بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الى اخوتي مني السلام تحية
الى الاسود في كل مكان واخص منهم اسود الاسلام في سجون الظلم والكفر
فرج الله عنهم يارب
اقدم لكم شيء بسيط لنصرتكم عسى الله ان يغفر لنا عجزنا لنصرتكم
الله المستعان
الكتاب : قطعة من شرح الشيخ عبد العزيز الطريفي لبلوغ المرام فرغها بعض الأخوة جزاهم الله خيرا
المؤلف : عبد العزيز بن مرزوق الطّريفي
مصدر الكتاب : ملتقى أهل الحديث
تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة
شرح
بلوغ المرام
اشرف على تفريغه وإخراجه
حمود المطيري وفقه الله ومن أعانه
الناشر ملتقى أهل الحديث
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمد عبده ورسوله ، اللهم صلي وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، أما بعد :
(1/1)
فإن دراسة السنة من أهم العلوم وأفضلها وأشرفها عند الله سبحانه وتعالى ، وإن من أعظم ما يتقرب به المتقربون إلى الله سبحانه وتعالى ويسعى إليه الساعون هو طلب أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك العناية بصحيحها وسقيمها ، فإن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحي من الله سبحانه وتعالى ، أوحاه إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بواسطة جبريل وهي قرينة للقرآن من جهة الاحتجاج ، ولذا فإنه قد أجمع أهل السنة على أن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحي من الله سبحانه وتعالى ، وقد قال الله جل وعلا في كتابه العظيم ، { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } ، وهذا بيان من الله سبحانه وتعالى على أن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحي من الله جل وعلا ، وعلى هذا أهل العلم وكذلك صنيعهم دل على ذلك في مصنفاتهم ، فالإمام البخاري عليه رحمة الله قد عقد أول كتاب في صحيحه : ( كتاب بدء الوحي ) ، إشارة إلى أن ما يليه من هذا الكتاب إنما هو وحي من الله تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، ولذا قال مشيراً إلى ذلك في كتاب التوحيد من صحيحه : ( باب ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وروايته عن ربه ) ، وهذا محل اتفاق عند أهل العلم أيضاً فقد أخرج الدارمي في سننه وأبو داود في كتاب المراسيل والخطيب في الكفاية والفقيه والمتفقه وابن عبد البر في كتابه الجامع والمروزي في كتاب السنة عن الأوزاعي عن حسان قال : كان جبريل ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنّة كما ينزل عليه بالقرآن .
(1/2)
وقد أخرج الخطيب في كتابه الكفاية عن أحمد بن زيد بن هارون قال: إنما هو صالح عن صالح وصالح عن تابع وتابع عن صاحب وصاحب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله عن جبريل وجبريل عن الله عز وجل ، أي فهذه شريعة الله سبحانه وتعالى من كتاب وسنة ، إنما يرويها حتى وصلت إلينا صالح عن صالح وصالح عن تابع وتابع عن صاحب وصاحب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل وجبريل عن الله عز وجل ، فلا يقف شيء من وحي الله سبحانه وتعالى عند أحد من هؤلاء دون الله سبحانه وتعالى والنبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يقوله ويفعله ، كله وحي من الله جل وعلا ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سئل في شيء من شرع الله سبحانه وتعالى وكان لديه وحي من الله تعالى سابق أخبر به ، وإن لم يكن لديه وحي من الله جل وعلا فإنه حينئذٍ ينتظر خبر السماء ولا يتكلم من دون الله سبحانه وتعالى .
(1/3)
وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك أخبار تبين وقوف النبي - صلى الله عليه وسلم - وعدم كلامه من تلقاء نفسه ، ومن ذلك ما أخرج الشيخان من حديث إسماعيل عن ابن جريج عن عطاء عن صفوان بن أميه عن أبيه أنه كان يقول لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : ليتني أرى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - حين ينزل عليه الوحي ، قال : فلما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة ، وعلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثوب قد أظل به عليه مع إناس من أصحابه فيهم عمر ، إذ جاءه رجل عليه جبة صوف متضمخ بطيب ، فقال : يا رسول الله ! كيف ترى في رجل قد أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمخ بطيب ؟ قال : فنظر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ساعة ثم سكت ، فجاءه الوحي ولم يكن حينئذٍ لدى النبي - صلى الله عليه وسلم - علماً من الله جل وعلا ووحي سابق ، فأشار عمر بيديه إلى يعلى بن أميه أن تعال ، فجاء يعلى فأدخل رأسه فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - محمر الوجه يغط ساعة ثم سرّيَ عنه ، فقال : « أين الذي سألني عن العمرة ؟ » ، فالتُمِس الرجل فجيء به ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات ، وأما الجبة فانزعها ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك » ، فهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاءه ذلك الرجل الذي قد تلبس بعمرة ، جاءه ولم يكن لديه علم عما تلبس به ، فإنه قد لبس المخيط وهي : الجبة وتضمخ بطيب وهما من محظورات الإحرام ، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ولم يكن لدى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحي من الله جل وعلا سابق ، فانتظر الوحي الذي جاءه به جبريل عليه السلام ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن أخباره وأقواله وأحكامه التي يقولها ويفعلها من أمر ونهي أو فعل وترك ونحو ذلك إنما هي وحي من الله سبحانه وتعالى بل هي من كتاب الله جل وعلا ، فالله سبحانه وتعالى قد قرن طاعة نبيه
(1/4)
- صلى الله عليه وسلم - بطاعته في غير ما موضع من كتابه سبحانه وتعالى ، بل أخبر أن من يعصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما يعصي الله جل وعلا ، أخرج الشيخان قالا: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني قال : جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله ، قال : فقام خصمه الأعرابي الآخر ، فقال : صدق يا رسول الله ، اقض بيننا بكتاب الله ، فقال ذلك الأعرابي : إن ابني كان عسيفاً على هذا - يعني أجيراً يرعى له غنمه - فزنى بامرأته ، فقالوا لي على ابنك الرجم ، قال : ففديت ابني منه بمائة من الغنم ووليدة ، ثم سألت أهل العلم فقالوا إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « لأقضينَّ بينكما بكتاب الله ، أما الوليدة والغنم فردٌّ عليك ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ، وأما أنت يا أنيس ، فاغدُ إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها » ، فغدا أنيس إليها فرجمها .
