بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الى اخوتي مني السلام تحية
الى الاسود في كل مكان واخص منهم اسود الاسلام في سجون الظلم والكفر
فرج الله عنهم يارب
اقدم لكم شيء بسيط لنصرتكم عسى الله ان يغفر لنا عجزنا لنصرتكم
الله المستعان
تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة
شرح
القواعد الأربع
الدرس الأول
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتولاك في الدنيا والآخرة، وأن يجعلك مباركاً أينما كنت، وأن يجعلك ممن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر، فإن هؤلاء الثلاث عنوان السعادة.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد افتتح المؤلف الإمام المجدد في القرن الثاني عشر، شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى هذه الرسالة بهذه المقدمة، والظاهر من هذه المقدمة أنها رسالة لبعض من كتبها له الشيخ، في بيان دعوته رحمه الله، افتتحها بالبسملة كسائر ما تفتتح به الرسائل، وكسائر الكتب العلمية، والمستند في هذا كتاب الله جل وعلا، فإنه افتتح بالبسملة، وأيضاً هدي رسول الله (، حيث كان يفتتح رسائله وكتبه بالبسملة، ثم افتتحها بعد البسملة بذكر هذه المقدمة النافعة في أولها، فابتدأها بالدعاء، والدعاء مما يلين قلب المكتوب له، لاسيما في النصائح والإرشادات، فإنك إذا قدمت بين كلامك دعاءً أفهمت من تخاطبه أو تكتب له أنك مشفق عليه، راجٍٍٍٍٍٍٍ نفعه، راغب في نصحه.
قال رحمه الله تعالى: (أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتولاّك في الدنيا والآخرة) ومن تولاّه الله في الدنيا والآخرة فإنه آمنٌ من المخاوف في الدارين، نسأل الله أن يتولانا وإياكم في الدنيا والآخرة.
قال رحمه الله تعالى: (وأن يجعلك مباركاً أينما كنت)، وإنما يكون ذلك بأن يكون نافعاً للعباد حيثما نزل، وحيثما حل، كالغيث حيثما أصاب نفع، (وأن يجعلك ممن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر).
(1/1)
ثم قال عن هذه الخلال الثلاث والخصال: (فإن هؤلاء الثلاث عنوان السعادة) لماذا ؟ لأنه لا ينفك الإنسان عن حالٍ من هذه الأحوال الثلاثة، إما أن يعطى فالواجب عليه أن يشكر، فإذا شكر فقد قام بوظيفة الوقت، وإما أن يبتلى فالواجب عليه الصبر، فإذا قام بذلك فقد قام بوظيفة الوقت، وإما أن يخطئ الصبر أو الشكر فيقع في الذنب، وواجبه في هذه الحالة: الاستغفار، فإذا استغفر فقد قام بوظيفة الوقت، فمن كانت حاله شكراً عند العطاء، وصبراً عند البلاء، واستغفاراً عند الذنب والخطأ، فإنه قد حاز أسباب الفلاح والسعادة، والأمر كما قال الشيخ رحمه الله: (فإن هؤلاء الثلاث عنوان السعادة) فمن حققها في سلوكه وحاله فإنه قد وفِّقَ لما تحصل به السعادة في الدنيا والآخرة. نسأل الله ( أن يجعلنا وإياكم من السعداء.
