهل بها لا يُؤمن عليه أن يقع فيها، وفي شباكها، ويسلك سبلها وهو يدري أو لا يدري.
13- كذلك يُستحسن من الداعية ليُفهم عنه أن يجتهد ما استطاع الابتعاد عن التعبيرات المتشابهة حمالة الأوجه والمعاني، وأن أن يكون كلامه محكماً واضحاً غير متشابه، لا يحتمل إلا فهماً واحداً، وتفسيراً واحداً، أما إن أكثر من الكلام المتشابه حمال الأوجه والمعاني، يُفهم عنه خطأ، ويُؤدي إلى تشويش السامعين ممن يريد دعوتهم .. فلا يفقهون عنه شيئاً .. وقد يحملهم أسلوبه هذا على رد الحق، وعلى معارضة الحق بالحق، وضرب الآيات بعضها ببعض.
كثير من الدعاة ـ ربما رغبة أو رهبة ـ تراه يلتجئ إلى الغموض والإبهام، والمتشابه من الكلام، فيفصل في الموضع الذي يستحسن فيه الإجمال، ويُجمِل في الموضع الذي يُستحسن فيه التفصيل .. يأتي السؤال عن الغرب فيُجيب هو عن الشرق، ويأتي السؤال عن الطواغيت، فيُجيب هو عن الطغيان .. ويُسأل عن المُعيّن فيأتي جوابه عن العام والعموم .. فلا يستفهم ولا يُفهِم .. فيخرج الناس من مجلسه أكثر تشوشاً مما كانوا عليه قبل مجالسته والاستماع إليه، فيكون ضرره أكثر من نفعه، وتقول ليته سكَت، فاستراح، وأراح!
لذا كان من سنة النبي  في كثير من الأحيان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً لتُفهَم عنه، كما في الحديث عن أنس بن مالك قال:" كان  إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً؛ حتَّى تُفهمَ عنه " البخاري. و " كان  لا يُراجَع بعدَ ثلاثٍ "[ ].
في الأثر عن ابن مسعود :" ما من رجلٍ يُحدثُ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم ".
وعن علي بن أبي طالب ، قال:" حَدِّثوا النَّاسَ بما يَعرِفُون أتحبونَ أن يُكَذَّبَ اللهُ ورسولُه "البخاري. ومن يتحدث على طريقة إثارة الشبهات، وتتبع المتشابهات، وترك المحكم من القول، فإنه سيحمل الناس ـ بإسلوبه هذا ـ على أن يُكذبوا اللهَ ورسولَه وهم يعلمون أو لا يعلمون .. ومن كان كذلك فحظه من كتاب الله تعالى قوله تعالى: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ آل عمران:7. أي يتبعون المتشابه ويُعرضون عن المحكم الذي يفسر المتشابه طلباً لفتنة الناس في دينهم، ونثر الشبهات عليهم!
14- يجب على الداعية أن يتصرف بمسؤولية نحو دينه، وأمته، والناس أجمعين، ومن ذلك أن ينظر إلى مآلات مواقفه وكلماته وفتاويه، إذ أحياناً لا يكفي أن يوافق الحق فيما يقول أو يفعل، وإنما عليه أيضاً أن ينظر إلى نتائج كلماته وأفعاله، كيف ستُفهم وكيف ستُفسَّر، وهل ستصب في مصلحة الدين والدعوة والأمة، أم أنها سيترتب عليها من المفاسد ما يفوق المصالح .. وهل سيستفيد منها العدو على عدوانه، ويتقوى بها الظالم على ظلمه .. فيكون الإمساك حينئذٍ هو الأولى، وهو الأسلم .. أم أن العواقب والمآلات على خلاف ذلك .. كل هذا ينبغي أن يكون نصب عيني الداعية إلى الله تعالى وهو يمارس عملية الدعوة إلى الله.
فقد صح عن النبي  أنه أمسك عن قتل رأس النفاق ابن سلول، رغم بالغ أذاه وطعنه وغمزه، حتى لا يُقال أن محمدأ يقتل أصحابه .. وقد أشار بعض الصحابة على النبي  بقتله إلا أن النبي  امتنع عن فعل ذلك، وعلل منعه بقوله:" والله لو قتلته يومئذ لأرغمت أنوف رجال .. فيتحدث الناس أني قد وقعت على أصحابي فأقتلهم صبراً "!
فإذا كان قتل منافق معلوم النفاق .. سيؤدي إلى مثل هذه الفتنة؛ إلى تفرق وتقاتل الأصحاب والإخوان .. وأن يتحدث الناس أن المسلمين يقتلون بعضهم بعضاً، وفي ذلك من التنفير والضرر ما فيه .. فالأولى حينئذٍ الإمساك عن قتل هذا المنافق الذي يُظهر نفاقه .. وإن كان في الأصل قتله جائزاً .. فليس كل جائزٍ يجب القيام به!
ونحو ذلك قول النبي  لأم كبشة وقد استأذنته أن تغزو معه، وأنها تداوي الجريح، وتقوم على المريض؟ فقال رسول الله :" اجلسي؛ لا يتحدثُ الناسُ أن محمداً يغزو بامرأةٍ "[ ]. فعلل منعها من الغزو معه حتى لا يتحدث الناس أن محمداً  من الضعف ما حمله على أن يغزو العدو بامرأة، وما لحديثهم حينئذٍ من أثر معتبر على معنويات جند الإسلام .. ورفعة لمعنويات جند العدو.
وعن أبي هريرة، أنَّ رجلاً سأل النبي  عن المباشرَةِ للصائِمِ، فرَخَّصَ له، وأتاهُ آخرُ فنهاهُ؛ فإذا الذي رخَّص له شيخٌ، والذي نهاهُ شابٌّ[ ]. رخص للشيخ لكونه تُؤمن عليه الفتنة، بينما لم يرخص للشاب لكونه لا تؤمن عليه الفتنة، ولاحتمال أن توقعه المباشرة بالمحظور .. فنظر النبي  إلى المآل، علماً أن المسألة واحدة والأصل فيها الجواز.
كذلك يُروى عن ابن عباس  أن رجلاً سأله: هل للقاتل توبة؟ فقال ابن عباس: لا؛ ليس للقاتل توبة! ولما رُوجِع ابن عباس في جوابه، وعلى اعتبار أن التوبة تجب ما قبلها ولو كان كفراً وشركاً، فأجاب: رأيت في عينيه رغبةً في القتل، فأردت منعه .. وهذا فقه عظيم على الدعاة أن يتفطنوا له، ويعملوا به.
15- لكي تتأتَّى الثمرة المرجوة من الدعوة، على الداعية أن يتوخَّى الوقت والظرفَ المناسبين للدعوة والوعظ والإرشاد، فلا يحدث الناس في أوقات إدبارهم وانشغالهم عنه، أو وهم في حديث من أحاديثهم فيقطع عليهم حديثهم، ولكن ينتظر منهم نوع إقبال والتفاتة، ورغبة في الاستماع؛ فإذا أقبلوا عليه، أو بادروه بالسؤال، أقبل عليهم وباشرهم الإجابة .. ثم هو إن أجابهم، وبادءهم الدعوة والحديث، لا يتكلفنَّ البحث عن الألفاظ البديعة، والسجع من القول على حساب المعاني، بل يحدثهم بلغة سهلة يفهمونها بعيداً عن التكلف والتشدّق، والتفيهُق، ثم يجتهد أن لا يكثر عليهم، ولا يُشعّب عليهم المسائل؛ فيُدخل مسألة على مسألة قبل أن ينتهي من المسألة التي قبلها .. وحتى لا يملهم الحديث، فكثرة الكلام يُنسي بعضه بعضاً، فيقل حينئذٍ النفع من حديثه وكلماته .. فالكلمة الطيبة كالزرع الطيب، إن وضعته في بيئته وتربته المناسبة الخاصة به، أثمر وأعطى عطاءه، وإن وضعته في غير بيئته، وغير تربته الخاصة به لم يُثمر، ولم يُعطِ عطاءه .. وهكذا الكلمة.