(1/5)
ومن تأمل أحكام النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا الأعرابي وخصمه فإنه يجد النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حكم أحكاماً ليست في القرآن الكريم بنصها ، وإنما هي من النبي - صلى الله عليه وسلم - من وحي الله جل وعلا ، الذي هو يعد من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي هي قرينة القرآن الكريم من جهة الاحتجاج ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - حكم عليه بأن الغنم والوليدة رد عليه ؛ لأنها ليست من حكم الله سبحانه وتعالى ، وكذلك قد حكم على ابنه جلد مائة ، والجلد قد ثبت في كتاب الله سبحانه وتعالى في سورة النور في قوله جل وعلا : { فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } ، وكذلك قد حكم على ابنه بأن يجلد مائة جلدة ويغرّب عام ، وتغريب العام أيضاً هو ليس مما نُص عليه في كتاب الله سبحانه وتعالى ، وإنما هو من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « لأقضين بينكما » ، وهذا قَسَمٌ منه - صلى الله عليه وسلم - : « لأقضين بينكما بكتاب الله » ، وحكم بأن يجلد مائة جلدة ويغرّب عام ، وذلك يدل على أن أحكام النبي - صلى الله عليه وسلم - قرينة لكتاب الله سبحانه وتعالى ، الذي هو القرآن الكريم من جهة الاحتجاج.
(1/6)
والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر في غير ما موضع أن سنته وما يرد عنه - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أنها قرينة لكتاب الله سبحانه وتعالى يحرم ردها ويحرم الإعراض عنها لقول أحد من الناس، بل أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم أن عدم توقير أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - إيذان بإحباط العمل ، وقد قال الله جل وعلا في سورة الحجرات : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } ، فإحباط العمل هنا ليس من الذي تسبب فيه الكفر ، فمعلوم أن الكفر بالله سبحانه وتعالى يحبط العمل ، ولكن هنا من يرفع صوته عند النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يكونون هم من أهل الإيمان وارتكبوا هذه المعصية ، التي ربما تشعر بعدم إجلال لأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ورفع الصوت عند أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - سواء كان في حياته أو بعد مماته عند سماعها ممن يتحدث بها الحكم واحد ، فإن ذلك مظنة حبوط العمل والعياذ بالله، وإن لم يكن كفراً، فما الظن إذاً بمن قدم على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهجه وهديه قول غيره ونهجه وهديه، أليس هذا قد حبط عمله من غير ان يشعر..!!.
أخرج الشيخان من طريق صالح عن بن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة عن أبيها الصديق قال: لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ.
وهذا الصديق يخاف إن ترك السنة أن يزيغ فماذا عسى أن يكون من وقت وزمان أضحى أهله يستهزئون بنبيهم وبأوامره ونهيه، ويتنافسون في مخالفته، بل ويسخرون من نهجه..
وقد أجمع المسلمون على أن من ظهر له من السنة شيء لم يحل له أن يدعها لقول أحد كان.
(1/7)
وإذا علم هذا علم عظمة التعبد بالعناية بالوحي وكذلك الاعتناء بما يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والتعبد بما فيه ، وإذا علم أن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحي من الله جل وعلا ، فإنه حينئذٍ يعلم شرف ذلك العلم وفضله عند الله سبحانه وتعالى .
وقد كان السلف الصالح عليهم رحمة الله كثيراً ما يعتنون بمعرفة أحكام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحواله ، وكذلك فإن مجالس الذكر إنما هي مجالس الحلال والحرام ليست هي مجالس القصاص ونحوها ، إنما هي مجالس الحلال والحرام ، معرفة الفقه ومعرفة أحكام القرآن وتفسيره ونحو ذلك، فقد أخرج أبو نعيم في كتابه الحلية من حديث أبي عبد الملك قال : حدثنا يزيد بن سمرة أبو هزان قال : سمعت عطاء الخرساني يقول : مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام .
وقد أخرج أيضاً أبو نعيم من حديث يحيى بن كثير قال : تعلّم الفقه صلاة ، ودراسة القرآن صلاة .
فإذن إذا علم أن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحي من الله سبحانه وتعالى فإنه يُعلم شرف ذلك العلم وعظمة الأجر عند الله سبحانه وتعالى لمن تتبع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتفقه فيها، وسعى في حفظها وفي معرفة صحيحها من سقيمها، والذب عنها، وهذا من أرفع الدرجات عند الله لمن رزق الاخلاص والنية الصالحة، وقد قال يحي بن يحي النيسابوري: الذب عن السنة أفضل من الجهاد في سبيل الله. قيل له: الرجل ينفق ماله ويتعب نفسه ويجاهد، فهذا أفضل منه؟، قال: نعم بكثير..
وقد قال ابو عبيد القاسم بن سلام: المتبع للسنة كالقابض على الجمر، وهو عندي اليوم أفضل من الضرب بالسيوف في سبيل.