اعلم أرشدك الله لطاعته: أن الحنيفية ملة إبراهيم أن تعبد الله وحده مخلصاً له الدين، كما قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون(. فإذا عرفت أن الله خلقك لعبادته فاعلم أن العبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمى صلاة إلا مع الطهارة، فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت، كالحدث إذا دخل في الطهارة. فإذا عرفت أن الشرك إذا خالط العبادة أفسدها وأحبط العمل وصار صاحبه من الخالدين في النار، عرفت أن أهم ما عليك: معرفة ذلك، لعل الله أن يخلصك من هذه الشبكة وهي الشرك بالله الذي قال الله تعالى فيه: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء(، وذلك بمعرفة أربع قواعد ذكرها الله تعالى في كتابه:
(1/2)
قال رحمه الله تعالى: ( اعلم أرشدك الله لطاعته أن الحنيفية ملة إبراهيم ) وهذا لا إشكال فيه، فإن الله سبحانه وتعالى وصف إبراهيم بالحنيفية، فقال: ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ((1) والحنيف هو المائل من الشرك إلى الهدى، وأصل الحنف: هو الميل من الضلالة إلى الهدى، هذا أصل الحنف، ويقابله في المعنى الجنف: وهو الميل من الهدى إلى الضلالة. يقول رحمه الله: ( اعلم أرشدك الله لطاعته أن الحنيفية ملة إبراهيم ) فمن رغب في الحنيفية وهي: الاستقامة على الصراط المستقيم، فليلزم ملة إبراهيم التي قال الله جل وعلا فيها: ( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ((2) أي: خسرها، ولم يكسب منها شيئاً، فسفهُ النفس وخسارها: هو بترك ملة إبراهيم، ثم بين رحمه الله هذه الملة وهذه الحنيفية فقال:
قال رحمه الله تعالى: ( أن تعبد الله وحده مخلصاً له الدين ) وهذا يشمل كل عبادةٍ قوليةً أو فعليةً، أو قلبية، واجبةً أو مستحبة، فيجب أن تكون العبادة بجميع أنواعها وأقسامها لله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، وقوله: ( مخلصاً ) حال من العابد، فيجب أن يكون العابد مخلصاً في عبادته لله تعالى، والمخلص: هو الذي خلَّص عبادته من أوغال الشرك، ولوثات الوثنية، بأن يخلص في قلبه بإرادة الله (، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً، وابتغي به وجهه، وأن يتبع النبي ( في عمله وسيرته، فإذا تحقق له هذان الأمران فقد تحقق له وصف الحنيفية، واتباع ملة إبراهيم مخلصاً له الدين، أي: مخلصاً له العمل، وهذا يشمل العمل القلبي، وعمل الجوارح كما تقدم بيانه.
(1/3)
ثم قال رحمه الله تعالى: كما قال تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ((3) هذا فيه بيان أن هذه الحنيفية التي كان عليها إبراهيم هي الغاية من الخلق، وهي المقصودة من الوجود، ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ ((4) نفى الله سبحانه وتعالى الغاية من الخلق إلاّ لأجل العبادة، فقوله: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا(: هذا استثناء، والاستثناء هنا من عموم الغايات، فلم يخلقهم لغايةٍ من الغايات إلا لعبادته سبحانه وتعالى، وقد ضلّ في معنى هذه الآية طوائف من الذين ينكرون الحكمة في فعل الله جل وعلا، وقالوا : إن اللاّم لام التعليل، ولا ترد في كلام الله (، إنما الذي يرد في كلامه لام العاقبة، والتي يسميها بعض المفسرين الصيرورة، فلام العاقبة: هي الصيرورة، فيكون المعنى عند هؤلاء ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ ( فيكون المعنى حينئذٍ على هذا الرأي الفاسد: إلا ليذلوا لي، كيف يذلون له ؟ قالوا : ما من مخلوق إلاّ هو ذليل لله (، كما قال الله سبحانه وتعالى: ( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً((5) ففسروا العبودية هنا أو العبادة هنا: بالعبادة الكونية القدرية، التي لا يخرج عنها شيء، ونحن نقول : هذا تفسير قاصر، يأباه ما نقل عن السلف، وما دل عليه السياق، فإن الله سبحانه وتعالى بيَّن الغاية من الخلق، فقال: ( إلا لِيَعْبُدُونِ ( مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ( (6) وهذا لا يكون منهم قدراً أصلاً، حتى ينفى، إنما بيَّن ذلك لبيان أن المقصود من الخلق أن يكونوا عباداً لله، موحدين له في عبادتهم، وفي جميع ما يتقربون به إليه سبحانه وتعالى، ولو كان المعنى ( إلا لِيَعْبُدُونِ ( أي: ليتذللوا لي، لما اختص بذلك الجن والإنس، لأن هذا أمر عام لكل خلق الله الجن، والإنس،
(1/4)
والملائكة، والحجر، والجبل، والأرض، والنجوم، والحيوانات، كل هذه من عباد الله التي لا تخرج عن حكمه القدري، فلما خص الجن والإنس دل أنه يراد منهم ما لا يراد من غيرهم، وما الذي يراد منهم ؟ الذي يراد منهم هو عبادته وحده لا شريك له، ثم ما السر من تقديم الجن على الإنس في هذا السياق، مع أن الإنس أشرف من الجن ؟ السر في ذلك: أن الجن مما تتعلق بهم قلوب المشركين، ولذلك قدم ذكر الجن، ليبيِّن أن المعبودين هم ممن خلقوا للعبادة وطولبوا بها كغيرهم من المخلوقين من الإنس، وليس الكلام عن مشركي مكة خاصة، بل حتى الذين يتعلقون بالجن في زماننا هذا بدعائهم، والاستغاثة بهم، وطلب الفرج منهم، كل هؤلاء تعلقت قلوبهم بمن يجب عليهم أن يكونوا عباداً لله، بأن يوحدوه سبحانه وتعالى بالعبادة، هذا سبب من أسباب تقديم الجن في الذكر قبل الإنس، السبب الآخر: أن الجن خلقت قبل الإنس، فلما كانوا قد خُلقوا بُيِّن أنهم من أول خلقهم، إنما أريد من خلقهم العبادة لخالقهم جل وعلا، إذْ لو لم يرد من خلقهم العبادة لكان خلقهم عبثاً، والله ( منزهٌ عن العبث.
ثم قال رحمه الله تعالى: ( فإذا عرفت أن الله خلقك لعبادته ) وكيف عرفناه ؟ الجواب: دليل هذه المسألة ومعرفتها من قوله تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ ((7).
ثم قال رحمه الله تعالى: ( فاعلم أن العبادة لا تسمى عبادة إلاّ مع التوحيد )، هذا تفريع، بناءً على أصلٍ، وهو أنه لما تقرر عندنا أن العبادة هي المقصودة من الوجود، وأن الله إنما خلقنا لعبادته، فرَّع على ذلك ببيان العبادة التي أمرنا بها، وأنها لا تستقيم إلا بالتوحيد الذي هو غاية الوجود، فالرجل الذي يصلي لله، ويحج لله، ويزكي، ويصوم، لكنه يتعلق قلبه في دفع الكربات بغير الله، هل حقق العبادة ؟ الجواب: أنه لم يحقق العبادة، لأن العبادة التي أمرنا بها هي أن نخلص العبادة له وحده لا شريك له.
(1/5)
ثم قال رحمه الله تعالى في بيان دليل أن العبادة لا تكون عبادة إلا إذا تحقق الإخلاص والتوحيد لله قال: ( كما أن الصلاة لا تسمى صلاةً إلا مع الطهارة ) هذا تنظير للشيء بغيره، فالعبادة التي هي الغاية من الوجود مثلها بالصلاة، فلو أن إنساناً قام وصلى صلاة من أكمل ما يكون خشوعاً، وحضور قلب، وتسبيحاً، وقراءة، لكنه لم يتوضأ، نسي أن يتوضأ، ما حكم صلاته ؟ الجواب أنها باطلة لم تقبل، لأنها فقدت شرطاً وهو الطهارة، فكذلك العبادة إذا فرغت من التوحيد، ولم يكن فيها إخلاص لله ( فهي كصلاة المحدث لا تقبل منه، ولا تنفعه، ولا تبرأ بها ذمته منها.
ثم قال رحمه الله تعالى: ( فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت ) والمراد بالشرك هنا: الشرك الأكبر، وأما الشرك الأصغر فإنه يفسد العمل المقارن، أما قوله: (فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت) المراد به: الشرك الأكبر، مثل ما مثلنا قبل قليل في الذي يصلي، ويزكي، ويصوم، ويحج، لكنه يدعو غير الله، أو يسأل غير الله في تفريج الكربات، هذا وقع منه شرك في جانب، لكنه أفسد وهدم كل ما فعله من الصالحات.