وفي الأثر عن عكرمة، أنَّ ابنَ عباس قال: حدِّثِ الناسَ كُلَّ جمعةٍ مرَّةً، فإن أبيت فمرَّتين، فإن أكثرتَ فثلاثَ مرَّاتٍ، ولا تُمِلَّ النَّاسَ هذا القرآنَ، ولا أُلفِيَنَّكَ تأتي القومَ وهم في حديثٍ من حديثهم فتقصُّ عليهم فتقطعُ عليهم حديثَهم فتُمِلَّهُم، ولكن أنصتْ، فإذا أمروكَ فحدِّثهم وهم يشتهونَه، وانظر السَّجْعَ من الدعاءِ فاجتنبهُ، فإنِّي عهدتُ رسولَ الله  وأصحابَهُ لا يفعلون ذلك[ ].
وعن شقيق، كان عبدُ الله بن مسعود يُذكِّرُ الناسَ في كل خميسٍ، فقال له رجلٌ: يا أبا عبد الرحمن! لوددتُ أنَّك ذكَّرتنا في كلِّ يومٍ. قال:" أما إنَّه يمنعني من ذلك أني أكره أن أُمِلَّكُم، وإني أتخوَّلكُم[ ] بالموعظةِ كما كان رسول الله  يتخوَّلَنا بها مخافةَ السآمةِ علينا " البخاري[ ].
قال :" إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة: الثرثارون، والمتشدّقون، والمتفيهقون " قالوا: يا رسولَ الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال:" المتكبرون "[ ].
قال ابن الأثير في جامع الأصول 4/7: الثرثارون؛ الذين يُكثرون في الكلام تكلفاً وخروجاً عن حد الواجب.
والمتفيهقون؛ الذين يتوسعون في الكلام، ويفتحون به أفواههم، مأخوذ من الفَهَقِ، وهو الامتلاء.
والمتشدقون؛ هم الذين يتكلمون بملء أفواههم تفاصحاً وتعظيماً لنطقهم ا- هـ.
وقال :" هلك المتنطعون، ثلاثاً " مسلم. ومن التنطع التكلف، والغلو، والمبالغة في طلب الشيء.
وعن أنس بن مالك، قال: كنا عند عمر  فقال:" نُهِينا عن التكلف " البخاري. نهينا عن التكلف في كل شيء بما في ذلك التكلف في الكلام وطريقة التعبير.
ثم إنه إذا حدث الناس ينبغي أن يقبل عليهم بوجهه وحديثه ليعم جميع الحضور ـ فلا يقتصر إقباله على شخص واحد دون غيره، أو يكون وجهه وبصره في اتجاه ومن يستمعون إليه ممن يُخاطبهم في اتجاه آخر ـ فهذا أنفع وأكثر جاذبية لاهتمام الحضور به وبحديثه، وفي الأثر عن أبي حبيب بن أبي ثابت، قال:" كانوا ـ أي الصحابة ـ يحبون إذا حدث الرجل أن لا يُقبل على الرجل الواحد، ولكن ليعمهم "[ ].
فإن قيل: قد يُبتلى الداعية بمجالس وتجمعات، تنفَضّ المجالس وتنتهي من دون أن يُقبل عليه الناس، أو يتوجهوا له بسؤال .. فما العمل حينئذ؟
أقول: في هذه الحالة يُطيل من الصمت، فلا يُشاركهم في شيء مما هم فيه، إلى أن يجد بعض من في المجلس الحرج من عدم مشاركته، فيبادرونه بالأسئلة ليحملوه على نوع مشاركة فيما هم فيه من أحاديث .. فيكون ذلك سبباً للدخول في مواضيع ومسائل الدعوة إلى الله.
كما له أن يرمي على مسامع الحضور عبارات قصيرة ومثيرة، تستدعي من الآخرين نوع إقبال وفضول وسؤال .. فيكون ذلك أيضاً سبباً للبداية في الإفاضة والتوسع في الدعوة إلى الله.
ثم عليه إن تكلم أن لا يلتفت بالتعليق والتعقيب على المداخلات والكلمات التي تصرفه بعيداً عن موضوعه الأساس الذي انتقاه لهذا المجلس أو ذاك .. بل إن من الحضور من يكون هذا هو غرضه؛ وهو أن يشتت الداعية عن فكرته الأساس، وموضوعه الأساس؛ ألا وهو الدعوة إلى الله تعالى .. فإن لم يتنبه الداعية لذلك؛ فحينئذٍ لا يثبت له قرار على موضوع محدد، وينفض المجلس من دون أن يُفهَم عنه شيء!
16- الكلام منه ما يكون مبعثه من الفم، ومنه ما يكون مبعثه من القلب، فما كان مبعثه من الفم من غير حرارة تنبعث من القلب، يصل إلى الآذان وحسب، وما يصل للآذان يصل فاتراً ذابلاً لا يُنتفع منه .. وما كان مبعثه من القلب، فإنه يصل إلى قلب المخاطَب ولا بد، وما يصل إلى القلب يتبعه فقه وتدبر وعمل .. فحديث الروح للروح .. وحديث القلب للقلب .. أنفع وأمتع ألف مرة من مجرد حديث الشفاه البارد الذي لا يتعدَّى " قراميش " آذان المخاطَب!
والداعية يحصل له هذا وذاك؛ فلما يشعر أن كلامه يخرج من قلبه يستمر في كلامه إلى نهايته، ويعلم أن الكلام الذي يخرج من قلبه يستقر في قلب المخاطب بإذن الله، وإذا وقع في حالة فتور وشعر أن كلامه يخرج من فِيهِ وحسب، من غير استحضار لما يقول في قلبه فليتوقف وليُمسك عن الكلام؛ لأن كلامه حينئذٍ قد يصل إلى الآذان لكن لا يصل إلى القلوب، وما لا يصل إلى القلوب لا يُعقَل ولا يُنتفع منه، كما قال تعالى: وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا الأعراف:179. أي لا يسمعون السماع الذي يُؤدي بهم إلى فقه وتدبر ما يسمعون.
17- يجب على الداعية وهو ينطلق في عمله الدعوي أن يُحافظ على أمرين: أولهما؛ أن ينطلق للدعوة إلى الله قدر استطاعته، فيبذل قصارى جهده في خدمة الدعوة، لقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ التغابن:16. ولقوله :" وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم "متفق عليه. وقوله  مَا اسْتَطَعْتُمْ ؛ أي إفراغ قصارى الجهد في تحقيق التقوى، وتنفيذ الأمر الشرعي.
ثانياً؛ أن لا يُعطي العدو ذريعة لاستئصاله، مقابل لا شيء يُذكَر، أو مقابل نفع غير ذي بال .. لا يستحق تلك التضحية، كأن يقول ـ على سبيل المثال ـ:كلمات في مواطن لا تقدم ولا تُؤخر، يقل نفعها، فتكون سبباً في اعتقاله وتجميد عمله الدعوي لعشر سنوات أو أكثر!
قال تعالى: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ البقرة:195. فالآية وإن كان لها سبب إلا أنها عامة لكل ما يُؤدي إلى التهلكة أو الضرر من غير مصلحة راجحة.
وفي الحديث فقد صح عن النبي  أنه قال:" لا ينبغي لمؤمنٍ أن يذلَّ نفسَهُ "، قالوا: وكيف يذل نفسَه؟ قال:" يتعرَّض من البلاء لما لا يُطيق "[ ].