وهذا يدل على فضل الجهاد كما يدل على فضل السنة حيث وقع التفضيل بينهما لعلو شأنهما في الاسلام.(1/ ونحن في هذه الدرس وما يتبعه من مجالس نشرح كتاباً من أعظم وأنفع الكتب في باب الأحكام ، وهو كتاب : ( بلوغ المرام للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني عليه رحمة الله ) ، وكتابه بلوغ المرام من أنفع كتب الأحكام فقد جمع عليه رحمة الله مجموعة من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - من كثير من كتب السنة ، منها الصحيح ومنها ما هو دون ذلك ؛ لأنه عليه رحمة الله قصد أن يجمع ما يستدل به أصحاب المذاهب على أقوالهم التي يستدلون بها في أبواب الفقه ، فجمع الأحاديث ورتبها على الأبواب ، فكان قليل النظير في بابه بل هو من أنفس كتب الأحكام التي صنفها أهل العلم في كتب الأحكام من الأئمة المتأخرين عليهم رحمة الله .
قول الحافظ ابن حجر في مقدمته: ( بسم الله الرحمن الرحيم ....إلخ )
والمصنف عليه رحمة الله في كتابه بلوغ المرام قد ابتدأ في المقدمة بالبسملة، ويقال للفظ : ( بسم الله ..) بسمله اختصاراً، ويقال لمن قال: ( بسم الله ) بسمل أو مبسمل قال عمر بن ابي ربيعة:
لقد بسملت ليلى غداة لقيتها *** فيا حبذا ذاك الحبيب المبسمل.
وابتداء الحافظ بالبسملة هو اقتداء بالكتاب العزيز، وبما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من التسمية من فعله - صلى الله عليه وسلم - في كثير من أحواله كالمكاتبات وغيرها، وقد جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - الأمر بالتسمية إلا أنه لا يثبت ، فقد رواه الخطيب في جامعه من حديث مبشر بن اسماعيل عن الأوزاعي عن الزهري عن ابي سلمة عن ابي هريرة مرفوعا: ( كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع).
(1/9)
وهو خبر منكر بل موضوع، أعله الحفاظ كالإمام أحمد والدارقطني والصحيح فيه أنه مرسل وبغير لفظ البسمله وهو منكر أيضاً، وهم فيه مبشر بن إسماعيل فرواه بلفظ البسملة وقد رواه جماعة كالوليد بن مسلم وبقية وخارجه بن مصعب وشعيب بن إسحاق ومحمد بن كثير والمعافى بن عمران وعبدالقدوس وغيرهم عن الاوزاعي بلفظ : ( كل أمر ذي بال لا يبدأ بالحمد لله ..) والصحيح في هذا اللفظ الارسال، ووهم من عزاه بلفظ البسملة للسنن كالزيلعي والعراقي والسيوطي وغيرهم، وتساهل بعض المتأخرين فحسنه كالسيوطي وهو من المتساهلين جدا في تقوية الأخبار الضعيفة والواهية، ويقلد في هذا الباب كثيراً.
إذا فالأمر بالبسملة في الخبر السابق لا يثبت، إلا أنه ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من فعله في المكاتبات، فقد أخرج الشيخان البخاري ومسلم من حديث الزهري عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن عبدالله بن عباس عن أبي سفيان عليهما رضوان الله تعالى أنه قال : كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل : « بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم » ، وهذا ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - من فعله .
والابتداء بالبسملة قد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواضع عدة الحث بالابتداء بها ، فقد جاء عنه في ذلك أحوال عدة من الحث على التسمية في ابتداء الأمور سواء في ابتداء الأفعال أو في ابتداء المكتوب أو في ابتداء بعض العبادات ، منها:
أن يبتدأ بالبسملة كاملة ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في مواضع عدة : منها ابتداء القراءة قبل الفاتحة بعد تكبيرة الإحرام بالبسملة ، كما أخرجه النسائي وابن خزيمة وابن حبان عن سعيد بن أبي الهلال عن نعيم المجمر : صليت وراء أبي هريرة فقرأ : ( بسم الله الرحمن الرحيم ... ) الخبر ، وفيه قال أبو هريرة والله إني لأشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
(1/10)
ومثله الابتداء بها عند القراءة مطلقاً وفي ابتداء المكتوب وفي ذلك احاديث وأثار صحيحة
* وكذلك من الأحوال أن يبتدأ عمله بالبسملة بـ ( بسم الله ) من غير إضافة ( الرحمن الرحيم ) ، جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحوال منها ما أخرجه الإمام مسلم من حديث الوليد بن كثير عن وهب بن كيسان عن عمر بن أبي سلمة أنه أكل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : « قل بسم الله ، وكل بيمينك » ، وجاء في التسمية عند الطعام نصوص أخرى بذكر التسمية تامة
* وكذلك قد جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - حالة ثالثة هي التسمية من غير اضافة لفظ : ( الرحمن الرحيم ) مع زيادة شيء آخر، منها ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في وضع الميت بالقبر، وأن يقول : « بسم الله وعلى ملة رسول الله » ، كما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما من حديث شعبة عن قتادة عن أبي الصديق عن عبدالله بن عمر ، وكذلك ما جاء في الصحيحين من حديث منصور عن سالم بن أبي الجعد عن كريب عن عبدالله بن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال : بسم الله اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ... » الخبر ، كما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - .
وحالة رابعة وهي مجيء لفظ الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ : ( ذكر الله ) من غير تصريح.