قال رحمه الله تعالى: ( كالحدث إذا دخل في الطهارة ) فإنه يفسدها مهما كانت الطهارة مجودة محسنة، قد أسبغ فيها الوضوء، واعتنى فيها بتكميل السنن، بعد فعل الواجبات، إلاّ أنه إذا أحدث ماذا يقال له ؟ يقال له: أعد الطهارة، فكذلك العبادة إذا دخلها الشرك.
قال رحمه الله تعالى: ( فإذا عرفت أن الشرك إذا خالط العبادة أفسدها وأحبط العمل وصار صاحبه من الخالدين في النار عرفت أن أهم ما عليك معرفة ذلك ) المشار إليه: هو ( معرفة ذلك ) أي: معرفة التوحيد، الذي تصح به العبادات.
(1/6)
ثم قال رحمه الله تعالى: ( لعل الله أن يخلصك من هذه الشبكة ) وهذا فيه فائدة، وثمرة من ثمار دراسة التوحيد، الحرص على التخلص من الشرك، وانظر كيف شبه الشرك بالشبكة، فالشبكة إذا علق بها قدم الإنسان ماذا يكون به، وما الذي يحصل له ؟ الذي يحصل أنه يسقط، ثم قد يتعلق بجميع بدنه إذا حاول فكها، فتعلق بها يده، ثم يحاول باليد الأخرى فتعلق، حتى لا يستطيع أن يتخلص، وهذا تمثيل بديع للشرك، فإن الإنسان إذا تساهل في يسير الشرك أوشك أن يقع في عظيمه، ولذلك قال رسول الله ( لأصحابه: (( أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ))( وهم الذين كسروا الأصنام، وجاهدوا المشركين، وفعلوا ما فعلوا من أعمال لإقامة التوحيد، ولذلك قال : (( أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر )) فلما سئل عنه قال : (( الرياء )). فيجب على المؤمن أن يحذر من الشرك، دقيقه وجليله، فإن الشرك في الأمة كما أخبر النبي ( خفي كنملة سوداء، على صفاة سوداء، في ليلة ظلماء، أنَّى ترى ؟ وكيف تتقى؟ فيجب على المؤمن أن يحذر ذلك، وأن يكثر من قول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم، كما وجه النبي ( أبا بكر إلى ذلك(9) .(1/7) ثم قال رحمه الله تعالى: ( لعل الله أن يخلصك من هذه الشبكة ) وهي الشرك بالله، الذي قال الله تعالى فيه: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ((10) أخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أنه لا يغفر الشرك، في قوله: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ( فأخبر أنه لا يغفر الشرك، وقوله: ( أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ( أن مصدرية، ويشرك فعل، و (أن ) وما دخلت عليه مؤولة بمصدر تقديره: [ إن الله لا يغفر إشراكاً به ] وأخذنا في قواعد التفسير أن النكرة في سياق النفي أو في سياق النهي تفيد العموم، ولذلك استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على أن الشرك الأصغر لا يغفر، لأن قوله: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ( أي: لا يغفر إشراكاً به، يشمل الشرك الأصغر، والشرك الأكبر، وهذا قول شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع.
وقال آخرون : أن هذا العموم مقيد بالإجماع على أن الشرك الأصغر لا يخلد صاحبه في النار، فإن قوله جل وعلا: ( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ((11) أجمعت الأمة على أنه لا يشمل الشرك الأصغر، فقالوا: كما أن الإجماع منعقد على عدم دخول الشرك الأصغر في تلك الآية، وهي آية سورة المائدة، كذلك أجمعت الأمة على أنه لا يدخل الشرك الأصغر هنا، لكن الحقيقة أنه ليس فيه إجماع، ولذلك اختلف العلماء في الشرك الأصغر، هل يغفر، أو لا يغفر ؟ وعلى كل حال يجب التوقي من الشرك الأصغر، والخوف منه، فإنه إما أن يكون داخلاً في هذه الآية، وإما ألاَّ يكون داخلاً، وعلى الأمرين فالإنسان على خطر، لكن لا إشكال أنه إذا كان داخلاً فإن الإنسان يجب عليه أن يحذر الشرك دقيقه وجليله، لأنه لا يقع تحت المغفرة.(1/ ثم قال: ( وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ ( المشار إليه: هو الشرك، يعني: يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، فعلق المغفرة فيما دون الشرك بالمشيئة، ثم قال: (وذلك بمعرفة أربع قواعد ذكرها الله تعالى في كتابه)، ثم شرع رحمه الله في ذكر القواعد الأربع.