أي لا ينبغي أن يستشرف مواطن بلاء لا طاقة له بها، قد تكون سبباً في فتنته، أو ارتداده وانتكاسته .. أو توقفه عن العطاء .. لكن إن نزل بساحته البلاء من غير استشراف ولا سعي منه نحوه، فهنا عليه أن يصبر ويحتسب، ويثبت، فالمؤمن مبتلى، ويُبتلى على قدر دينه، كما في الحديث:" أشد الناس بلاء الأنبياءُ ثم الأمثلُ فالأمثل، يُبتلَى الرجلُ على حسبِ دينه، فإن كان في دينه صُلْباً اشتدَّ بلاؤهُ، وإن كان في دينه رِقَّةً ابتُليَّ على قدرِ دِينِه، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتّى يترُكَه يمشي على الأرضِ وما عليه خطيئةٌ "[ ].
لذا فأحياناً تقتضي الحكمة والمصلحة في كثير من المواطن والمواقف الاقتصار على التلميح والإشارة، التي بها يفهم اللبيب والعاقل المراد .. وتصل الرسالة لمن يريد أن يعرف الحق .. إذ أحياناً لا تسمح الظروف أن يقف الداعية عند كل حدث أو جزئية فيُفصل المفصل منها، ويُبين المبيَّن، ويشرح المشروح .. ومن يأبى عليه ـ في مواطن الشبهة والفتنة ـ إلا أن يفعل ذلك فهو واحد من اثنين: إما أنه غبي من ذوي الغباء المركب، وإما أنه ملغوم مشبوه .. ونحن في مرحلة لا تسمح لنا أن نقف طويلاً عند هذين العنصرين لنشبع فضولهما، على اختلاف مآربهما.
وهذا يستدعي من الداعية ـ وبخاصة في مرحلة الاستضعاف، وما قبل التمكين ـ أن يحسن التمييز بين من يسأل استرشاداً من أجل العمل، فيُقبل عليه بكليته، فيُجيبه عما يسأله عنه، أيا كان سؤاله، وبين من يسأل فتنة وترفاً، ومن قبيل الاستجرار وحفر الحفر، فهذا يُعرض عنه، ولا ينشغل به ولا يلتفت إليه ولا لأسئلته أياً كانت أسئلته.
وفي الحديث، فقد صح عن النبي  أنه قال:" لا يُلدغ المؤمن من جحرٍ واحدٍ مرتين " متفق عليه.
وفي الأثر عن عمر بن الخطاب :" لستُ بالخِبِّ، ولا الخُبُّ يخدعني "؛ أي لست بالمخادع، ولا بذاك الذي يخدعه خداع المخادع.
كما عليه أن يُراجِح ـ قبل الإقدام ـ بين حجم التضحية الناجمة عن صدعه وبيانه، وبين المصلحة الناجمة عن ذلك الصدع والبيان، فينظر إن كانت تلك المصلحة تستحق تلك التضحية أم لا .. فيُقدم ما رجحت مصلحته ونفعه على ضرره .. ويدفع ما رجح ضرره على نفعه.
18- لا ينبغي للداعية إلى الله تعالى أن يقلل من شأن نفسه، فيبخسها حقها ومكانتها، فيعتقد أنه لا شيء، أو أن التحديات المحيطة به أكبر منه، ومما يملك من طاقات وإمكانيات .. فيهيمن عليه الإحباط واليأس .. فقليل منه، مع قليل غيره من الدعاة، قد يُبارك الله به، ويُصبح بإذن الله كثيراً وكبيراً .. وذا بال وأثر على واقع وحياة الناس .. فكم من خير عظيم كانت بدايته جهد فرد لا يُؤبَه له .. ثم كم من خير لم تظهر آثاره وثماره إلا بعد حين، وربما بعد رحيل صاحبه .. فعليك الغرس، وعلى الله تعالى الزرع والانبات .. فلله الأمر من قبل ومن بعد، يضع القبول لمن يشاء، ووقت يشاء، وحيثما يشاء.
عندما يتسلل القنوط واليأس إلى نفس الداعية، يكون ذلك بمثابة الإعلان عن الهزيمة والانتكاس .. والفشل .. والهروب من الواقع وتحمل تبعاته .. وتفريغ ميادينه للباطل وأهله.
يكون بمثابة الإعلان عن انتصار الباطل وأهله .. لذا فإن العدو يعمل جاهداً ـ ولا يتورع عن استخدام كل الوسائل الهابطة الساقطة ـ من أجل تدمير معنويات قادة الأمة من الدعاة إلى الله .. وحملهم على القنوط واليأس من النصر أو الظفر بشيء .. ليثنيهم عن مهمتهم ودعوتهم .. وهذا ما ينبغي على الدعاة أن يتفطنوا له، وأن يحذروه أشد الحذر .. وأن يعلم كل واحد منهم أنه على ثغر عظيم من ثغور الأمة والإسلام، فليحذر أن تُؤتى الأمة والإسلام من قِبَل ثغره.
قال تعالى: وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ الحجر:56.
وقال تعال: وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ يوسف:87.
وفي الحديث فقد صح عن النبي  أنه قال:" لا يَحْقِرَنَّ أحدُكم نَفسَه " قالوا: يا رسولَ الله كيف يَحقِرُ أحدُنَا نَفْسَه؟ قال:" يَرى أمراً للهِ عليه مقالاً، ثمَّ لا يَقولُ فيه، فيقولُ اللهُ  يومَ القيامة: ما منعَكَ أن تقولَ فيَّ كَذا وكذا؟ فيقول: خشيةَ النَّاسِ. فيقولُ: فإيَّايَ كُنتَ أحقَّ أن تخشَى "[ ].
ثم أن من صفات الغرباء الذين أثنى النبي  عليهم خيراً، أنهم يتصدرون مهمة إصلاح ما يفسده الناس، وأن من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم، وما يصدهم ذلك عن دينهم ومهمتهم، كما في الحديث، قال :" إن الإسلامَ بدأ غريباً، وسيعودُ غريباً كما بَدأ، فطوبى للغرباء، قيل: مَن هم يا رسولَ الله؟ قال:" أناس صالحون في أناسٍ سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم " أحمد.
وفي رواية:" إن الإسلامَ بدأ غريباً، وسيعودُ غريباً كما بَدأ، فطوبى للغرباء "، قيل: مَن هم يا رسولَ الله؟ قال:" الذين يُصلحون إذا فسد الناس "[ ].
وقال :" إن من الأنبياء من لم يُصدقه من أمته إلا رجل واحد " مسلم. وما كان ذلك ليُثنيه عن مهمته ورسالته.
19- ينبغي على الداعية أن يكون عالمياً في دعوته، عالمياً في همومه .. ونعني بقولنا عالمياً في دعوته؛ أي أن يكون العالَم كله هدفاً لدعوته، والأرض كلها ميداناً وساحةً لدعوته .. فلا تقتصر دعوته على قرية دون قرية، ولا على بلدة دون بلدة، ولا على قومٍ دون قوم .. بل يكون الناس كلهم ـ على اختلاف ألوانهم، وأجناسهم، ولغاتهم، وانتماءاتهم ـ أينما كانوا هدفاً لدعوته اقتداءً بالنبي  الذي قال فيه ربه : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ الأنبياء:107. وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً سبأ:28.
وفي الحديث فقد صح عن النبي  أنه قال:" أحبُّ الناس إلى اللهِ أنفَعُهم "[ ]. أي أنفعهم للناس، فعلى قدر ما يعم نفعه لأكبر شريحة من الناس على قدر ما تتحقق له محبة الخالق  .. وعلى قدر ما يكون أكثر اغترافاً من إرث النبوة.