(1/11)
والسنة في ذلك لزوم ما جاءت به الاحاديث الصحيحة وعدم الزيادة عليها ففي الأحوال التي ثبت فيها الخبر عنه عليه الصلاة والسلام القول ببسم الله الرحمن الرحيم تامة لا يتحصل العمل وامتثال السنة إلا بذكرها تامة وإن اقتصر في تلك الأحوال على بسم الله فحسب لا يتحصل له امتثال السنة وفي الأحوال التي ثبت الاقتصار فيها على لفظ بسم الله فالامتثال في تلك الاحوال لزوم قول بسم الله فحسب وقد قال شيخ الاسلام ابن تيمية: يقول عند الأكل بسم الله الرحمن الرحيم كاملا فإنه أكمل بخلاف الذبح .
وأما الأحوال التي ثبت فيها النص بذكر بسم الله مع زيادة إضافة لفظ آخر غير لفظ الرحمن الرحيم فالامتثال فيها قول بسم الله مع تلك الزيادة ومن اراد الزيادة بعد بسم الله بلفظ الرحمن الرحيم ثم ذكر الاضافة الاخرى الثابتة بالنص لم يكن ممتثلا، لان هذه أذكار وأدعية الاولى الوقوف عليها كما جاءت.
وأما الأحوال التي ثبت فيها ذكر اسم الله من غير التصريح ببسم الله الرحمن الرحيم أو ببسم الله فحسب فهو مخير بذكر البسملة تامة وهو الاولى أو الاقتصار على قول بسم الله.
(1/12)
وقد أجمع أهل العلم على مشروعية التسمية كما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، إلا أن أهل العلم اختلفوا في ابتداء الشعر بالبسملة ، فقد روي عن بعض السلف من التابعين وغيرهم كراهية التسمية في ابتداء الشعر ونحو ذلك ، ومن ذلك ما أخرجه الخطيب البغدادي في كتاب الجامع من حديث جنادة بن سلم وهو من ولد جابر بن سمرة عن مجالد بن سعيد عن الشعبي قال : أجمعوا ألا يكتبوا أمام الشعر ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، وقد أخرجه الخطيب البغدادي من طريق آخر من حديث حفص بن غياث عن مجالد عن الشعبي ، قال: كانوا يكرهون أن يكتبوا أمام الأشعار ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، وهذا القول قد قال به أيضاً غير عامر بن شراحيل الشعبي ، فقد روي أيضاً عن الزهري عليه رحمة الله ، كما أخرجه الخطيب البغدادي في كتابه الجامع أيضاً من حديث عبدالعزيز بن عمران الزهري عن ابن أخي ابن شهاب عن عمه قال : مضت السنة ألا يكتب في الشعر ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، إلا أن هذا القول لا يثبت عن عامر بن شراحيل الشعبي ؛ لأن في إسناده مجالد بن سعيد وهو ضعيف ، والذي عليه المحققون من أهل العلم وقد ذهب إليه عامة المتأخرين أن ابتداء الشعر سواءً كان في تصنيف أو في قول أن ذلك من السنة ولا يخرجه من ذلك شيء يثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وقد روي ذلك عن سعيد بن جبير وغيره من التابعين كما روى الخطيب البغدادي أيضاً من حديث محمد بن مصعب عن جبلة بن أبي سليمان قال : سمعت سعيد بن جبير يقول : لا يصلح كتاب إلا أوله ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وإن كان شعراً ، فهذا يدل على مشروعية ابتداء التسمية في جميع الأعمال ، وأن ذلك هو السنة لا يستثنى من ذلك شيء ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستثن من ذلك شيئاً - صلى الله عليه وسلم - .
وقد صنف اهل العلم في البسملة واحكامها مصنفات منهم الحافظ ابن عبد البر فله جزء فيها، وابن الصبان وهو من المتاخرين.
(1/13)
والمصنف الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله في كتابه بلوغ المرام قد وقع له اصطلاحات وقد نص عليها في مقدمته ، فقد ذكر أنه إذا قال أخرجه السبعة أنه يريد بذلك : أصحاب الكتب الستة والإمام أحمد عليهم رحمة الله ، وإذا قال أخرجه الأربعة فإنهم : أصحاب السنن ، وكذلك الستة هم : البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة ، ثم ذكر بقية ما وضعه من اصطلاحات ، بعضها يعتبر خاص به عليه رحمة الله , فاصطلاحات الحافظ ابن حجر في كتاب بلوغ المرام هنا اصطلاحات ينبغي لطالب العلم معرفتها قبل أن يبتدأ في بلوغ المرام ، فإن مما ينبغي لطالب العلم أن يعرف اصطلاحات أهل العلم في مصنفاتهم لكي لا يقع في توهيم أهل العلم وتخطئتهم من غير بينة , فإن لكل عالم من أهل العلم شيء من الاصطلاحات في كتابه إما أن يذكرها في مقدمته ، وإما أن تعلم بالسبر والنظر لذلك الكتاب الذي صنفه ، فإنه حينئذٍ يستخلص ويستخرج اصطلاحات من كتابه ذلك .
فالحافظ ابن حجر عليه رحمة الله مثلاً في قوله : ( متفق عليه ) هنا أي أنه أخرجه البخاري ومسلم ، مع أنه يوجد عند بعض أهل العلم من أمثال هذا الاصطلاح يعد غير ما أراد به الحافظ بن حجر البخاري ومسلم فحسب، فمثلاً صاحب المنتقى المجد ابن تيمية عليه رحمة الله إذا قال : ( متفق عليه ) فإنه يريد به أخرجه البخاري ومسلم والإمام أحمد.