الدرس الثاني
[ القاعدة الأولى ] أن تعلم أن الكافرين الذين قاتلهم رسول الله (، مقرون بأن الله تعالى هو الخالق الرازق المدبر، وأن ذلك لم يدخلهم في الإسلام، والدليل قوله تعالى: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ(.
(1/9)
(القاعدة الأولى) من هذه القواعد الأربع: ( أن تعلم أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله ( مقرون بأن الله تعالى هو الخالق الرازق المدبر ) هذا فيه بيان حال الذين قاتلهم رسول الله (، حالهم الإقرار بتوحيد الربوبية، فهم مقرون بأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق، مقرون بأن الله هو المدبر، مقرون بأن الله هو المالك، مقرون بأن الله هو الرازق، وهذه حال جمهورهم، هذه حال أكثر الذين بعث فيهم النبي (، وإن كان منهم طائفة يقولون: ( وَقَالُوا مَا هِيَ إلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلا الدَّهْرُ ((12)، فهؤلاء هم الدهريون، لكن هؤلاء فئة ليسوا هم الأكثر والغالب فيمن بعث فيهم النبي (، بل غالب من بعث فيهم النبي ( يقرون بأن الله هو الخالق، وأنه هو المالك، وأنه هو الرازق، وأنه هو المدبر، ويضيفون إليه سبحانه وتعالى هذه الأمور، وإن كانوا في إقرارهم بالربوبية على غير جادة، أي: لم يستكملوا توحيد الربوبية، وذلك أنهم لا يعتقدون البعث بعد الموت، ومن لوازم الإقرار بالربوبية: الإقرار بأن الله سبحانه وتعالى يبعث الناس بعد موتهم، فإن ذلك من متممات اعتقاد أن الله هو المحيي المميت، فالذين بعث فيهم النبي ( كانت هذه حالهم على وجه الجملة والغالب، ودليل أنهم مقرون بهذا التوحيد، الاستفهامات المتعددة الكثيرة في كتاب الله (، التي يُسأل فيها هؤلاء عن خالق السماوات والأرض، عن المالك، وما أشبه ذلك من الاستفهامات التي تعددت في مواضع كثيرة من كتاب الله ( ويكون الجواب فيها: قل الله، فدل ذلك على إقرارهم بأنه سبحانه وتعالى الخالق، المالك، المدبر، الرازق، وقد انتخب الشيخ رحمه الله تعالى آيةً جمعت الإقرار بأركان توحيد الربوبية، وهي هذه الآية التي في سورة يونس، وهي قوله تعالى: ( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ((13) هذا فيه إثبات الرزق له جل وعلا، وأنه الرازق: ( أَمَّنْ يَمْلِكُ
(1/10)
السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ ( هذا فيه إثبات الملك ( وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ( هذا فيه إثبات الخلق، وفيه أيضاً إثبات البعث بعد الموت، لكن هم لا يقرون بالبعث بعد الموت، إنما يثبتون أن الله يحيي ويميت، فيقولون: الذي أحيا فلاناً الله، والذي أمات فلاناً الله، فجمهورهم لا يقر بالبعث بعد الموت، بل كانوا ينكرون ذلك، كما ذكر ذلك جل وعلا في آيات عديدة، قال: ( وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ( في هذا إثبات التدبير، وأن الله سبحانه وتعالى هو المدبر، وهذه الأمور الأربعة هي أركان توحيد الربوبية، ولا يستقر ولا يستقيم الإقرار بتوحيد الربوبية إلاَّ بهذه الأمور، مع إضافة ما ذكرناه من الإحياء، والإماتة، وأن الله جل وعلا يبعث الناس بعد موتهم، إذا سئل هؤلاء عن هذه الأمور فجوابهم ما ذكره الله جل وعلا: ( فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ((14) وهم يستطيعون في وقت تنزل الوحي أن يقولوا: ليس الخالق هو الله، ولكنهم لم يقولوا، وذلك لكونه ثابتاً مستقراً في فطرهم، لا يملكون إنكاره ولا رده، فكان الجواب من الله على هذا الجواب منهم أن أمر رسوله أن يقول لهم: ( فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ( هذا يفيد وجوب تقوى كل ما يوقع الإنسان في هلكة، لأنه لم يذكر المعمول، ولا ذكر ما يتقى، وهذا إطلاق يفيد العموم، وأول ما يتقى الشرك، وذلك أنه أول ما نهى الله عنه، وأول ما أمر الله بضده، وهو التوحيد، أفلا تتقون الشرك إذا كنتم تقرون بهذه الأمور.