وقال :" خيركم من يُرجَى خيرُه، ويُؤمن شرُّه، وشركم من لا يُرجى خيرهُ، ولا يُؤمنُ شره "[ ]. فعلى قدر ما يُرجى خيره ومن أكبر شريحة من الناس على قدر ما يكون خيّراً ومن الأخيار.
ونعني بقولنا عالمياً في همومه؛ أي أن تكون اهتماماته وهمومه شاملة لجميع هموم ومشاكل وآلام المسلمين على اختلاف ألوانهم وأجناسهم، ولغاتهم، وأينما كانوا .. فلا تقتصر همومه أو نصرته على عشيرته أو قومه دون الآخرين، ولا على بلدة أو قِطرٍ دون أقطار الآخرين، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ الحجرات:10. كل المؤمنين على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم وأماكن تواجدهم إخوة في الله.
وفي الحديث فقد صح عن النبي  أنه قال:" ما من امرئٍ يَخذُلُ امرءاً مسلماً في موطنٍ يُنتقصُ فيه عِرضُه، ويُنتهكُ فيه من حُرمَتِه، إلا خذَلَه اللهُ تعالى في موطنٍ يُحبُّ فيه نصرَتَهُ، وما مِن أحدٍ ينصرُ مُسلماً في موطنٍ يُنتقَصُ فيه من عِرضهِ، ويُنتهكُ فيه من حُرمتِه، إلا نصرَهُ اللهُ في موطنٍ يُحبُّ فيه نصرتَهُ "[ ].
فقوله :" ما من امرئٍ يَخذُلُ امرءاً مسلماً في موطنٍ ..."؛ أياً كان هذا الموطن؛ سواء كان هذا الموطن في شرق الأرض أم في غربها .. أو كان في شمال الأرض أم في جنوبها.
وقال :" المؤمنُ من أهلِ الإيمان " كل أهل الإيمان أيَّاً كانوا، وأينما كانوا " بمنزلة الرأسِ من الجسد، يألَمُ المؤمنُ لما يُصيبُ أهلَ الإيمان، كما يألَمُ الرأسُ لما يصيبُ الجسدَ "[ ].
وقال :" ترى المؤمنين في تراحُمِهم وتوادِّهم، وتعاطُفِهم، كمثلِ الجسدِ إذا اشتكى عضواً تداعى لهُ سائرُ الجسدِ بالسَّهرِ والحُمَّى " متفق عليه.
وعنه، قال: قال رسولُ الله :" المؤمنون كرجلٍ واحدٍ، إذا اشتكى رأسَهُ اشتكى كلُّه، وإن اشتكى عينَهُ اشتكى كلُّه "[ ].
وقوله " المؤمنون كرجلٍ واحدٍ .."؛ أي كل المؤمنين ـ على اختلاف أجناسهم وألوانهم، ولغاتهم، وقومياتهم، وأوطانهم ـ في تكافلهم، وتعاونهم، وتعاضدهم، وتناصرهم كرجلٍ واحدٍ، ولا يجوز أن يكونوا إلا كذلك.
ومن ذلك أن لا تقتصر عداوة الداعية لطاغوت بلده دون بقية طواغيت الأرض ـ كما يفعل ذلك بعض دعاة العصر، أو من يُحسبون على العمل الدعوي ـ فهو إذ يُعادي ويُحذر من طاغوت بلده .. تراه يغض الطرف عن بقية طواغيت الأرض الذين يسومون البلاد والعباد الذل، والعبودية في أبشع صورها، بل في كثير من الأحيان ـ لحسابات سياسية ووطنية وحزبية ضيقة بعيدة عن ميزان ومصلحة الدعوة والتوحيد ـ تراه لا يتردد من أن يمد إليهم حبال التواصل والود، والتحالف، والاحترام .. وبخاصة إن وجد فيهم عوناً أو نوع نصرة على طاغوت بلده .. وكأن مشكلته ـ كداعية إلى الله ـ مع طاغوت بلده دون طواغيت الأرض .. وكأن الإيمان بطاغوت بلده هو وحده الذي ينقض الإيمان والتوحيد دون بقية طواغيت الأرض .. أو كأن الكفر بطاغوت بلده هو وحده يُعتبر من متطلبات وشروط التوحيد دون بقية طواغيت الأرض الذين يعبّدون الناس لذواتهم وقانونهم من دون الله!
وهذا خطأ كبير من وجهين: من جهة مصادمته لعقيدة التوحيد، ولصفاء المنهج الذي يجب أن يكون عليه الداعية إلى الله. ومن جهة تجاهل هذا الداعية ـ أو جماعته وحزبه ـ لمشاعر وآلام وحقوق الملايين من المسلمين الذين يُعانون أشد أنواع الذل والعذاب، والتنكيل من قبل طغاة بلدانهم .. وهذا فيه ما فيه من مصادمة لحقوق أخوة الإسلام كما تقدم أعلاه.
قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ النحل:36. فقوله  وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ ؛ أي كل الطواغيت .. وليس طاغوتاً دون طاغوت.
وقال تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ؛ كل الطواغيت؛ وليس طاغوتاً دون طاغوت، فالطاغوت يُطلَق على المفرد، والجمع، والمذكر والمؤنث  وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ البقرة:256.
وقال تعالى: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الزمر:17.
وفي الحديث، فقد صح عن النبي  أنه قال:" يجمعُ الله الناسَ يوم القيامة. فيقول: مَن كان يعبدُ شيئاً فليتبعه، فيتبع من كان يعبدُ الشَّمسَ الشمسَ، ويتبع من كان يعبدُ القمرَ القمرَ، ويتبع من كان يعبدُ الطواغيتَ الطواغيتَ .." متفق عليه.
20- من مهام الداعية التي تساعده على الدعوة إلى الله تعالى أن يتعرف على قدرات ومكامن طاقات من يدعوهم، ليقوم بتنشيطها وتجنيدها وتوظيفها في الدعوة إلى الله .. فالمهم الدعوة إلى الله .. ومصلحة الدعوة إلى الله .. واستمرار الدعوة إلى الله بأفضل وأقوى الطرق .. وليس احتكار الدعوة لنفسه .. أو لمجموعة أشخاص دون الناس!
فالداعية المخلص هو الذي يفرح لكل خير .. ولكل إنجاز يخدم الدعوة إلى الله .. سواء تحقق هذا الإنجاز على يده، أم على يد غيره.
ومما يساعد الداعية على مهمته هذه اعتماد أسلوب التعزيز بحسب ما يرى من كل فرد من الأفراد الذين يدعونهم ويتعامل معهم، فيبتعد ـ ما استطاع ـ عن عبارات التحقير والانتقاص التي تقتل روح الإبداع والعطاء لدى الشباب .. بل لو تخلى عنها كلياً .. ونزعها من قاموس مفرداته يكون هو الأكمل والأفضل.
هذا الأسلوب نلحظه بجلاء في سيرة المعلم الأكبر صلوات ربي وسلامه عليه مع تلامذته من أصحابه الكرام، فكان يُعطي كل صحابي من أصحابه الوسام الذي يُناسبه، والشهادة التي لا توازيها شهادة من شهادات الأرض، فصنع بذلك منهم رجالاً وعِظاماً كل واحد منهم بأمة، فكان  يقول:" أَرحَمُ أُمَّتي بِأمَّتِي أَبو بَكرٍ، وَأَشَدُّهم فِي دِينِ اللهِ عُمَرُ، وَأَصدَقُهُم حَيَاءً عُثمَانُ، وأَقضَاهُم عَلِيٌّ بنُ أَبي طالِبٍ، وأَقْرَؤهُمْ لِكِتابِ الله أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ، وأَعلَمُهُم بِالحَلالِ والحَرامِ مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ، وأَفرَضُهُم زَيدُ بنُ ثَابِتٍ، أَلا وإنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أمِيناً، وأَمينُ هذِهِ الأمَّةِ أَبو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ "[ ].