(1/14)
وكذلك فإن أبا نعيم الأصبهاني عليه رحمة الله في كتابه حلية الأولياء له شيء من الاصطلاحات في ذلك ، فإنه عليه رحمة الله إذا أطلق ( متفق عليه ) ؛ فإنه لا يريد به في كثير من الأحيان أنه أخرجه البخاري ومسلم، وإنما يريد به أنه توفرت فيه شروط الصحة ، فإنه قد أطلق هذه الكلمة ( متفق عليه ) في كتابه حلية الأولياء ، في أحاديث ليست بنادرة أو بالقليلة ، ووجدت أنها ليست في البخاري ولا مسلم عليهما رحمة الله ، أو توجد في أحد الصحيحين وليست في الآخر ، وهذا يدل على أن له اصطلاح غير ما اصطلح عليه بعض أهل العلم ، وأخذه عمن اصطلح عليه عامة المتأخرين، فمثلاً الحافظ أبو نعيم عليه رحمة الله يورد بعض الأحاديث ويقول ( متفق عليه ) وليست هي في البخاري ومسلم أصلاً ، منها ما أخرجه أبو نعيم في كتابه الحلية من حديث سفيان عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « الإمام ضامن ، والمؤذن مؤتمن ، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين » ، قال أبو نعيم عليه رحمة الله بعد إخراجه لهذا الخبر قال : صحيح متفق عليه ، وهذا الخبر ليس في الصحيحين ولا في أحدهما ، فإن المصنف عليه رحمة الله أراد بذلك أنه توفرت فيه شروط الصحة ، وقال هذه الكلمة في غير ما خبر ، منها ما أخرجه أيضاً من طريق أبي داود الطيالسي عن سفيان عن أبي إسحاق عن البراء ، قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم من سفر قال : « آيبون تائبون لربنا حامدون »، وهذا ليس في الصحيحين ولا في أحدهما ، وإنما مراد المؤلف عليه رحمة الله في أمثال هذه المواضع أن هذه الأحاديث قد توفرت فيها شروط الصحة التي اشترطها أهل العلم ، ومراده أن ذلك أعلى درجات الصحة عنده عليه رحمه الله .
(1/15)
إذاً فينبغي على طالب العلم أن يعلم اصطلاحات أهل العلم في مصنفاتهم ، ليكون على بينة من أحكامهم ، ولكي لا يقع في شيء من الخطأ في فهم مراد الحفاظ عليهم رحمة الله.
1- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البحر : « هو الطهور الماؤه ، الحل ميتته » . أخرجه الأربعة ، وابن أبي شيبة واللفظ له ، وصححه ابن خزيمة والترمذي .
الحديث الأول الذي أورده المصنف عليه رحمة الله هو حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وهو ما يسميه أهل العلم بحديث البحر .
قوله عليه رحمة الله : ( كتاب الطهارة ) :
الكتاب أصل كلمة : كتب ، والمراد بها الجمع ، يقال " تكتب بنو فلان " ، إذا تجمعوا ؛ وسميت الكتيبة كتيبة لاجتماع أفرادها بعضهم مع بعض ، وكذلك يسمى الكتاب كتاباً لاجتماع أوراقه والتصاقها بعضها مع بعض ، وكذلك يسمى المكتوب مكتوباً لاجتماع الحروف في ذلك المكتوب ، وإن كانت ورقة واحدة فإنها تسمى كتاباً إذا كان مكتوب فيها ، ولا تسمى الورقة الواحدة كتاباً حتى يكتب فيها ، فإن المراد بالكتب هنا الجمع ، كما قال الشاعر :
لا تأمنن فزارياً خلوت به ……على قلوصك واكتبها بأسيارِ
قوله عليه رحة الله: ( الطهارة ) :
والطهارة في لغة العرب تطلق على: النَظافة والنزاهة طَهر الثوب من القذر، يعني: تنظيف.وتنزه منه
وفي اصطلاح الشارع تطلقُ على معنيين
الأول: معنوي ، وهو طهارة القلب من الشِّرك في عبادة الله، والبغضاء لعباد الله المؤمنين، وهي اهم من طهارة البدن وأولى بالعناية والملاحظة والتدارك
الثَّاني: حسي، وهي ارتفاع الحدث، وما في معناه، وزوال الخَبث.
قوله عليه رحمة الله : ( باب المياه ) :
(1/16)
المراد بالباب هنا هو : ما يخرج منه ويدخل منه ، وهذا معلوم في لغة العرب ، وأهل العلم قد اصطلحوا على هذه المسميات : ( الكتاب والباب ) ، على أنها في الغالب عند أهل العلم أن ( الكتاب ) هو : ما يجمع أبواباً من مسائل العلم أو من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومنها قول المصنف عليه رحمة الله ( كتاب الطهارة ) ، أراد بالكتاب هنا : الجمع ، أي جامع لأحاديث الطهارة وأخبارها التي جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أصحابه عليهم رضوان الله تعالى .
وإيراد المصنف عليه رحمة الله لهذا الخبر خبر أبي هريرة - هو أول حديث في هذا الباب - أراد به بيان طهورية ماء البحر ، وأن ماء البحر إذا كان طاهراً فإن غيره أولى منه ، وقد جعل أهل العلم هذا الخبر من أصول الطهارة في الشريعة .
وهذا الخبر قد أخرجه كما ذكر المصنف الإمام أحمد وأصحاب السنن ، وكذلك قد أخرجه مالك وابن خزيمة وابن حبان والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن ، وكذلك قد رواه جماعة من أهل العلم ، كلهم رووه من حديث صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمه عن المغيرة بن أبي بردة أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله إنا نركب البحر ، ونحمل معنا القليل من الماء ، فإذا توضأنا به عطشنا ! أفنتوضأ به ؟ ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : « هو الطهور مائه الحل ميتته » .