(1/11)
وقوله رحمه الله تعالى: ( فإن ذلك لم يدخلهم الإسلام ) هذا فيه بيان أن الإقرار بتوحيد الربوبية على وجه الإجمال لا يفيد الإنسان دخولاً في الإسلام، بل هو باق على الكفر حتى يقر بأنه لا إله إلاَّ الله، ولذلك الذين يفسرون لا إله إلاَّ الله بأنه لا خالق إلاَّ الله، أو لا مخترع إلاَّ الله، أو لا صانع إلاَّ الله، ينزلون بمعنى هذه الكلمة العظيمة إلى معنى لا يخالف فيه أهل الشرك، وأهل الشرك ما كان قتالهم للنبي ( ومضادتهم له أنهم يثبتون خالقاً مع الله، إنما كان قتالهم ومضادتهم لكون النبي ( دعاهم لعبادة رب واحد، وإلهٍ واحد ( أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ((15) هذا الذي استغربوه وتعجبوا منه.
الدرس الثالث
(1/12)
[ القاعدة الثانية ] أنهم يقولون: ما دعوناهم وتوجهنا إليهم إلا لطلب القربة والشفاعة. فدليل القربة قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (. ودليل الشفاعة، قوله تعالى: ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ (. والشفاعة شفاعتان: شفاعة منفية، وشفاعة مثبتة: فالشفاعة المنفية: ما كانت تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، والدليل قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (. والشفاعة المثبتة: هي التي تطلب من الله، والشافع مكرم بالشفاعة، والمشفوع له من رضي الله قوله وعمله - بعد الإذن - كما قال تعالى: ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ (.
هذه القاعدة الثانية فيها بيان ما يحتج به أهل الشرك على شركهم، وهذه الحجة متكررة وليست حجة جديدة، فكل من صرف شيئاً من العبادة، أو التعظيم، أو المحبة القلبية التي لا تجوز إلا لله احتجوا بقولهم: هؤلاء أولياء الله، هؤلاء نرجو أن يقربونا إليه، أو هؤلاء نرجو شفاعتهم يوم القيامة، فهذان البابان هما أعظم الأبواب التي ولج منها أهل الشرك إلى شركهم، طلب القربة ممن تصرف له العبادة من دون الله، والأمر الثاني الشفاعة.
(1/13)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: القاعدة الثانية: ( أنهم يقولون : ما دعوناهم وتوجهنا إليهم إلا لطلب القربة والشفاعة ) القربة إلى الله بهم، ولذلك أهل الشرك يفسرون قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ((16) أي: ما يوصلكم إليه من الأولياء، والصالحين، يحرفون الكلم عن مواضعه، فهم يفسرون كلام الله بما نهى عنه الله جل وعلا وما نهى عنه رسوله ( يقول تعالى في هذه الآية: ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ((17) يبين أن هؤلاء صرفوا العبادة بأنواعها لمن تقرّبوا إليهم، لأجل هذه الحجة.