ومن الألقاب والأوسمة والشهادات التي أعطاها  لأبي بكر " الصديق، والعتيق "؛ أي لِعِتقه من النار، ومن الأوسمة التي قلدها  لخالد بن الوليد " سيف الله "، ولأبي ذر قال عنه :" ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذرّ، شبه عيسى بن مريم ". وقال في أبي بصير " إنه مسعر حرب لو كان معه رجال ". وهكذا كثير من الصحابة كان  يقلدهم أوسمة شرف تعززهم وتكون سبب انطلاقة عظيمة في حياتهم، وفي نصرة دينهم.
والدعاة إلى الله عليهم أن يتنبهوا لهذا الأسلوب .. إذ أن منهم من ينتفي من خطابه كلمات وأسلوب التعزيز لمن يخاطبهم ويتعامل معهم، بل منهم من يحرص على تحقير وتصغير جميع من أمامه، ولو أراد أن يستخلف من ينوب عنه تراه يستخلف إنساناً ضعيفاً في كثير من مواهبه .. ليضمن عدم المنافسة والندية .. وليبقى هو المتفرد والمميز في القيادة وتصدر المجالس .. وخطر هذا المسلك الأناني واللامسؤول يُعرف عند موت هذا الداعية أو غيابه غياباً قصرياً .. ليشكل رحيله فراغاً قاتلاً قد يوقف جميع ما أنجزه وابتدأه من أعمال دعوية لانتفاء وجود القوي الأمين الذي يستخلفه في ذلك!
كثير من الأحزاب والجماعات المعاصرة والمعنية بالعمل الدعوي .. تراها تنهار كلياً .. أو تضعف ضعفاً شديداً بسبب رحيل مؤسسها الأول، وذلك لعدم اهتمامه بالخليفة أو بمن يرثه في القيادة .. وقد قال بعضهم عند رحيل قائدهم ومؤسس جماعتهم: خيمة وسقط عمودها .. إذ لا يوجد عمود غيره يرفعها ويُقيمها!
21- ليس في ديننا شيء يُخجَل منه، فكل ما فيه حق وجميل؛ لأنه صادرٌ عن الحقّ والجميلِ ، قال تعالى: وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ غافر:20.
 وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ  معتبر ذي بالٍ، ولو قضوا بشيءٍ، فحكمهم حكم العمَى والجاهلية، والضلال، كما قال تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ المائدة:50. وقال تعالى: فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ يونس:32.
وبالتالي لا ينبغي للداعية، وهو يدعو إلى الله تعالى أن يكتم شيئاً من دين الله تعالى خجلاً من الآخرين، كأن يتوقف عن الحكم على الكافرين بأنهم من أهل السعير، أو يكتم حكم الله تعالى في بعض الحدود الشرعية مرضاة لأهواء من يدعوهم .. أو خوفاً من نقدهم .. فمن فعل ذلك يرتكب عدة أخطاء:
منها: أنه قد كتم الحقَّ، وقد يطاله شيء من الوعيد الوارد في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ البقرة:159.
وفي الحديث، فقد صح عن النبي  أنه قال:" من سُئل عن علمٍ يعلمه فكتمَه، أُلْجِمَ يومَ القيامة بلجامٍ من نارٍ "[ ].


يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حامل المسك1
المدير العام
المدير العام
حامل المسك1


كتاب خواطرٌ وأفكار في فقهِ الدَّعوَةِ إلى الله لابو بصير الطرطوسي 190070434
عدد المساهمات : 226
نقاط : 421
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 03/04/2011
الموقع : بلاد الرافدين

كتاب خواطرٌ وأفكار في فقهِ الدَّعوَةِ إلى الله لابو بصير الطرطوسي Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب خواطرٌ وأفكار في فقهِ الدَّعوَةِ إلى الله لابو بصير الطرطوسي   كتاب خواطرٌ وأفكار في فقهِ الدَّعوَةِ إلى الله لابو بصير الطرطوسي I_icon_minitimeالأحد أبريل 10, 2011 5:41 am

ومنها: الإظهار وكأن في دين الله تعالى شيئاً معيباً يُستَحَى منه، وكان الأولى أن يستحوا هم مما هم عليه من كفر وضلال وجاهلية، لا المسلم الموحد الذي يدعو إلى الحق بالحق، على بصيرة من ربه ، قال تعالى: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ آل عمران:162. وقال تعالى: أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ الرعد:19. وقال تعالى: أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ الأنعام:122. وقال تعالى: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الأنعام:81.
ارفع رأسك يا مسلم يا موحد، وافتخر ـ إلى أعلى درجات الافتخار[ ]ـ واعتز بعبادتك لله رب العالمين .. فأنت أولى بالافتخار، والاعتزاز، ممن دخل في عبادة العجول والطواغيت!
قال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ المنافقون:8.
ومنها: أن هذا التصرف لا ينم عن الاستسلام والرضا التام من غير أدنى حرج بما أنزل اللهُ على عبده محمد ، ومن كان كذلك قد يطاله شيء من الوعيد الوارد في قوله تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً النساء:65.
ومنها: أن الطرف الآخر المدعو سرعان ما يكتشف ما كُتم عنه من أناس آخرين، أو بقليل من القراءة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ، فتصله رسالة خاطئة عن الداعية الذي كان يدعوه بأنه قد غشه وكتم عنه العلم والحقائق، إذ لو كان هذا الذي كتمه عنه حقاً لماذا كتمه .. ثم يعمل الظن فيه عمله إلى أن يظن ظن السوء والجاهلية بكل دين الله تعالى، وأن هناك أموراً عديدة أخرى معيبة قد كتمها عنه .. فيفتتن في دينه، وينقلب على عقبيه عدواً لله ولرسوله وللمؤمنين .. ثم يصعب أطره للحق، إذ تراه يتشكك ويظن ظن السوء في كل ما يُدعَى إليه.
ومنها: أن هذا الكتمان يتولد عنه ـ عند الطرف المقابل ـ أسئلة محرجة، لا يُجاب عنها إلا بإظهار ما كُتِم عنه.
فمثلاً لو كُتم عنه ـ مراعاة لمشاعره ـ أن الكافرين الذين يموتون على الكفر والشرك مصيرهم إلى نار جهنم وبئس المصير، فتراه يتساءل ويقول: إذا كان المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي كلاهما سيجدان سبيلهما إلى الجنة .. وأن ليس أحد منهما يجد سبيله إلى النار .. فعلام تلزموني بالإيمان .. وبأعمال وتكاليف الإيمان .. فتُحار في الجواب عن سؤاله!
ويُقال كذلك: ليس من العدل أن يتساوى في الجزاء المؤمن مع الكافر، والمصلح مع المجرم المفسد .. والقول بدخولهما الجنة سواء .. مدعاة لإثارة عشرات الأسئلة حول عدالة الله تعالى .. فيفر هذا الداعية من سؤال له جواب محكم وواضح وصريح وحق .. ليوقع نفسه ـ بسبب كتمانه للجواب عن ذاك السؤال ـ تحت طائلة عشرات الأسئلة لا جواب لها .. قد تجعله ودعوته في موضع الشك والارتياب!
قال تعالى في محكم تنزيله: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ القلم:35-36. وقال تعالى: أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ السجدة:18.