(1/17)
وهذا الخبر قد تلقته الأمة بالقبول ، وقد صححه جماعة من أهل العلم ، كالإمام البخاري كما في علل الترمذي المفرد والترمذي وابن خزيمة والدارقطني جوده كما في علله ، وكذلك البيهقي وابن عبد البر والحاكم وابن حبان وغيرهم من أهل العلم ، وقد صححه جماعة من أهل العلم يزيدون على ثلاثين إماماً ، ولم أرَ أحداً من أهل العلم ضعّف هذا الخبر سوى ابن دقيق العيد وابن القطان الفاسي ، فإنهما قد أعلاه بسعيد بن سلمة وقالا بجهالته، فإن سعيد بن سلمة قد قال عن النسائي عليه رحمة الله : ثقة ، وذكره ابن حبان في كتابه الثقات ، إلا أن المجاهيل أو من هو مستور الحال عند أهل العلم لا يرد حديثه مطلقاً ، وإنما يعتبر في بعض الأحوال بأحاديثه وتقوى أحاديثه ببعض القرائن، وإنما قبل أهل العلم حديث سعيد بن سلمة في هذا الخبر ؛ لأن أهل العلم قد تلقوا خبره بالقبول، وشاع عندهم فكان قرينة لقبول الخبر ، وأهل العلم في بعض الأحيان يعتمدون على شهرة الخبر عن الاحتجاج بالإسناد وهذا في أحوال نادرة، وأيضاً فإن الحفاظ يقوون في الأحيان أحاديث من لا يعرف فيه جرحاً ولا تعديلا، في بعض ما يرويه إذا إحتفت القرائن على صدقه بحيث لا يأتي بما ينكر، ولا يغرب بالألفاظ وقد صحح البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن حبان وابن خزيمة والدارقطني لجماعة لم يوجد فيهم جرح ولا تعديل، وذلك بعد سبر حديثهم فوجد مستقيماً، ولا يعد هذا تساهلاً منهم، وذلك أن جهلهم بحال الراوي لا يعني جرحاً حتى يخشى من التقوية له، ومعرفة صدق الراوي وضبطه وعدالته تكون بسبر حديثه وتتبعه كما تكون بملاصقته واختباره، والتساهل إنما هو بتقوية أحاديث الضعفاء وبتصحيح خبر المجاهيل مع غرابة حديثهم ونكارته وتفردهم به مع أن احوال المجاهيل تختلف من شخص لآخر، ومن طبقة لأخرى ومن بلد لآخر، وبحسب الرواة عنهم أيضا فمجاهيل متقدمي التابعين ليسوا كمن بعدهم ومن روى عنه الشعبي وابن سيرين ليس كمن روى عنه
(1/18)
أقل منهم حفظا وتثبتا وان كثر عددهم مع قرائن كثيرة يُعملها الحفاظ في قبولهم لحديث بعض المجاهيل، ولذا لا تجد للائمة الحفاظ منهجا واحدا يعملونه في قبول ورد روايات المجاهيل كما لا يخفى فتجدهم يصححون حديث ويوثقون من لا يعرف له إلا حديث واحد وهو معدود في المجاهيل من جهة قلة روايته وتجدهم يردون من له أكثر من حديثين او ثلاثه او اربعة او خمسة وذلك لتفاوت القرائن المحتفة بكل واحد منهم فلأسود بن سعيد لا أعلم له غير حديث ( تقتل عمار الفئة الباغية ) مع هذا وثقه يحي بن معين وابن حبان ونحوه هارون بن رئاب وهو من المقلين جداً، قال سفيان بن عيينة : ( كان عنده أربعة أحاديث ) ومع هذا وثقه أحمد بن حنبل ويحي ابن معين والنسائي، بل قد أخرج الشيخان لمن هو من المستورين ولا يعرف بجرح ولا تعديل كإبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة فقد أخرج له البخاري ولا أعلم من وثقه، وقد أخرج مسلم من حديث أبي عوانة عن عثمان بن عبد الله بن موهب عن جعفر بن أبي ثور عن جابر بن سمرة قال أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أأتوضأ من لحوم الغنم قال إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا توضأ قال أتوضأ من لحوم الإبل قال نعم فتوضأ من لحوم الإبل. وجعفر بن أبي ثور لا أعلم له موثق سوى ابن حبان، ومع هذا أخرج له مسلم في صحيحه وتقلى الأئمة الحفاظ حديثه بالقبول حتى قال الحافظ ابن خزيمه في صحيحه: لم نر خلافا بين علماء أهل الحديث أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل . وفي الصحيحين من الرواة عدد غير قليل ممن هم في عداد المستورين.
(1/19)
فعلى هذا يُعلم أن أمر المجهول يتفاوت بحسب ما ذكرناه فقد يكون الراوي عند الأئمة الحفاظ مجهولا على الرغم من رواية أكثر من واحد عنه، وقد يكون عندهم معروفا بل يكون ثقة وصحيح الحديث مع كونه لم يرو عنه إلا راو واحد فحسب، على هذا لا تكون مسألة المجهول ورفع الجهالة عنه متوقفة على عدد من روى عنه كما يذكره كثير من أهل الاصطلاح والأصول ،.
وإعلال ابن القطان الفاسي وابن دقيق لحديث ماء البحر بجهالة راويه فيه نظر فابن القطان الفاسي ممن يتشدد جدا في هذا الباب ويعمل الاخذ بظاهر الاسانيد وهو قليل الاخذ بالقرائن كحال جمع من اهل العلم كابن حزم والخطيب وكثير من المتأخرين.