(1/14)
يقول المؤلف رحمه الله تعالى: ( فدليل القربة قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ( أولياء يعبدونهم، ويتقربون إليهم، يطلبون منهم المدد والنصر، يخافون هؤلاء كخوفهم من الله تعالى، قالوا: ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى( يعني: لا نقوم بهذا الذي نقوم به من عباداتٍ إلاّ ليقرّبونا إلى الله زلفى، وهم لا يسمونه شركاً، إنما من هذه العبادات و القربات التي يتوجهون بها إلى غير الله، ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( زلفى: أي منزلة، وحظوة، ومكانة، فهم لا يفعلون ذلك إلا طلباً للحظوة، والمكانة عند الله، فجعلوا هؤلاء المخلوقين وسائط ووسائل يتقربون بهم إلى الله سبحانه وتعالى، فقال الله سبحانه وتعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( من هذه الدعاوى الكاذبة ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ( وهذا فيه النعي على هؤلاء، والإخبار بكذبهم في دعواهم، وأنهم إنما يعبدونهم لا لأجل طلب القربة من الله، لأن الذي يطلب القربة إلى الله لا يتقرب إليه بما يبغضه، وبما يكرهه، بل بأشد ما يبغض جل وعلا ( وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ((18) قال جل وعلا: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ((19) مع أن رحمته سبقت غضبه، لكن الذنب عظيم، والجرم خطير، ضاقت عنه رحمة الله جل وعلا، وهو الشرك الذي قال الله جل وعلا فيه: ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ((20) هذا هو الباب الأول الذي يلج منه من يلج إلى الشرك، وأما الباب الثاني: فهو الشفاعة، ودليل الشفاعة قوله تعالى: ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ((21) أي: هؤلاء الذين يشفعون لنا عند
(1/15)
الله، فيرفعون منازلنا وينقذوننا من النار، ويدخلوننا الجنة، وما إلى ذلك مما يأملونه من أوهامٍ وظنونٍ كاذبة، فإن الأمر بيد الله يفعل ما يشاء، حتى الشافع لا يشفع إلا بإذنه سبحانه وتعالى.
قال: ( والشفاعة شفاعتان: شفاعة منفية، وشفاعة مثبتة ) من أين هذا ؟ هذا من الاستقراء، ومن أين لنا أن الشفاعة شفاعتان ؟ دليل ذلك في كتاب الله عز وجل، فمن تتبع ذكر الشفاعة في الكتاب والسنة يجد أنها نوعان: شفاعة منفية، وشفاعة مثبتة، الشفاعة المنفية: هي الشفاعة الشركية، والشفاعة المثبتة: هي الشفاعة لأهل التوحيد، الذين قال فيهم النبي ( لما سئل : من أسعد الناس بشفاعتك ؟ قال: (( من قال : لا إله إلا الله خالصاً من قلبه))(22)، هذا أسعد الناس بشفاعة النبي ( وأوفرهم حظاً، ونصيباً منها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: ( فالشفاعة المنفية: ما كانت تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله) فما طلب من غير الله من الشفاعات فإنها شفاعة منفية، فالذي يقول: يا رسول الله اشفع لي، أو يا علي اشفع لي، أو يا حسين اشفع لي، أو يا عبد القادر الجيلاني اشفع لي، هؤلاء كلهم سألوا الشفاعة من غير الله، وطلبهم الشفاعة من غير الله شرك، وهو نظير ما كان يفعله أهل الجاهلية، وأهل الشرك، قال: ( فالشفاعة المنفية: ما كانت تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله ) وهذا قيد مهم، فما يقدر عليه الإنسان المخلوق من الشفاعات، كأن يطلب أحد الناس من آخر أن يشفع له عند صاحب عمل، أو صاحب منصب، أو صاحب جاه، ليحقق له نفعاً، أو يدفع عنه ضراً، هل هذا من الشفاعة الشركية ؟ الجواب: ليس هذا من الشفاعة الشركية، بل هذا من الشفاعة الجائزة التي أمر بها النبي ( في قوله: (( اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما يشاء ))(23).
يتبع
اخوكم
ابو عزام الانصاري