ثم اعلم ـ يا عبد الله ـ: أن مرضاة الناس غاية لا تدرك، فما إن ترضي فريقاً من الناس إلا ويسخط عليك فريق آخر، وأن من تتبع مرضاة الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس .. لذا فليكن همك هماً واحداً لا غير، وهو مرضاة الله تعالى وحده، وإن سخط عليك الساخطون!
وفي الحديث، فقد صح عن النبي  أنه قال:" من أرضى اللهَ بسخط الناس، كفاه اللهُ الناسَ، ومن أسخط اللهَ برضى الناس وكَلَهُ اللهُ إلى الناس "[ ].
وفي رواية:" من أرضى الله بسخطِ الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله، عاد حامده من الناس له ذاماً "[ ].
وفي رواية:" من طلبَ محامدَ الناس بمعصية الله عادَ حامده ذاماً ".
22- من الأمور التي ينبغي أن تنضبط عند الدعاة إلى الله تعالى قضية كيفية التعامل مع أهل المنكر من حيث المعاملة والإقبال، والجلوس، والمؤاكلة أو الهجر .. متى يُقدّمون هذا ومتى يُقدمون ذاك؟
فأقول: ما لمس الداعية أن الطرف المقابل الذي يقارف بعض المنكرات يستفيد من مجالسته، وأنه يحسن الإصغاء، وأن احتمال هدايته وإقلاعه عن المنكر ممكنة .. لكنه يحتاج إلى شيء من التواصل والإقبال والمجالسة، والحديث .. حينئذٍ لا حرج عليه لو أقبل عليه، وجالسه بالقدر الذي يسمح بتحقيق الغاية المرجوة؛ وهي أطره إلى الحق، وإقلاعه عن المنكر، بشرطين: أن لا يُشاركه في شيء من منكره وباطله، وأن لا يجلس معه في مجلس منكر تُدار فيه المنكرات، كمقارعة الخمور، واللعب بالميسر، ونحو ذلك.
لأن العمل على هداية الناس، وأطرهم إلى لحق يحتاج لنوع خلطة لا بد منها، كما تقدم معنا في الحديث:" :" المؤمن الذي يُخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من المؤمن الذي لا يُخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم ".
ولأن غرض الدعوة ليس مقصوراً على الصالحين وحسب، وإنما هي شاملة للصالحين والطالحين، والناس أجمعين، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ الأنبياء:107. وهذا يحتاج لنوع خلطة ولا بد.
وقال النبي  لعلي بن أبي طالب :" فوالله لأن يُهدَى بك رجلٌ واحدٌ خير لك من حُمر النّعَم " البخاري. أي خير لك من الإبل الحمراء، أجود أنواع الإبل وأنفسها.
أما إن وجدَ صاحبَ المنكر يتسم بالكبر والعناد، والإعراض، وأنه لا يستفيد من مجالسته ونصحه، فحينئذٍ يفتقد المبرر من مواصلة مجالسته ومخالطته .. ولو أبى إلا أن يُجالسه، ويُؤاكله، ويُشاربه، ويُمازحه وهو على هذا الوصف، يُحمل عليه الوعيد الوارد في قوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ . كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ المائدة:78-79. وذلك أن الصالح من بني إسرائيل كان ينهى الطالح منهم عن ذنبه، فلا ينتهي، ويستمر في عدوانه وعصيانه، فلا يمنعن ذلك الصالح أن يكون في اليوم التالي أكيله وشريبه وجَليسه .. فلُعِنوا جميعاً .. وهذا مثل ضُرب للمسلمين لكي يتعظوا فلا يقعوا بما وقع به بنو إسرائيل، فيُصيبهم ما أصابهم .. فليس لهم كل مرة، ولنا كل حلوة!
قال :" إن مَن كان قبلكم من بني إسرائيل إذا عملَ فيهم العاملُ الخطيئةَ فنهاهُ الناهي تعذيراً، فإذا كان من الغدِ جالَسهُ وواكلَه وشَاربَه؛ كأنه لم يرَهُ على خطيئةٍ بالأمس، فلما رأى اللهُ تعالى ذلك منهم ضَربَ قلوبَ بعضهم على بعضٍ على لسانِ داود وعيسى بن مريم  ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ، والذي نفسي بيده لتأمرُنَّ بالمعروفِ ولتنهُنَّ عن المنكر، ولتأخذُنَّ على أيدي المسيء ولتأطرنَّه على الحق أطراً أو ليضربنَّ اللهُ بقلوبِ بعضكم على بعض، ويلعنَكُم كما لعنَهُم "[ ].
وفي الأثر عن عبد الله بن مسعود، قال: إذا رأيت الفاجرَ فلم تستطِعْ أن تُغيِّر عليه فاكفَهِرَّ في وجهه "[ ].
وحينئذٍ يكون مثله مثل من يُجالس نافخ الكير الوارد ذكره في الحدث الصحيح، قال :" إنما مَثَلُ الجليس الصالح والجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكِير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحاً خبيثة " مسلم. فعندما تكون المجالسة تعني الاحتراق أو تفضي إلى احتراق المجالِس بسبب مجالسته لمن يُجالس فحينئذٍ يكون الاعتزال هو الأسلم والواجب.
فإن قيل: هل التعامل مع أهل البدع والأهواء من حيث الخلطة والاعتزال كالتعامل مع أهل المعاصي؟
أقول: يميز بين الأتباع من أهل البدع والأهواء، وبين دعاتهم ورؤسائهم، فيُنظر في الأتباع ممن يُحسن الإصغاء، ويحرص على الاستفادة، ويسأل استرشاداً .. وكان ضحية تلبيس كبار دعاتهم ورهبانهم .. فيُقبل عليه محادثة ومجالسة بالقدر الذي يكفي لدعوة أمثاله، أما إن كان من رؤساء أهل البدع والأهواء وكبار دعاتهم، ورؤوس فتنتهم .. ثم عُرف بالكبر والعناد والجهل .. فهذا القول فيه اعتزاله كلياً ـ فلا يُحادَث ولا يُجالَس ولا يُسمع منه في شيء ـ والهروب منه كما يُهرَب من الكلب الأجرب العقور.
قال تعالى: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (الأنعام:68.
وقال :" مَن وقّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام "[ ]. وفي مجالسته ومؤاكلته، ومحادثته، توقير له .. ومن ثم فيه تزكية له ولبدعته في أعين الناس، فيكون ذلك سبباً في إضلالهم، ومن ثم عوناً على هدم معالم الإسلام وسُنَنِه[ ].
وعن ابن مسعود قال:" من أحب أن يُكرِم دينه فليعتزل مجالسة أصحاب الأهواء فإن مجالستهم ألصق من الجرَب ".
وعن الحسن البصري قال:" لا تُجالِس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك ". وغيرها كثير من الآثار السلفية السنية التي تنهى عن مجالسة أهل الأهواء والبدع، والإصغاء إليهم.
23- ينبغي على الداعية أن يتعامل مع نتائج أعماله بين المحاسبة والتفويض، فيُجري بين الفينة والأخرى عملية محاسبة وتقييم منصفة وجريئة لنتائج أعماله بشكل دوري، فما كانت نتائجه سلبية وغير مرضية يعزو ذلك ابتداء إلى التقصير من عند نفسه، ثم يجتهد في البحث عن جوانب القصور والخلل فيُصلحها ليستأنف بإذن الله عملاً جديداً إيجابيا وناجحاً .. فإن لم يجد ـ بعد الفحص والتدقيق ـ في نفسه وجهده واجتهاده تقصيراً ولا خللاً .. بعد ذلك له أن يلتجئ للتفويض والقول بأن النتائج بيد الله .. وأن الله تعالى لم يقدر له الوصول إلى الهدف المنشود .. لحكمة يشاؤها .. عسى أن يكون خيراً  وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ البقرة:216. وما كان كذلك لا يُسأل ولا يُحاسَب عنه[ ]. كما قال تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ آل عمران:128. أي ليس لك من أمر هدايتهم أو عذابهم ـ مهما نالك منهم ـ شيء، فهذا ليس لك، ولا لغيرك، وإنما هو لله تعالى وحده؛ إن شاء هداهم، وإن شاء عذبهم .. أما أنت ـ ومن تبعك من المؤمنين ـ عليك أن تصبر، وأن تمضي لما أُمِرتَ له.