وطهورية ماء البحر هي مما لا خلاف فيها عند أهل العلم إلا قول يسير يروى عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله هنا في ابتداء الخبر : ( إنا نركب البحر ) ، فيه دليل على إباحة ركوب البحر ، وأن الأصل فيه الجواز والإباحة ، وهذا الذي يدل عليه كتاب الله سبحانه وتعالى ، فإن الله جل وعلا قد ذكر ركوب الفلك وركوب البحر في غير ما موضع من كتابه سبحانه وتعالى ،قال الله تعالى : { هو الذي يسيركم في البر والبحر } ، والمسير هو : ركوب الدابة في البر ، وكذلك السير على الأقدام ، وكذلك المسير في البحر المراد به : ركوب الفلك والسفن ، وكذلك قوله سبحانه وتعالى : { والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس } .
(1/20)
أما في حالة غلبة الظن بالهلاك كالموج ونحوه فإنه يحرم ، ولذا قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض الأخبار التي هي ضعيفة ، منها ما أخرجها سعيد وعن سعيد أبو داود والبيهقي من حديث مطرف بن طريف عن بشر أبي عبدالله عن بشير بن مسلم عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا يركبن رجل بحراً إلا غازياً أو معتمراً أو حاجاً ، وإن تحت البحر ناراً وتحت النار بحراً » ، وهذا الخبر قد ضعفه بعض أهل العلم فهو مضطرب وضعيف سندا منكر متنا، وضعفه الإمام البخاري عليه رحمة الله كما في تاريخه وقال ابن عبد البر: مظلم الاسناد، وما روي من نهي من بعض السلف عن ركوب البحر يحمل على حالة الظن بالهلكة من اشتداد الموج واشتداد الريح ونحو ذلك ، فإنه ينهى عن ذلك ويكون محرماً، ولذا توقف الشافعي في إيجاب الحج على من وراء البحر فقد قال رحمه الله: ما يبين لي أن أوجب الحج علي من وراء البحر ولا أدري كيف استطاعته، وقد روي ذلك عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كما أخرجه عبد الرازق في مصنفه من حديث معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال : ( كان عمر يكره أن يحمل المسلمين غزاة في البحر ) وهو صحيح عن عمر وإن لم يسمع ابن المسيب من عمر فهو محمول على الاتصال وقد صحح حديثه عن عمر عامة الحفاظ المتقدمين، ولا أعلم في ذلك مخالفاً سوى الترمذي في بعض المواطن يصححه وبعضها يعله وممن نص على تصحيحه الامام أحمد وابو حاتم وابن المديني وغيرهم، وهذا الأثر يحمل في حال شدة الموج وكذلك شدة الريح وغلبة الظن بالهلكة فإنه حينئذ يكره ذلك بل يكون محرماً، وقد رخص عمر في غير تلك الحاله كما رواه البيهقي عن نافع عن بن عمر أن تميم الداري سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن ركوب البحر وكان عظيم التجارة في البحر فأمره بتقصير الصلاة. ومن ذلك أيضاً ما روي عن عبد الله بن عمر كما أخرجه عبد الرازق من حديث ليث عن
(1/21)
مجاهد عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - ( أنه كان يكره ركوب البحر إلا لثلاث غازياً أو حاجاً أو معتمراً ) ، وهذا الخبر لا يصح عن عبد الله بن عمر في إسناده ليث بن أبي سليم وهو ضعيف بإتفاق الحفاظ عليهم رحمة الله ، وأحاديثه عن مجاهد تعتبر ضعيفة إلا في حديثه عن مجاهد عن عبدالله بن عباس في التفسير فإنها قد تمشى لأنها من كتاب ، كما ذكر ذلك ابن حبان عليه رحمة الله ، فإنها يرويها من حديث ليث بن أبي سُليم ويرويها ليث عن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد بن جبر عن عبدالله بن عباس - رضي الله عنه - ، وبقية أحاديث ليث بن أبي سُليم عن مجاهد بن جبر وعن غيره تعد ضعيفة عند أهل العلم .
إلا أن الإمام مالك عليه رحمة الله في مسألة ركوب البحر ، قد فرق بين الرجل والمرأة ، فقد روي عنه أنه كان يكره ركوب المرأة في البحر مطلقاً ؛ وحمل ذلك على أن المرأة إذا ركبت السفينة فإنها حينئذٍ تحتاج إلى كشف عورتها من قضاء حاجة ونحو ذلك ، فإنها تتكشف ، وهذا يغتفر في الرجل ما لا يغتفر في المرأة ، وكذلك في ركوب السفينة فإنها حينئذٍ قد ترى عورات الرجال ، وترى أجساد الرجال في السفن لأن ركوب السفن بحاجة إلى مشقة وكد مما يلزم منها ابداء الصدر والبطن والظهر وكذلك بحاجة إلى كشف العورة للضرورة ، مما استدل به الإمام مالك عليه رحمة الله على منع المرأة وكراهية ركوب البحر لها، إلا أن ذلك في الغالب منتفي وخاصة في وقتنا هذا ، فإنه حينئذٍ تبقى المرأة على الأصل من إباحة ركوب البحر لها.