وهذا لا يتعارض مع مبدأ محاسبة النفس فيما قد قصرت فيه، كما قال تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ آل عمران:165.
وفي الأثر يُروى عن عمر  أنه قال:" حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوا أنفسكم قبل أن تُوزَنوا ".
وكان إذا تأخر النصر على جند الإسلام، يراسلهم ويقول لهم: انظروا سبب تأخير النصر، إما لسببٍ من عند أنفسكم أو من عندي!
والذي حملني على الإشارة لهذا المعنى أن كثيراً من الدعاة والجماعات العاملة من أجل الإسلام، تمر ـ بسبب من عند أنفسهم وتقصيرهم ـ بكثير من الانتكاسات والهزائم .. والإحباطات .. وإذا ما رُوجعوا في ذلك .. تراهم سرعان ما يرمون فشلهم وتقصيرهم على القضاء والقدر، ويقولون للسائل: نحن علينا العمل وعلى الله النتائج .. فالله تعالى لم يشأ غير هذه النتائج .. وبالتالي علينا أن نرضى ونسلم .. كلمة حق يُراد بها باطل!
وهؤلاء صدقوا لو كانوا فعلاً قد عملوا وأحسنوا العمل من كل جوانبه .. ثم جاءت النتائج على خلاف ما يشتهون .. أما أنهم يقصرون في العمل، ويُخالفون السنن، فلا يؤدون العمل على الوجه الصحيح والمطلوب .. ثم تأتي النتائج مدمرة بما يناسب عملهم القاصر والمخطئ .. فهؤلاء مخطئون وواهمون .. وقد كذبوا أنفسهم وغيرهم .. عندما يستترون ويغطون عيوبهم وتقصيرهم بالقضاء والقدر، وبمشيئة الله، وهم حينئذٍ أقرب لمن يعصي الله تعالى ثم يستدل بالقضاء والقدر وبمشيئة الله على معصيته وآثارها ونتائجها!
كما قال تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ الأنعام:148. فاستدلوا بالمشيئة الكونية العامّة الشاملة لكل شيءٍ على المشيئة الشرعية، وهذا خطأ، إذ أن الله تعالى قد يشاء ويقدر شيئاً كوناً، لكنه تعالى لا يشاؤه ولا يُحبه شرعاً، كالشرك وغيره من الذنوب والمعاصي. كما قال تعالى: وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ الأعراف:28.
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ محمد:7. مفهوم المخالفة إن لم تنصروا الله لا ينصركم، ولا يثبت أقدامكم .. وحينئذٍ لا يحق لكم أن تسألوا عن نصر الله لكم .. وذلك لأنكم لم تحققوا شرط نصر الله لكم بنصركم لله .
فللنصر والتمكين سنن ونواميس لا تُحابي أحداً، من حققها في نفسه وواقعه تحقق له النصر والتمكين، ومن تنكبها وخالفها لم يتحقق له النصر والتمكين.
قال تعالى: وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ الأنفال:60. فإعداد القوة ـ المادية والمعنوية منها سواء ـ ناموس من نواميس النصر والتمكين .. فمن تنكبه، وتخلف عنه .. أضل طريق النصر والتمكين.
وقال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً  كل هذا الخير والمن والعطاء مقابل تحقيق  يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ النور:55. فإن لم نحقق هذا المطلب في أنفسنا وواقع حياتنا  يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ، حينئذٍ لا نستحق ذلك النصر والتمكين والاستخلاف.
وقال تعالى: الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ الحج:41. فإن لم نحقق هذا المطلب وهو إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حينئذٍ لا نستحق نعمة التمكين في الأرض .. فالمعاصي ـ ما كان منها عن طريق الشبهات أو الشهوات ـ تزيل النّعَم، وتجعَل الديار بلاقِع.
24- وفي الختام نقول: لكي تُكلَّل عملية الدعوة إلى الله تعالى بالنجاح، وتُؤتي ثمارها المرجوة بإذن الله تعالى، لا بد للداعية من أن يتحلى بجملة من الأخلاق الحميدة، التي تساعده على أداء مهمته الدعوية بطريقة جيدة وفاعلة .. والتي تحبب الناس به وبدعوته .. فالحقّ إن لم يُكلل بجملة من الأخلاق الحميدة التي تزينه وتجمله، قد لا يكفي لترغيب الناس به، والدخول فيه.
قال تعالى: وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ آل عمران:159. وهذا الخطاب موجه لسيد الخلق، أنه لو كان فيه هذا الخلق وحسب  فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ  لانفضّ الناس من حوله، وتركوه بمفرده حتى لو كان رسول الله .. فكيف بمن سواه .. وكيف لو اجتمعت فيمن سواه صفات أخلاقية منفرة أخرى غير الفظاظة وغِلظة القلب .. لا شك حينئذٍ أن عوامل تنفير الناس، وصدهم عن دين الله ستكون أكثر وأشد.
لكن سيدنا سيد الخلق لما كان على خلق عظيم، قد اجتمعت فيه صلوات ربي وسلامه عليه كمال معالي الأخلاق، كما وصفه ربه : وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ القلم:4. كان ذلك من جملة الأسباب العظيمة التي وضعت للإسلام القبول في الأرض، وبين الناس.
وفي الحديث، عن أنس  قال:" كان رسولُ الله  أحسن الناس خُلُقاً " متفق عليه.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: لم يكن رسول الله  فاحِشاً ولا متفحِّشاً، وكان يقول:" إن من خياركم أحسنَكُم أخلاقاً "متفق عليه.
وقال  :" ما من شيءٍ أثقلُ في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من حُسن الخلق، وإن الله يبغض الفاحش البذيَّ "[ ].
قال النووي: البذي هو الذي يتكلمُ بالفحش ورديء الكلام .
وقال عبد الله بن المبارك في تفسير حسن الخلق: هو طلاقة الوجه، وبذلُ المعروف، وكفُّ الأذى.
وقال  :" أكمل المؤمنين إيماناً أحسنُهم خلُقاً "[ ].
وقال  :" إن المؤمن ليُدرك بحسن خُلقه درجة الصائم ِالقائم "[ ].
وقال  :" أنا زعيمٌ ببيت في أعلى الجنة لمن حَسُنَ خُلُقَه "[ ].
وقال  :" بُعثت لأتممَ حُسنَ الأخلاق "، وفي رواية:" إن الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق، ومحاسن الأفعال "[ ].
وقال  :" خيركم إسلاماً أحاسنكم أخلاقاً إذا فَقُهوا "[ ].
قالوا: يا رسولَ الله ما خير ما أُعطي الإنسان ؟ قال:" خلُقٌ حسن "[ ].
وقال  :" ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء "[ ].
وقال  :" إن اللعانين لا يكونون يوم القيامة شهداء ولا شفعاء "[ ].
وقال  :" أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقاً "[ ].
وعن عبد الله بن مسعود قال: ألأمُ أخلاق المؤمن الفحش[ ].