قوله - صلى الله عليه وسلم - : « هو الطهور ماؤه » :
(1/22)
الطهور إذا جاء بالفتح ( الطَهور ) فالمراد به الماء بذاته ، وهو الذي يُطهّر المتطهِر به ، وإذا جاء بالضم فالمراد به فعل المتطهِر ، ومثله : الوضوء والغسل ، فإنه إذا جاء بالضم فالمراد حالة الغسل وفعل الغسل وحالة الوضوء وحال الطهارة ، وإذا جاء بالفتح فالمراد به الذي يُغتسل به والذي يُتطهر به والذي يُتوضأ به ، حكاه النووي عن الجمهور .
قوله - صلى الله عليه وسلم - : « هو الطهور ماؤه » :
وهذا كما ذكرنا هو محل إجماع عند أهل العلم ، إلا ما روي من خلاف يسير عند بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، إلا أنه لا يعتد به في مقابل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد روي طهورية ماء البحر عن جماعة من الصحابة عليهم رضوان الله تعالى ونصوا عليه ، منهم أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - كما أخرج ذلك أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه من حديث عبيد الله بن عمر عن عمرو بن دينار عن أبي الطفيل قال : سئل أبو بكر الصديق : أيتوضأ من ماء البحر ؟ فقال : ( هو الطهور ماؤه الحلال ميتته ) ، وروي ذلك أيضاً عن عمر بن الخطاب ، و ابن عباس وابن سيرين والحسن وعكرمة وطاووس وعطاء ، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى طهارة ماء البحر ، ولكنهم جعلوا العذب أولى منه ، وألا يُلجأ إلى التطهر بماء البحر إلا عند فقدان الماء العذب ، وذلك مروي عن سعيد بن المسيب ، وكذلك عن النخعي كما أخرج ابن أبي شيبة من حديث شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال : ( إذا ألجئت إليه فلا بأس ) ، يعني إذا ألجئت إلى التطهر بماء البحر فلا بأس ، مما يشير إلى أنه يرى التطهر بالماء الذي ليس بمالح وإنما هو عذب ، وكذلك روي عن إبراهيم النخعي كما أخرجه ابن أبي شيبة وعبدالرزاق في مصنفيهما عن سفيان عن الزبير بن عدي عن إبراهيم النخعي قال : ( ماء البحر يجزئ ، والعذب أحب إلي منه ) ، إلا أن ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على التساوي بين الماء العذب وماء
(1/23)
البحر ، وأما قول سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي فإنه لا يقابل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقد ذهب كما ذكرنا بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم قلّة ، منهم : عبدالله بن عمر وعبدالله بن عمرو بن العاص عليهم - رضي الله عنهم - ، إلى عدم طهارة ماء البحر وعدم مشروعية التوضؤ به ، فقد أخرج ابن أبي شيبة من حديث شعبة عن قتادة عن عقبة ، قال : سمعت عبدالله بن عمر يقول : ( التيمم أحب إلي من الوضوء من ماء البحر ) ، فعدل عبدالله بن عمر إلى التيمم وهو بدل ، ولا يكون ذلك إلا في فقدان الماء .
(1/24)
ومعلوم أن من تيمم في حال وجود الماء وهو مستطيع قادر على استعماله فإنه حينئذٍ تعتبر طهارته باطلة وتعتبر الصلاة باطلة بالاجماع، إلا لعذر يحمله على التيمم من مرض وبرد ونحو ذلك ، أما إذا كان ليس بمعذور فإنه حينئذً يعد تيممه باطلاً وطهارته باطلة وعليه أن يتوضأ بالماء، فلما عدل عبدالله بن عمر إلى التيمم وترك التطهر بماء البحر ، عُلم أنه لا يرى طهورية ماء البحر ، إلا أن ذلك لا يقابل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك ما روي عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - ، كما أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي من حديث هشام عن قتادة عن أبي أيوب عن عبدالله بن عمرو قال : ( ماء البحر لا يجزئ من وضوء ولا جنابة ، إن تحت البحر نارا ثم ماءٌ ثم نار ) ، وهذا عن عبدالله بن عمرو كما هو عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنه - ، فإنهما لا يريان الإجزاء بماء البحر ، وهذا لا يقابل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد روي ذلك عن أبي هريرة في مصنف ابن أبي شيبة ولا يصح، وعن أبي العالية الرياحي وهو رفيع بن مهران ، كما أخرج ذلك ابن أبي شيبة من حديث أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية أنه ركب البحر فنفذ ماؤه ، فتوضأ بنبيذ وكره أن يتوضأ بماء البحر ، وهو من كبار التابعين عليه رحمة الله ، هذا لا يثبت لحال إسناده .
إذاً فماء البحر طهور والخلاف فيه غير معتبر ، وقد حكى إجماع أهل العلم على طهورية ماء البحر جماعة من أهل العلم ، منهم الحافظ ابن عبدالبر عليه رحمة الله وغيره .
قوله - صلى الله عليه وسلم - : « الحل ميتته » :
(1/25)
أي الحلال ، كما جاء في بعض الروايات عند الدارقطني عليه رحمة الله وغيره من أهل العلم وفي صحة اللفظة نظر، وميتة البحر هي حلال بإجماع أهل العلم ، إلا أن أهل العلم اختلفوا في استثناء بعض ميتة البحر ، فقد قال أبو حنيفة عليه رحمة الله : أن ميتة البحر حلال ، إلا ما كان على صورة حيوان كالكلب أو صورة الآدمي ونحو ذلك ، وذهب الإمام أحمد وهو المشهور عنه عليه رحمة الله : إلى أن ميتة البحر حلال إلا الحية والضفدع والتمساح ، وقال بأن الحية والضفدع هي من المستخبثات وأن التمساح يعد ممن قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه ذو ناب ونهى عنه ، والذي عليه جمهور أهل العلم أن ميتة