وبالتالي فإن من أجمل ما يزين الداعية، وخطابه الدعوي: العدل، والرقي في الخطاب من غير فحش ولا بذاءة .. ومن أكثر ما يُشين الداعية وخطابه الدعوي، الظلم، والهبوط والفحش في القول والتعبير!
العدل؛ فلا يجنح ـ في حكمه على الأشياء والمواقف ـ إلى إفراط أو تفريط، فلا يكبّر الصغير والصغائر، ولا يُصَغّر الكبير والكبائر، بل يلتزم جادة العدل في السخط والرضى، في السلم والحرب، ومع العدو والحبيب سواء، فيشهد على المحسن بأنه محسن، وعلى المسيء بأنه مسيء أيَّاً كان هذا المحسن وهذا المسيء، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ المائدة:8.
وقال تعالى: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ النحل:90.
كما ينبغي عليه أن ينأى بنفسه عن موارد التهم والظنون والشُّبهات، التي تجعله ودينه عُرضةً لغيبة المستغيبين، وخوض الخائضين، من ذلك أن يعتزل مجالس وقصور الطغاة الآثمين .. وينزه نفسه ودينه عن عطائهم المشوب بالحرام، والمشروط بارتكاب الحرام، ككتمان الحق، ومواكبة الظالمين والمفسدين على ظلمهم وفسادهم، كما في الحديث، فقد صح عن النبي  أنه قال:" سيكونُ أمراءُ تَعرفون وتُنكرون، فمن نابَذَهم نجا، ومَن اعتزلهم سَلِم، ومن خالَطَهم هلَك "[ ].
وقال :" إيَّاكُم وأبواب السلطانِ؛ فإنَّه قد أصبحَ صعباً هُبوطاً[ ]".
وقال :" من أتى أبوابَ السُّلطانِ افتُتِنَ، وما ازدادَ أحدٌ من السُّلطان قُرباً، إلا ازدادَ من اللهِ بُعداً "[ ]. هذا فيمن يأتي أبواب سلاطين الجور، فكيف بمن يأتي أبواب طواغيت الظلم والكفر والفجور .. ثم هو يواكبهم على باطلهم؟!
وقال :" ليأتينَّ عليكم أمراءٌ، يقربون شرارَ الناسِ، ويُؤخِّرون الصلاةَ عن مواقِيتها، فمن أدركَ ذلك منهم، فلا يَكونَنَّ عِرِّيفاً[ ]، ولا شرطيّاً، ولا جابياً، ولا خازِناً "[ ].
وقال :" إنَّ الحلالَ بيِّنٌ وإن الحرامَ بيِّنٌ، وبينهما مُشتبهات لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشُّبهات استبرأ لِدينه وعِرضه، ومَن وقع في الشُّبهات وقعَ في الحرام؛ كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يَرتَع فيه، ألا وإن لكلِّ ملكٍ حمى ألا وإن حِمَى الله محارِمُه " متفق عليه. وإذا كان هذا الاستبراء للدين والعِرض واجب في حق أي مسلم من المسلمين، فهو أوجب وأوكد في حق الخاصّة من الدعاة إلى الله تعالى.




ـ مسألة مصلحة الدعوة: هي من جملة المسائل التي جنح فيها كثير من الناس إلى إفراط أو تفريط؛ فريق حمل مصلحة الدعوة على مصلحته الشخصية أو الحزبية، فما وافق مصلحته الشخصية أو الحزبية فثم مصلحة الدعوة، وما عارض مصلحته الشخصية أو الحزبية، تنتفي حينئذٍ مصلحة الدعوة .. وينتفي معها الحديث عن مصلحة الدعوة .. فيجعل من مصلحة الدعوة مطية لمآربه الشخصية والحزبية وحسب!
وفريق مقابل جنح إلى التفريط، كردة فعل لصنيع الطرف السابق؛ فعدّ مصلحة الدعوة وثن يُعبد، يُستتر به، يجب هدمه وإزالته، إذ لا قيمة ولا اعتبار في تفكير وأدبيات هذا الفريق من الناس لمصلحة الدعوة .. ولا للحديث عن مصلحة الدعوة .. والحديث عن مصلحة الدعوة عندهم سُبّة وتهمة!
وكلا الفريقين على خطأ، والحق وسط بينهما، وبيان ذلك: أن مصلحة الدعوة إلى الله تعالى، هي من مصلحة الدين، ومصلحة التوحيد، وعباد الله المؤمنين، والناس أجمعين .. لا يمكن تجاهلها وعدم اعتبارها .. فالإسلام جاء بضرورة مراعاة المصالح وتقديمها، ودفع المفاسد .. وأعظم المصالح التي ينبغي مراعاتها والعمل من أجلها مصلحة الدعوة والدين .. فعند التعارض واستحالة التوفيق تُقدم مصلحة الدين والتوحيد على ما سواها من المصالح ... ومصلحة الأمة على مصلحة قطر أو جماعة من الجماعات أو حزب من الأحزاب المنسوبة للأمة .. ومصلحة الجماعة على مصلحة الفرد .. والمصلحة الأكبر على ما دونها من المصالح، وهكذا.
وعليه فأقول: لا يجوز أن تُستغَل مصلحة الدعوة للمصالح الشخصية أو المصالح الحزبية الضيقة؛ فنصور مصالحنا الشخصية والحزبية على أنها هي مصلحة الدعوة، ومصلحة الدعوة على أنها هي مصالحنا الشخصية والحزبية .. فحينئذٍ نسيء لمصلحة الدعوة جداً، ونصيبها بمقتل عظيم، وتكون مصلحة الدعوة بمثابة كلمة حق يُراد بها باطل .. كما لا يجوز أن نلغي مصلحة الدعوة من فقهنا وفِكرنا وأدبياتنا .. بزعم أن فريقاً من الناس يُسيء استخدام فقه مصلحة الدعوة، وأنه يُجيّرها لمصالحه الشخصية أو الحزبية .. ولو جاز ذلك لجاز القول بإلغاء كثير من المفاهيم الإسلامية العامة، بزعم أن من الناس من يُسيء فهم واستخدام تلك المفاهيم .. وهذا لا يقول به عاقل!
وبالانتهاء من الحديث عن مسألة " مصلحة الدعوة " ينتهي ـ بفضل الله تعالى ومنته ورحمته ـ هذا المبحَث الهام الوجيز الذي أسميته " خواطرٌ وأفكار في فقه الدعوة إلى الله "، راجياً من الله تعالى القبول، وأن يجعل من عملي هذا مفتاح خيرٍ مغلاق شرٍّ .. إنه تعالى سميع قريب مجيب.

وصلى الله على محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
عبد المنعم مصطفى حليمة
" أبو بصير الطرطوسي "

13/12/1431 هـ. 19/11/2010 م.
www.abubaseer.bizland.com


اخوكم
ابو عزام الانصاري
[center]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
كتاب خواطرٌ وأفكار في فقهِ الدَّعوَةِ إلى الله لابو بصير الطرطوسي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» كتاب تنبيه الغافلين الى حكم شاتم الله والدين لابو بصير الطرطوسي
» كتاب الزَّواجُ والطَّلاقُ في الإسلام مسَائِلٌ وأحكام لابو بصير الطرطوسي
» كتاب فِقْهُ الاختِلافِ عِنْدَ أَهلِ السُّنَّةِ وأهلِ البِدَع لابو بصير الطرطوسي
» كتاب حكم تارك الصلاة للسيخ ابو بصير الطرطوسي
» كتاب قواعد في التكفير للشيخ ابو بصير الطرطوسي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
مــــــــــــــــــــــنــــــتدى ألتــــــــــــــــــــوحيـــــــــــد :: الاقسام الشرعية :: مكتبـــه المنتدى-
انتقل الى: